الفرق بين مداهنة الباطل، والاستخفاء بالإيمان
اختلاط هذه المناطات سبب مصائب عظمى على الإسلام وأهله، وداهن الناسُ الباطل وخذلوا الإسلام تحت زعم الإكراه، وقالوا الباطل تحت زعم كتمان الحق، فضاعوا وأضاعوا.. والله العاصم.
ومما يختلط على إخواننا وعلى كثير من المسلمين وعلى كثير ممن يزِلّ في أمر مهلك شرعا، هو أنهم لا يفرّقون بين حكمين مختلفين يظنونهما شيئا واحدا، وهما الاستخفاء بالحق ومداهنة الباطل، بينما الإستخفاء بالحق شيء، والمداهنة شيء آخر.
إظهار الحق والإعلان به منوط بالقدرة، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابا ذر أن يستخفي بإيمانه أول ما أسلم، فقد يعرض للمسلم ما يفرض عليه أن يستخفي بالحق؛ فيظهر من الحق بقدر ما يستطيعه.. ولهذا ذكر القرآن العظيم {رجلا يكتم إيمانه}، وذكر رجلا من أقصى القرية يسعى في (يس)؛ كمثال على رجلين كتما إيمانهما زمَنا، ولم يُظهرا إلا ما استطاعا إظهاره.. حتى أدلوا بالحق في موقف فنجّى الله أحدهما واستشهد الآخر.. (فنجا أيضا).
وأما المداهنة فهي إظهار الباطل إرضاء لأهله وحصولا على الدنيا وخروجا من الضغوط، وهو منافٍ للصبر الذي أمر الله به، وهو محرّم تماما {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ*وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 8-9 ]فحرّم تعالى المداهنة ونهى عنها، وإن كان قد عذر من أخفى الحق للعجز عن إظهاره.. وفي المداهنة يتحمل الإنسان وزر ما نطق به بحسب ما نطق، ويتحمل مسؤولية ما قال، ولا عذر له فيما قال أو أظهر أو ما تسبب فيه إضلال أو إيذاء لمسلم في عرضه أو دمه أو ماله أو دينه، أو علوّ لكفر أو ظلم أو باطل.
وأما الإكراه فهو مناط آخر، يخلط بينه وبين المداهنة خلْقٌ كثير؛ فيستجيزون قول الباطل مدّعين الإكراه، بينما الإكراه موقف عابر تحت تهديد محدد، ولا يترتب عليه اتباع الناس لقائله بل يكون موقفا فرديا، ومؤقتا، ولا يترتب عليه ضلالة عامة؛ أما لو ترتب عليه إضلالا عاما للخلق فلا يجوز الترخص ولا تجور الاستجابة للإكراه بل ولو قُتل، ولهذا قال الإمام أحمد (إذا ترخص العالِم فمتى يعلم الجاهل؟).. ولهذا فالعلم ثقيل، وهو عهْد مع الله {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] فهو عهد الله على العلماء.
ومن أهم الأمور بيانا أنه لو ترتب عليه تغيير النِحلة كتنصير المسلمين في الأندلس فلا يجوز الاستجابة للإكراه أبدا، وفيها جاء الحديث «لا تشرك بالله وإن قُتّلت وحُرّقت» (صحيح الترغيب: 570).
فالاستخفاء بالإيمان وكتمان الحق مناط وحالة، يُظهر الإنسان ما يقدر عليه من الحق، لأن التكاليف منوطة بالقدرة، ولكن لا يقول الباطل ولا يتّبع أهله ولا يسوّل للناس اتباعه.
والمداهنة هي مداهنة الباطل ومجاراته وإظهاره ليرضى عنه أهله لينال صاحبه حظا من الدنيا.. وهي محرمة، ويتحمل صاحبه جُرم ما قال وما أظهر وما تسبب فيه.
والإكراه مناط مختلف يجوز الاستجابة فيه للمكرِه بشرط ألا يكون تغييرا للعقيدة والنحلة تتْبعه الأجيال، ولا يسبب ضلالا عاما للناس، ولا يكون في موقف مفاصلة بين الإسلام وأعدائه وينتظر الناس كلمة الحق لاتباعها لمن يظنون فيهم الخير والعلم.
واختلاط هذه المناطات سبب مصائب عظمى على الإسلام وأهله، وداهن الناسُ الباطل وخذلوا الإسلام تحت زعم الإكراه، وقالوا الباطل تحت زعم كتمان الحق، فضاعوا وأضاعوا.. والله العاصم.