خريطة النصر القرآنية

منذ 2017-07-11

خطبة الجمعة لدكتور علي بن عمر بادحدح

الخطبة الأولى
إخوة الإسلام والإيمان

وصية الله سبحانه وتعالى لكم في آيات القرآن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}  [آل عمران: 102].


معاشر المؤمنين

ومضات من مواقف ابتدئ بها استحضاراً لمعايشة الواقع، وننتقل بعدها إلى الصلة الأقوى بكتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، القائد الأعلى لجيش دولة مدججة بالسلاح، مع أسير قد طعن في السن وتجاوز السبعين من عمره، وجاء هذا الحوار، يقول القائد: لماذا تحاربوننا بلا هواده؟ فيقول: من أجل ديني ووطني، هل دار في خلدك أنك بإمكانياتك الضئيلة ستستطيع طردنا من البلاد، قال لا، قال: إذاً فلماذا تحاربنا؟ قال: حربنا لكم فرض علينا، لأنكم مغتصبون لأرضنا {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ}  [آل عمران:126] هكذا إيجاز من القول يدل على يقين راسخ ورؤية واضحة، لا يهولها ضخامة الأعداء ولا كثرة الأعداد ولا هول السلاح ولا بطش الإجرام، كان ذلكم هو الحوار مع الجنرال الإيطالي وعمر المختار شيخ المجاهدين في ليبيا، ويقول هذا القائد في كتاب ذكرياته بعد أن ذكر هذا الموقف، قال يصف انصراف الأسير من أمامه، يقول: كان جبينه وضاءً كأن هالة من نور تحيط به، فارتعش قلبي لجلال الموقف، وأنا الذي خاض المعارك في الحروب العالمية والصحراوية، ولقبت بأسد الصحراء، ورغم هذا فقد كانت شفتاي ترتعشان ولم أستطع أن أنبس ببنت شفه، هذا هو مقياس القوة والثقة الحقيقي، أردت أن أبدأ بصورة معاصرة من تاريخ قريب، حتى لا يقال إن ذلك كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد أصحابه، غير أني أعود مرة أخرى إلى ومضة من سير الصحابة، لنرى أن المنهج واحد، والطريق مسلوك، والمنارات تشع بالنور.

معركة اليرموك كانت من فرائد معارك التاريخ الإنساني، كان فيها نحو ستة وثلاثين من جند المسلمين يواجهون نحو ثلاثمائة ألف أو أربعمائة ألف، وكان هناك حوار ومشورة، وجاء الدور إلى سيف الله المسلول خالد بن الوليد، وكان مؤثراً للصمت فالتفت إليه أبو عبيده قال: ماترى؟ قال رضي الله عنه: أرى والله أنّا إن كنا إنما نقاتل بالكثرة والقوة، فهم أكثر منا وأقوى علينا، وإن كنا إنما نقاتلهم بالله ولله، فما أرى جماعتهم ولو كانوا أهل الأرض جميعاً تغني عنهم شيئاً، وإثر ذلك طلب وعرّض بأن يتولى القيادة، فأعطي سؤله وقاد المسلمين إلى نصر عجيب وفريد.

ليست هذه مواقف شجاعة وحمية، وليست هي بنت لحظتها، إنها ترجمة لصياغة إيمانية، إنها انطلاقة لرؤية عقدية، إنها قوة من استمداد رباني إيماني، نعرفه ولابد أن نعرفه، وهو بين أيدينا اليوم كما هو بين أيدي من سبقنا إلى عهد رسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم، الخارطة واضحة والقواعد مرسومة ومكتوبة وموسومة في شأن النصر، هي بين يدينا في الآيات التي تتلى ونرددها مع قليل من التأمل والتدبر وضعف في اليقين والإيمان، يجعل بيننا وبين النصر مسافة بل مسافات، {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ}  [آل عمران:126]، قالها ذلك الأسير وهو خِلو من كل وسيلة يدفع بها شيئاً عن نفسه، لكنه كان يوقن بذلك ويعلمه، وقضى نحبه دون أن يرى شيئاً من النصر، لكنه قد قال لأعدائه حين حانت وفاته، إن عليكم أن تقاتلوا الجيل الذي نحن فيه والجيل الذي وراءه وأجيالاً بعده، لأنه يعلم أن جذوة الإيمان لاتخبوا في القلوب، وأن نور القرآن لاينطفيء مهما كانت ظلمات الجهل والظلم بحال من الأحوال، {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ}  [آل عمران:126] حقيقة تتأكد في الآيات والمواقف والمشاهد {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ}  [آل عمران:123] بل حتى في مشهد آخر {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ}  [التوبة:25]  كل ذلك يؤكد هذه الحقيقة التي لها تبعاتها التي سأذكرها، لكننا ننتبه الآن إلى أسلوب الحصر والقصر في قوله {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ}  [آل عمران:126] ليس هناك نصر إلا نصر واحد، ولا باب له إلا باب واحد، ولا مصدر إلا مصدر واحد، هو الله جل وعلا سبحانه وتعالى، ومقابل ذلك {إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ}  [آل عمران:160] هل هناك معانٍ أوضح من هذه؟ هل هناك معادلات أشد وضوحاً في طرفيها من هذه؟ {إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْمعادلة واضحة في كفتيها في جانبيها في مقدماتها ونتائجها، في حقائقها وواقعها وشواهدها {وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِقال الطبري رحمه الله: لن يغلبكم أحد مع نصره إياكم، ولو اجتمع عليكم من بين أقطارها من خلقه فلا تهابوا أعداء الله لقلة عددكم وكثرة عددهم، ما كنتم على أمره واستقمتم على طاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الغلبة لكم والظفر دونهم، (وان يخذلكم) قال بخلافكم أمره وترككم طاعته، فيكلكم إلى أنفسكم فيئسوا من نصرة الناس، فإنكم لاتجدون ناصراً من بعد خذلان الله لكم.

تأملوا واقعنا هل حققنا المعادلة المذكورة في قوله {إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ}  [آل عمران:160]   {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}  [محمد:7] هل نصره دينه تجريداً وإخلاصنا في التوحيد وابتعاداً عن البدعة والكفر والشرك، هل أخلصنا في نصر دين الله ولاءً لدينه ولعباده، وبراءً من أعدائه ومحاربيه ومحاربي أولياه، وغير ذلك كثير.

وأمضي بكم لأن الآيات واضحة، لكنني أقف مع جملة من الآيات أرسم بها ثلاث قواعد مهمة في غاية الخطورة لحياتنا، ولمعرفة واقعنا وللنظر إلى مستقبلنا ولقدرتنا لمواجهة عدونا، يقول الحق عزوجل {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ، قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ، زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}  [آل عمران: 14،13،12] وهذا المقياس هو الذي نذكره في هذا السياق.

أولاً: قاعدة مهمة يقينية من سنن الله الماضية {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَفالمصير في الدنيا قبل الآخرة محسوم بقدر الله ومن قدره الماضي وسنته الماضية، وهو القائل سبحانه وتعالى: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}  [الأنفال:36] وهذه القاعدة اليقينية تجعل المرء المؤمن في مواجهة أعدائه ثابت لايتزعزع، مستيقن لايشك، قد لايملك قوة تواجه، قد يموت ويمضي نحبه، لكنه لايترك إيمانه ولاينزع وينزغ عن يقينه.


والثانية: هي المقياس الإيماني باختلاف المنطلق والغاية تختلف النتائج، لكم عبرة في فئتين التقتا، والحديث عن بدر، فئة تقاتل في سبيل وأخرى كافرة، النتيجة أن الله يؤيد بنصره من يشاء وقد أيد القلة وانتصرت، وقد جاء في غزوة بدر ماتعلمون من الآيات وما كان من عدد يضاهي عشرة أضعافه {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً}  [الأنفال:66] فجعل الواحد باثنين {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ}  [البقرة:249] ليس هذا قولاً نقوله ونتلوه ترتيلاً وتجويداً، بل هو حقائق إيمانية لايتطرق إليها الشك عند أهل الإيمان، والصلة بالله، والمستقيمين على أمر الله، والمقتفين لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم الثالثة: وما أدراك ما الثالثة {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِوذكر كل هذه الشهوات ومتع الدنيا لماذا؟ لأن معارك الإيمان لابد فيها من الاستعلاء على الشهوات، والانتصار على الأهواء، وإن لا فإن من يكون مأسوراً لشهواته، مغلوباً بهواه، لايستطيع بحال أن ينتصر على عدوه، لأنه لم ينتصر لأمر ربه، ولم ينتصر لإيمانه ويقينه في قلبه، ولم ينتصر لطاعته واستقامته على شرع ربه سبحانه وتعالى، فذلك أمر واضح وبيّن، ومن هنا البشارة بالنصر ثابتة في السنة الماضية الموجودة في الآيات القرآنية إلى قيام الساعة، والحقيقة الثانية هي نموذج النصر المرتبط بنصر الله عزوجل مطرد في كل زمان ومكان، والحقيقة الثالثة أن الركون إلى الدنيا مقعد عن النهوض إلى نصر دين الله، وحاجب عن النصر والانتصار في مواجهة الأعداء، كما أخبر الحق سبحانه وتعالى  {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}  [التوبة:38] عندما نتأمل وننتبه سوف نجد أن المقياس واضح، وأن الخطة مرسومة، وأن القاعدة ثابتة راسخة، الطاعة والاستقامة وضدها المعصية والمخالفة، {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}، الذلة والافتقار إلى الله يقابلها الغفلة والإعراض عن الله، وعندما نصروا في بدر وصفوا بقول الله {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ}  [آل عمران:123] أذلة لله، رفع المصطفى صلى الله عليه وسلم يديه يدعو ويدعو ويلح حتى سقط رداءه عن منكبه، وجاءه أبوبكر يقول: حسبك يا رسول الله، فإن الله منجز لك ما وعدت، وتنزلت الملائكة، وجاء قوله تعالى {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى}  [الأنفال:17] ليست آيات نرتلها ونجودها، بل حقائق يقينية إيمانية، شهد لها التاريخ، ويشهد لها الواقع، وسيشهد لها المستقبل لأنها كلام الله، الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بحال من الأحوال.

وهذه قواعد مهمة لابد أن ننتبه لها، وثالثة وهو أخطرها مما أحسب أن أمتنا متلبسة به بقدر أكبر من غيره وربما أخطر {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ}  [هود:113] الركون إلى الأعداء، والولاء للأعداء، والخوف خوفاً يمس بالاعتقاد والإيمان من قوة الأعداء، كل ذلك حاجب عن النصر ومانع من قوة المواجهة، ولقد رأينا كيف كان الأمر في حال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما جاءهم هذا التهويل والتخويف في قوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}  [آل عمران: 174،173] هكذا هي الآيات تروي وتقص، وتبين ما كان في الواقع، وهي بعد ذلك تكون أساساً لواقع أخر وهذا ماينبغي أن نتنبه له ونعيش معه، وأن نبقى مرتبطين به بكل أحوالنا، والنصر الذي ورد في القرآن جاء بصور متعددة، حتى نفقه معانيه كلها، قد يكون المعنى فيه هو النصر الحقيقي في ميدان المعركة بانتصار المؤمنين، كما في قوله جل وعلا: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ}  [البقرة:251] هذا انتصار حقيقي في ميدان المعركة، وثمة انتصار آخر هو فشل الأعداء من النيل من أهل الإيمان بما يقدره الله من حماية لهم، هي ضرب نصر واضح كما في قصة نوح عليه السلام لما دعى ربه: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ، فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ}  [القمر:11،10] وجاء الانتصار بأسباب مادية فيها نجاته، وهلاك أولئك القوم من غير معركة.

والثالث: وهو أعجبها وهو الذي إذا تأملنا فيه رأينا أن مايجري في واقعنا ليس بخارج عن سنة الله، وليس بخارج عن هذه القواعد والخارطة للنصر في آيات الله، وهو النصر للمعتقد والمبدأ بالثبات عليه، وإن أزهقت الأرواح، وسفكت الدماء، وقتل الآلاف، وهذا واضح في قصة أصحاب الأخدود، أصحاب الأخدود، قال الغلام: قل بسم الله رب الغلام، فقالها الطاغية الذي عميت بصيرته، فقال الناس في لحظة واحدة: آمنا برب الغلام، وانقلب الأمر رأس على عقب كلهم أصبحوا موصولون بالله، خدت الأخاديد، واشعلت النيران، وتقحموا فيها ماتخلف منهم أحد، حتى الرضيع أنطقه الله لما أشفقت أمه عليه، وكان هذا نصراً بنص كتاب الله، وجاء في الآيات بأنه الفوز الكبير، وجاء ما بعده ليكون نصراً يتحقق ويذال به على أهل الكفر، ولذا قد يعجب المرء من تساؤلات يثيرها الناس أحياناً، والعجب ليس في إثارتها بل في صياغتها، عندما يقولون لك أين نحن من نصر هذه الأمة؟ وهي أمة القرآن، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ماذا يجري في الشام؟ مالذي يجري في العراق وفي بورما وفي فلسطين وفي اليمن وفي كل مكان؟ سبحانك ربي! أنظروا إلى القواعد القرآنية، هل تحقق نصرنا لله حتى ينصرنا؟ وهل نحن في يقين بالصبر واليقين الذي يؤدي إلى النصر والتمكين؟ وهل نحن على استقامة وطاعة؟ وغير ذلك من الولاء للأعداء الذين من بيننا وفي صفوننا وفي مجتمعات أمتنا، من قلبه يخفق بحبهم، وعقله يفكر بمنهجهم، وسلوكه يحاكي طريقتهم، فهو له قلب وقالب آخر، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.

كل آيات النصر ترسم لنا طريقاً واضحاً نحتاج فيه أولاً أن نرجع ونراجع أنفسنا، في حياتنا اليومية، في سلوكياتنا أقوالاً وأفعالاً ونياتاً وعلاقاتاً، حتى نصحح المسار، حتى ننتصر في معركة الهوى ومعركة الشهوة ومعركة الاستقامة ومعركة الولاء، ونكون مهيأين عندما نواجه الأعداء وتواجه أمتنا وهي اليوم تواجه أعدائها، ولها صور مشرقة من الثبات والنصر حتى لاتقولوا إنها يكال لها الموت ويصب عليها في كل مكان، أقول لو أننا نظرنا بالنظر المادي لكانت كل ساحات القتال اليوم قد رفعت رايات الاستسلام، وركنت إلى دنياها وخافت، لكننا نراها بحمد الله رغم كل البلاء والعناء ثابتة على الأرض بأقدامها، وثابتة على الإيمان بقلوبها ويقينها، وثابتة في وعد الله نسمعه في أقوالها، فنسأل الله عزوجل أن يتم على أمتنا نعمته، وينزل عليها نصره، ويهيئ لها أسباب العزة والغلبة والنصر والتمكين، إنه جل وعلا ولي ذلك والقادر عليه، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية
معاشر المؤمنين

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإنها أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وما أشرت إليه في هذا السياق قد يظن بعضنا أنه بعيد عما يتعلق بالحديث إلى المرابطين على حدودنا في الجنوب، أو المجاهدين في بلاد الشام، أو المقاتلين المجاهدين في فلسطين أو غيرها، وهذا حق، ولكنه يمسنا ويخصنا ويباشرنا في كل حركاتنا وسكناتنا ومسيرة حياتنا كما أشرت من قبل، لكنني هنا أريد أن أبين تأكيداً بالربط بالواقع، لاتخشوا شيئاً مادامت المعركة بين حق صارخ واضح، وبين باطل جائر ظالم، قد تكون لهذا جولة وقد تكون له ثانية، لكن العاقبة لن تكون له، وهنا نرى التمايز، نرى الفرق بين ما هو مذكور في آيات الله في الوجهة والغاية {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ}  [آل عمران:13] حتى وإن مضى من يمضي فهو شهيد عند الله عزوجل، ولذا لهم إحدى الحسنيين إما النصر وإما الشهادة، مرابطون أو مجاهدون أو حتى من المدنيين الذين لايحاربون من نساء وأطفال، نعم هناك مآسٍ كثيرة، لكن انتبهوا إلى أمر مهم، لم كل هذه الساحات مشتعلة على رقعة الكرة الأرضية كلها مصبوبة على أهل الإسلام، وأهل الإسلام هم أهل السنة، لم؟ لماذا؟ لأن لهم قوة يخشون منها، ولأن عندهم قدرة على استئناف قوتهم ونهضتهم، بكتاب محفوظ لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ورسول معصوم سيرته كالشمس في رابعة النهار، وخلافة راشدة لها معالم واضحة، وقرون خيّرة مفضلة في الأمة لها معالم من الرشد والهدى، وطائفة على الحق في كل زمان ومكان لاتنقطع، تبث في الأمة الأمل، وتجدد فيها العزم، وتقيم الحجة على المتخاذلين، وتبرز قوة هذا الإيمان والإسلام في قلوب أبنائه وأصحابه، وتجديد الدين لهذه الأمة من وعد الله الثابت بحديث رسوله صلى الله عليه وسلم، لذا هم يحاربون هذه الأمة، لأنهم لا كتاب لهم أو قد حرفت كتبهم، مساجدهم لا تمتليء كمساجدنا، قرآنهم أو أناجيلهم لاتتلى كقرآننا، واستقامتهم حتى مع ضعفنا ومع كثير من معاصينا لاتبلغ معشار معشارنا، لكنها سنة الله التي يذيقنا بها البلاء، حتى يميز الخبيث من الطيب، حتى يردنا إليه رداً جميلاً، حتى يفتقر إليه الافتقار الذي يصدق فيه التوكل عليه سبحانه وتعالى، وصدق الالتجاء له جل وعلا، ومن هنا ربما رأينا ونسمع ولسنا نقول القول جزافاً ولا نرمي بالغيب، لكننا رأينا ومضات كثيرة بفضل الله عزوجل ومضة حلب وما جرى فيها، ومضة مشرقة أنّ لقلة قليلة ليس عندها من العتاد إلا ما تعلمون، مع قوة أخرى مضادة تفر بعد ذلك في وقت قصير، وتضطرب أمورها، ونسأل الله عزوجل أن يتمم خذلانهم وهزيمتهم إلى آخرها، لكننا نقول انظروا إلى كل ذلك، انظروا إلى من يحتسب رباطه دفاعاً عن بلاد الحرمين، ويمضي الواحد تلو الواحد منهم شهداء للإجرام والغدر الذي يحصل من أولئك الأعداء، وانظروا إلى ساحة فلسطين وهي على رباط وفي جهاد منذ أكثر من سبعين عاماً، وانظروا إلى كل ذلك ففيه خير كثير وإشراقات وإيمان عظيمة، لاينبغي أن ننظر إلى صورة كأنما أمتنا في الدرك الأسفل، بل فيها اليوم بشائر خير وانبعاث خير وبدايات خير، في أجيالها في ساحات الابتلاء وفي خارجها من فضل الله عزوجل، فأملوا في الله، ولكن الأمل يحتاج إلى عمل، وثقوا بالله، ولكنكم تحتاجون أن تأخذوا بقول الله: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}  [الأنفال:60] قوة إيمان قوة وحدة وائتلاف قوة منهج وتمسك قوة سلاح وأسباب، كل ذلك مطلوب، وثقوا بأن الصفحة ستطوى، والزمن في هذا الاتجاه وإن طال قليلاً هو زمن قصير في عمر الأمم والشعوب، وقد أسلفت لكم وسأختم بهذا، أن أمتنا عندما كسرت كثرة عظيمة ليس لها في تاريخها مثلها في ضخامتها، عند سقوط الخلافة العباسية في بغداد عام 656هـ من قبل التتار المغول، بعد أقل من عامين استطاع المسلمون أن ينتصروا بصرخة وإسلاماه، وبجند انطلقوا لنصر دين الله عزوجل، فكان ذلك النصر العظيم في عين جالوت، وغير ذلك كثير وكثير في تاريخنا.

عظموا اليقين بوعد الله، وافهموا بعمق سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه وفي كونه من آيات القرآن، واحرصوا على المراجعة والأوبة والتوبة، فإن ذلك مبعث لتحرك نحو خارطة النصر إلى نهايتها، ونحو قواعد النصر إلى بنائه المكتمل، وما ذلك على الله بعزيز، وإن نصر الله سبحانه وتعالى لقريب.

فنسأل الله عزوجل أن يسوق لأمتنا من الخير أعظمه، ومن البر أحسنه، ومن اللطف أوفره، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وأمة محمد بكتابها مستمسكه، ولهدي نبيها صلى الله عليه وسلم متبعة، ولآثار السلف الصالح مقتفية، ولحقيقة الإيمان ولاءً وبراءً وصدقاً وإخلاصاً لله سبحانه وتعالى آخذة ومعتبرة

علي بن عمر بادحدح

أستاذ بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة الملك عبد العزيز بالسعودية

  • 2
  • 0
  • 17,146

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً