صاحب الجنتين 5
الساعة بالنسبة لصاحب الجنتين وأمثاله من الغافلين هي نهاية هذا النعيم الحسي.. فلينكرها إذن.. فليجحد حدوثها.. فلينف وقوعها.. هذا هو الحل الذي تبادر لذهنه القاصر لتدوم جنة الكافر ولا ينتهي سجن المؤمن.. الدنيا.... هذا أفضل له بلا شك.
بعد أن ظلم صاحب الجنتين نفسه بالمعصية وخطى خطوة الغرور وتدنى في دركة الكِبر كان على الشيطان أن يقود صاحب الجنتين إلى خطوة أخرى.. أن يحوِّل الغرور إلى اغترار وأن يطوِّر الكبر إلى أمن من مكر الله.. {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ * قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا} [الكهف: 35].
كانت هذه هي الخطوة التالية:
لقد اغتر صاحب الجنتين بقوته وظن أنه قادر على جنته.. وهذا يكاد أن يكون أصلا مطردا في تعامل ناقصي العقول من المتكبرين مع ما تكبروا به.. أن يظنوا قدرتهم ويركنوا إلى دوام قوتهم.. أو الأصوب أن نقول: إلى توهم قدرتهم وتخيل دوامها.
هذه هي الحقيقة التي لا يلاحظها من ركن لوجود النعمة.. أن تصور دوام النعمة ونسيان أن زوالها آت لا محالة = مجرد وهم.. خيال.. أحلام تنسجها عقول حمقاء تحاول تناسي أن كل نعيم دنيوي هو لا محالة زائل.. الدنيا نفسها زائلة فكيف بمكوناتها.
لأجل ذلك لا يحب أولئك الغافلون الراكنون إلى نعيم الدنيا سيرة الآخرة ولا يطيقون من يذكرهم بها وبحقيقة أنها المآل والمصير.. بل ربما يتطور الأمر ويتمادى الشيطان في خطواته ليصل الأمر إلى تمام الإنكار.. {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً}[الكهف: 36].
هذا في تصوره أفضل بلا شك:
الساعة بالنسبة لصاحب الجنتين وأمثاله من الغافلين هي نهاية هذا النعيم الحسي.. فلينكرها إذن.. فليجحد حدوثها.. فلينف وقوعها.. هذا هو الحل الذي تبادر لذهنه القاصر لتدوم جنة الكافر ولا ينتهي سجن المؤمن.. الدنيا.... هذا أفضل له بلا شك.
وثمة حل آخر تفتق عنه ذهنه المريض بوحي من أستاذه الناري الذي يرسم له خطواته.. {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا}الكهف: 36].
كيف؟.. ولماذا؟.. وما أمارة ذلك؟.. وما الذي قدمه؟ كل ذلك لا يهم.. المهم أن يطمئن وتستمر حالة الركون..
ما دام قد أعطاني في الدنيا فكيف سيحرمني في الأخرى؟
إن وُجدت أخرى أصلا فهذا مشكوك فيه لدى من هم مثله.. لكن من هم مثله يشتركون معه في هذا التصور الإرجائي الأحمق.. ها هو نموذج الكافر في سورة مريم يردد نفس التصور.. {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا} [مريم: 77].. كفر ويزعم أنه سيؤتى الخير.. والتسلسل نفسه وجد في سورة فصلت.. {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَٰذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً}[فصلت: 50].
نفي للساعة ونسب الفضل للنفس:
ثم يأتي دور الإرجاء وحسن ظن أبعد ما يكون عن مسبباته وأصوله الراسخة وأهمها حسن العمل.. {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَىٰ} [فصلت: 50].. ما أحسنه من ظن فقد لو اقترن بعمل.. لكن يقترن بكفر ورغم ذلك يتبجح؟!.. شيء عجاب.. لذا جاء التعليق الختامي.. {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [فصلت 50].
هنا تكلم صاحبه:
تكلم المؤمن.. {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا}. [الكهف: 37].
هل كان الصاحب المؤمن يتدخل فيما لا يعنيه حين ولج حديقة صاحبه المغتر الجاحد وحاوره وسأله؟
هل كان هذا الرجل الصالح متجاوزا وهو يسأل صاحبه هذا السؤال ناصحًا ومنبها إياه من مآلات كلامه ومغبة كبره وعناده؟
هل كان بذلك يزايد على صاحبه كما يحلو للبعض أن يصوروا الدعوة والدعاة والنصح والناصحين؟!
إن موقف هذا الرجل الإيجابي الحريص على النصح والحوار يعد حجة قرآنية دامغة تجعل الرافضين للدعوة والمحتقرين للنصيحة والمهاجمين للتذكير في موقف صعب وتجعل ادعاءاتهم المشيطنة للنصيحة والذكرى في مهب الريح.
فلو أنهم هاجموا ذلك الرجل المؤمن ورفضوا حواره طبقًا لمذهبهم الخبيث فإنهم يرفضون بذلك مثالًا قرآنيًّا بديعًا ورد في سياق المدح والترغيب وحكم ذلك الرفض معلوم طبعًا.
ولو أنهم أقروا أنه مثال يُقتدى به ونموذج يُقتفي أثره كما هو حال تلك النماذج الطيبة في القرآن الكريم لبطلت حجتهم وطاشت شبهتهم ووقعت دعواهم بين شقي الرحى.. رحى المعاني القرآنية المحكمة.
- التصنيف: