كيف يعلمن الاسلام؟ زواج المسلمة من الكافر انموذجا!
العلمانية في الشأن السياسي لا تفرض على أحدٍ فعل الفاحشة ولا شرب الخمر ولا فعل أي منكر يعتقد تحريمه، إنما تمنعه من أن يفرض معتقداته على الجميع، فيحرّم عليهم ما لا يريدون أو ما لا يعتقدون تحريمه.
بسم الله الرحمن الرحيم
بعث إلي أحد الأصدقاء مقطعاً لشخصية قيادية معروفة يتحدث فيها عن مشروع قانون إقرار زواج المسلمة من غير المسلم، يقول ما فحواه:
إن زواج المسلمة من الكافر معلوم حكمه في الإسلام، لكنه يبقى اختياراً شخصياً للمرأة، وهو من حقوقها التي لا تتدخل فيه الدولة، فلا إشكال عنده في وجود قانون يسوغ مثل هذا الزواج، بل ويرى أصلاً أن قانون المنع من هذا الزواج لا حاجة إليه، لأن القضية متعلقة بجانب حرية الضمير والاعتقاد.
ليست هذه المرة الأولى التي اطلع فيها على مثل هذا المخرج، فلقد سبق أن قرأته كثيراً في مواضع ومواقف مختلفة، هو مخرج مريح يجتمع عنده بعض من عندهم انتماء للإسلام، ولهم تاريخ في الدعوة والعمل، يسعى من خلاله للتوفيق بين حكم الشريعة القطعي في تحريم هذا الأمر، وبين ضغط الليبرالية المعاصرة.
ونحن هنا يجب أن نميز بين فريقين يتفقان في النتيجة ولكنهما يفكران بشكل مختلف:
الفريق الأول:
من يتحدث في مثل موضوع زواج المسلمة من الكافر بطريقة: أن هذا نموذج للاستنارة الثقافية التي تعطي المرأة حقوقها، وتخلصها من نير الاستبداد، وتحررها من الرجعية والتخلف، وتعطينا حرية للعقل، الخ هذا الموّال المحفوظ الذي تعرفون.
فهؤلاء ليس لنا معهم حديث في مثل هذه المقالة، فهم قوم لا يرفعون بالإسلام رأساً، ورضوا لأنفسهم بالتبعية الثقافية العمياء للنموذج الغربي، وتأثيرهم –بحمد الله- على المجتمعات المسلمة في حكم العدم.
الفريق الثاني:
من يعلن أنه هذا محرم، ومخالف للشريعة، ويعلن أنه لا يرضى به، وينصح الناس بعدم ارتكابه، لكنه يقول أنا لا أتدخل في منعه، فالنظام ليس من حقه أن يتدخل في مثل هذه الموضوعات، لأنه من الحقوق المكفولة للمرأة، وربما لا يجرؤ بعضهم على النطق بكلمة (حقوق)، لكن حقيقة قوله بعدم التدخل يعني أنها حق من الحقوق.
فالفريق الثاني –بكل اختصار- يقول لك:
أنا أعرف أن هذا حرام، لكن كونه حراماً لا يعني منعه، ولا ينفي كونه حقاً من حقوق الإنسان يكفله الدستور ويحميه النظام، فالزواج من الكافر حرام ويعاقب عليه في الآخرة، لكنه حق من حقوق المرأة في الدنيا، فثم فرق بين الحكم الديني والحكم الدنيوي.
دعونا قبل أن نناقش هذا المخرج نسأل أنفسنا:
ما هي العلمانية؟
لنتجاوز المقدمات وندخل في عمق المعنى، فالعلمانية تعني إقامة نظام سياسي وقانوني لا يعتمد الدين مرجعية ملزمة له، فالدين خيار محترم لشخص أو جماعة، ولهم حرية التعبد والتدين، ويمكنهم الالتزام بقيود دينهم ولكن في محيطهم الخاص دون أن يكون هذا حكماً عاماً على جميع الناس ممن لا يرتضون دينهم.
فالعلمانية في الشأن السياسي لا تفرض على أحدٍ فعل الفاحشة ولا شرب الخمر ولا فعل أي منكر يعتقد تحريمه، إنما تمنعه من أن يفرض معتقداته على الجميع، فيحرّم عليهم ما لا يريدون أو ما لا يعتقدون تحريمه.
حسناً، هل لحظتم معي الآن ما الذي حدث؟
فمن يقول: هو محرم شرعاً لكنه حق من حقوقها، هو في الحقيقة يعيد إنتاج العلمانية لكن بأسلوب آخر، فهو يجعل المحرمات الشرعية حقوقاً دستورية يحفظها النظام ويغرس في المجتمعات صيانتها وتتربى الأجيال على احترام حق الناس فيها، لا تريد العلمانية من الشخص شيئاً أكثر من هذا.
فوآسفاه.. بعد أن قضى الشخص سنوات من عمره في الدعوة إلى تحكيم الشريعة وإقامة أحكام الإسلام، وخطب وكتب وحاضر دفاعاً عن أحكام الإسلام وبياناً لخطر العلمانية، وربما شابت رؤوس بعضهم في هذا المضمار، وتعرض لأشد أنواع الابتلاءات، فلما طال عليهم الأمد عاد فرفع ذات الراية التي كان يحاربها بعد أن غير اسمها، فأصبح المحرم القطعي من أحكام دين الله حقاً من حقوق الإنسان التي يجب أن يكفله القانون!
التلفيق من جهة واحدة!
مشكلة هذا النمط من التفكير أنه يتوهم أن بإمكانه التوسط أو التلفيق بين إيمانه بالإسلام وتحكيمه للشريعة وانتمائه للمنهج الإسلامي، وبين مفاهيم الليبرالية المعاصرة، وليت مشروع التلفيق هذا نشأ عنه منطقة وسط، تتخلص من بعض أحكام الإسلام ومن بعض أحكام الليبرالية والعلمانية المعاصرة، لكنها للأسف ليس منطقة في الوسط، بل هي تتحرك في حدود المتاح والسائغ من الفكر العلماني والليبرالي، فمجرد قناعاتك الخاصة بحرمة شيء لا يؤثر على التزامك بالفكر العلماني ما دام أن قناعاتك بقيت في المحيط الخاص بك، وأصبحتَ في المحيط العام مقرراً لذات المفاهيم العلمانية من كفالة النظام للحقوق مهما كانت مصادمة لضروريات الشريعة.
فحقيقة هذا النمط من التفكير أنه علمنة للإسلام، تقدم فيه أحكام الشريعة على وفق النموذج العلماني، وفي حدود شروطه، وبما لا يخالف أصوله.
البراهين الشرعية:
دعونا بعد ذلك ندخل في البرهنة الشرعية على فساد مثل هذا النمط من التفكير، ونجيب عن السؤال الذي قد يثار في أذهان بعض الشباب والفتيات، وهو:
أن من يقرر مثل هذا المعنى: لم يقل أنا أبيح الزواج من الكافر، بل هو ممن يصرح بتحريمها، وأن صاحبها معرض للعقاب في الآخرة، غاية ما عنده أنه يرفض تدخل النظام في هذه القضية، فما الإشكال الشرعي في ذلك؟
الحقيقة أن هذا مصادم لقطعيات الشريعة، فالحكم القطعي ليس متعلقاً فقط بكونك تعتقد بحرمة الزنا، وحرمة الخمر، وحرمة سب الله وسب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا في التزامك الشخصي بهذا الحكم وعدم مخالفتك له، بل ومن القطعي في الشريعة أن هذه المحرمات يجب منعها، والأدلة على ذلك كثيرة، سأسوق أصولها باختصار:
الأصل الأول:
الأدلة الشرعية التي جاءت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي كثيرة، ومتعددة، كقوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} .
وقد فصل النبي صلى الله عليه وسلم درجات الإنكار فقال كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
فهذا أصل قطعي في التعامل مع هذه المحرمات، فمن يكتفي بمجرد اعتقاد التحريم فهو ينقض هذا الأصل بالكلية، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوم على منع المنكر وإزالته وليس مجرد قناعة قلبية بتحريمه.
ولهذا جاءت النصوص الكثيرة في آثار ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى ذاماً بني إسرائيل: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } .
وقال سبحانه مبيناً خطورة ترك القيام بواجب الإصلاح: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} .
وفي الصحيحين سألت أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث».
ولا يمكن السلامة من الوعيد الشرعي على شيوع المنكرات بمجرد الاعتقاد القلبي بحرمتها.
قد يعترض هنا واحد من أصحاب هذا الفريق فيقول:
نحن لا نلغي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بالعكس، نحن نعزز حرية ذلك، فنكفل للشخص حرية أن ينصح من يرى أنه أخطأ، فبإمكانك أن تنصح المرأة بأن لا تتزوج، بل ولا إشكال أن تبين لها حرمة ذلك في الإسلام.
هذا الاعتراض يتوهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتوقف عند سقف الأمر باللسان، ولا يتعلق بحكم ونظام وإلزام، فهو كما ذكرنا يعيد تفسير الشريعة وفق الإطار العلماني، فبما أن العلمانية لا تمانع في الجملة من النصح، تبع ذلك تفسير هذه الشعيرة على هذا النحو، وإلا فهو بعيد جداً عن حقيقة هذه الشعيرة، وما اتفق عليه المسلمون جميعاً.
1-فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مفهوماً سائباً يفسره كل أحد بحسب مزاجه، بل هو مفهوم شرعي ظاهر، وقد شرح النبي صلى الله عليه وسلم شرح درجات الإنكار في الحديث الصحيح بأنه يشتمل على التغيير باليد ثم اللسان ثم القلب، فالنصح درجة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكنه ليس هو الدرجة الوحيدة.
2-كما أن في نصوص الكتاب والسنة وعيد على إشاعة المنكرات والمظالم، ولا يمكن السلامة من هذا الوعيد وتحقيق مراد الله تعالى بمجرد النصح مع إشاعة هذه الموبقات وحفظها بالقانون وتربية الأجيال على احترامها.
3-وقد أثنى الله على هذه الأمة بهذه الشعيرة {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}. وكلنا نعرف أن هذه الأمة لم تكن تقتصر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على اللسان فقط.
4-كما أن الله ميز هذه الأمة وفضلها بهذه الشعيرة، وليس في مجرد الكلام باللسان ما يقتضي مثل هذا التفضيل العظيم.
5-وفي شواهد سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده ما لا يحصى مما يقطع معه المسلم من أن فهمهم لهذه الشعيرة لم يكن مقتصراً فقط على اللسان.
6-يضاف لذلك: أن في أحكام الإسلام ولايات وقضاء وحسبة، وكلها تقوم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو كانت هذه الشعيرة مجرد نصح باللسان لما كان ثم حاجة ولا إمكان لقيام مثل هذه الولايات.
7- كما أن الشريعة فرضت عقوبات هي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فهذه شواهد مختصرة تكشف أنه لا يمكن تفسير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأنه مجرد نصح باللسان، ولن تجد لذلك أي وجه شرعي مقبول مهما كان ضعيفاً، ولا أي قول فقهي مهما كان شاذاً ومنكراً، فهي محاولة لتقزيم هذه الشعيرة وتقطيعها حتى تخرج منسجمة مع المقاييس العلمانية.
النصح المفقود:
والواقع: أنه من يتبنى هذا المنظور العلماني لن يكون صادقاً أصلاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلسانه، فهما متلازمان في الحقيقة، فمن سينصح المسلمات على ترك الزواج من الكفار ويذكرهم بحرمة ذلك وأنه سفاح محرم ومصادم لقطعيات الشريعة، لا يمكن أن يكون مثل هذا معارضاً لمنع هذا الجرم والحيلولة بين بعض النفوس الضعيفة وبين الوقوع في حمأته، وأما من يقزم هذه الشعيرة ويجعلها مقتصرة على اللسان فقط، فهو في الحقيقة لن ينصح ولن يأمر، والواقع خير شاهد، فمثل هؤلاء الناس الذي يكررون مثل هذه الاطلاقات هم من أعجز الناس عن النصح فيها، بل هم يقولون هذه حقوق للنساء، فبأي وجه أصلاً ينصح المرأة في أمر هو من حقوقها!
ولهذا تجد أن اللغة تسير هنا على طريقة: لك الحق أن تنصح.
لك الحق! يعني هو خيار لك، يعني كما لك أن تأكل وتشرب وتنام وتسافر وتقضي أوقاتاً سعيدة في أي مكان، لك أن تأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتحولت هذه الشعيرة إلى شأن شخصي من شؤون المباحات، وهذا من آثار تفسير الأحكام الشريعة وفق المتاح من الفكر العلماني.
وأرجو أن لا يعترض أحد بأن التغيير متعلق بالسلطة مثلاً أو بحال القدرة أو بما لا يترتب عليه مفسدة أعظم، لأن خلافنا مع هذا الفريق ليس في شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس في الحدود أو الضوابط، بل في حقيقته ومفهومه.
هذا ما يتعلق بالأصل الأول الذي يدل على المنهج الشرعي في التعامل مع المحرمات القطعية، وأنه لا يكفي فيها مجرد الاعتقاد القلبي.
نواصل بعد ذلك عرض بقية الأصول باختصار:
الأصل الثاني:
قاعدة الطاعة في المعروف، كما في الصحيحين: «إنما الطاعة في المعروف».
فالطاعة في الشريعة لأي أحد له حق طاعة، سواء أكان أميراً أم زوجاً أم والداً أم غيرهم هو مشروط بطاعة الله تعالى، فما كان محرماً فلا طاعة فيه.
وهذا يعني أن القوانين المحرمة لا اعتبار لها ولا طاعة، فلا يكفي مجرد أن تعتقد بقلبك أن هذا القانون محرم، بل يجب إلغاء أثره وعدم الالتزام به، فالقوانين محكومة بالشرع، وليس الشرع محكوماً بهذه القوانين المخالفة، فإذا جاء قانون مخالف للشرع فلا اعتبار له، وهذا النمط من التفكير قلب القاعدة فجعل العبرة بالقانون وأما الشرع فمجرد قناعة قلبية!
فالقاعدة في الشريعة أنه يجب التحاكم إليها كما قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وقال سبحانه: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، وليس أن يكون الحكم إلى غيرها!
الأصل الثالث:
قاعدة إلغاء مشروعية السلطة التي ترتكب كفراً بواحاً.
كما في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه. فقال: فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان).
ومنه أجمع العلماء على عدم مشروعية سلطة الحاكم الكافر.
ووجه الدلالة هنا: أن الكفر موجب – بشروطه- للخروج على السلطة ولا يعتد بها، فالأمر ليس مجرد قناعة قلبية أن تعتقد أن هذا كفر ويكفي، بل إلغاء لمشروعية السلطة بأكملها.
الأصل الرابع: العقوبات الشرعية.
فالشريعة لم تكتفِ بمجرد المنع والتحريم، بل أتبعت ذلك بمشروعية العقوبات على هذه المنكرات والموبقات، منها ما نصت على عقوبته في باب الحدود كحد الزنا والخمر والقذف والسرقة والحرابة، ومنها ما لم تحدد عقوبته وإنما يكون ذلك من جنس التعزير الذي اتفق الفقهاء كافة على مشروعيته في المعاصي التي لا حد فيها ولا كفارة.
فالأمر تجاوز مجرد المنع إلى فرض العقوبة، ومن يكتفي بمجرد الاعتقاد لا يمكن أن يفهم شريعة توجب عقوبة.
وحتى تدرك عمق الهوة بين أحكام الإسلام ومثل هذا النمط من التفكير، لاحظ أن زواج المسلمة من الكافر هو محرم شرعاً باتفاق المسلمين، فهو علاقة سفاح في الشرع، بل هو أشد من ذلك، لأن الزنا يفعله الشخص بهوى وشهوة، أما العلاقة هنا فقد تجاوزت مجرد ارتكاب الفاحشة إلى المجاهرة بها، بل واستحلالها، ومعاملة ما حرمه الشارع معاملة المشروع، ومساواته بما أباح الله، فالقضية أشد بكثير من مجرد فعل الفاحشة، فكيف يتوهم مسلم أنه يكفي فقط أن تعتقد حرمة هذا الشيء ولك بعد هذا أن تعتقد بأن هذا من حقوقهم القانونية التي يجب أن يكفلها القضاء ويربى على احترامها الناس وينشأ على مراعاتها الصغار!
حقيقة.. أنا مضطر أن اختصر في عرض هذه الدلائل لأمرين:
1-أن هذه من القضايا القطعية التي يسلم بها جمهور المسلمين فلا تحتاج لكل هذا الاسهاب، فتوضيح الواضحات ليس حكيماً.
2-أن الدلائل عليه كثيرة جداً، فأنت تريد التأصيل لأمر قطعي في الاسلام، فعندك ما يشق حصره من الدلائل.
تحصل إذن أن المحرمات الشرعية كالفواحش والخمور والقتل والمظالم لا يكفي فيها أن تعتقد تحريمها، فالظن أنه يكفي أن تعتقد بتحريمها ولا يضرك بعد هذا قبولك لها في النظام العام هو تفكير علماني خالص لا يمكن أن يفهم في السياق الإسلامي.
دعني فقط أقول لك شيئاً هنا..
هذه الطريقة أعني طريقة: هو محرم في اعتقادي لكن لا أتدخل في منعه، لا تستعمل للأسف إلا مع الأحكام الشرعية المحضة كمثل قضيتنا هذه.
لن تجد أحداً يقول: الظلم حرام لكن لا أتدخل في منعه!
أو العبث بالمال العام حرام فعلاً، لكن لا يحق المطالبة بالتدخل!
أو إن الشورى هي من أحكام الإسلام لكن النظام ليس له علاقة بتطبيق ذلك!
لا أحد يقول هذا، لأن الخلل فيه ظاهر يدركه الشخص بأدنى مستوى تفكير، لهذا تجدهم حين يستدلون بأدلة القرآن والسنة على ما يوافق أهواءهم لا يعرضها أحد منهم على أن المطلوب منك أن تعتقد فقط، بل يستدل بها على أنها قوانين ونظم ملزمة يجب تطبيقها.
الجمع بين الاعتقاد الشرعي والاعتقاد الليبرالي:
لعلك أيضاً أن تلحظ أنني أكرر: لا يكفي أن تعتقد بحرمة الزنا والخمر.
والحقيقة أن مشكلة هذا النمط من التفكير ليس أنه اقتصر على بعض الشرع وبقي عليه أن يكمل الباقي.
إنما هو للأسف يعتقد بخلاف الشرع، فهو لا يقول هذا محرم لكن لا أسمح للدولة أن تتدخل فقط، وإنما يقول هذه المحرمات حق من حقوق الإنسان، ويجب على النظام أن يكفلها، فحقيقة أمره ليس تركاً لما يجب عليه اعتقاده، بل هو يعتقد ما يصادمها.
فهو يعتقد تحريم الفاحشة، لكن في نفس الوقت يعتقد أنها حق من حقوق الإنسان!
وهم عدم تدخل الدولة:
وهنا نستطرد قليلاً لنكشف عن إشكال علمي يتكرر، وهو:
أن السبب الحقيقي ليس متعلقاً بعدم تدخل الدولة، بحيث أنهم يرفضون تدخل الدولة مطلقاً، وبناءً عليه يرفضون تدخلها في مثل الزواج بغير المسلم.
فالواقع أن تدخل النظام موجود هنا، وهو يقر هذا التدخل، ويدعو إليه وينصره، ويراه حقاً من حقوق الإنسان، فالنظام لا يترك الناس هكذا بلا تدخل، بل هو يفرض القوانين، ويلزم به القضاة، وتحميه السلطة التنفيذية، ويعاقب من يخالف أحكامه.
فالقضية في الحقيقة ليست بين تدخل النظام أو عدم تدخله، وإنما هو يرفض تدخل الدولة في تطبيق ما حرمه الله، ويدعو لتطبيق الدولة وتدخلها في فرض العلمانية!
وهذه من الحيل الشائعة عند مسوقي الليبرالية، وهو أن يصور الليبرالية وكأنها وعاء محايد، يقول أنا لا اتدخل، فيبدو جميلاً في التسويق الإعلامي للأفكار أن تقول: إن دوري فقط عدم التدخل، فيكون دورا ًمحايداً لا يفرض فكره، وهذا أسلوب تسويقي يروج في وسائل الإعلام ويؤثر على ذوي الثقافة السطحية، لكنه لا ينطلي على المطلع، فالدولة ليست كياناً محايداً، فعدم التدخل في حقيقته هو فرض لنظام، وقوانين، وحكم، وعقوبات.
خلاصة الأمر:
أن من يقول عن القوانين التي تصادم بفجاجة شريعة الإسلام فتحلل ما حرم الله، وتغير الحدود التي وضعها الله، من يقول: هي حرام دينياً أو في الحكم الأخروي أو في الاعتقاد القلبي لكننا لا نتدخل في منعها، أو ليس للدولة سلطة التدخل، على أي عبارة صاغ فيها مثل هذا المعنى، هو في الحقيقة يعيد إنتاج العلمانية التي كان يحاربها، فالعلمانية في الشأن السياسي تعني تحييد الدين بأن يبقى قناعات قلبية ومعتقدات ذاتية وسلوكيات في الشأن الخاص لكن لا علاقة لها بالنظام العام، وهذا بالضبط ما يقرره مثل هذا النمط من التفكير، فما أدري علامَ العداء والحرب على العلمانية إذن؟
بل أنا أعرف ما السبب!
وهو أن الجيل المعاصر نشأ وهو يرى الدعاة والمشايخ وقادة العمل الإسلامي في كل مكان وهم يذمون العلمانية، ويكفرونها، ويشتدون في ذمها، ويستقصون في إظهار عيوبها، وبيان مصادمتها لأحكام الإسلام، فأصبح النفور من العلمانية عميقاً في جيلٍ نشأ وهو يحمل نحوها كل هذا العداء والرفض، وغُذِّي من نشأته بالدعوة لتحكيم الشريعة والحكم بالإسلام وبيان فضله وعدله والرحمة فيه، ففي مثل هذا الوضع تجد من الحرج الشديد والمأزق الكبير أن ترجع القهقرى فتقول للشباب والفتيات: العلمانية لا بأس بها!
فالمنهج العلمي والأخلاقي والتربوي لمن يريد أن يعتنق العلمانية أن يعلن ذلك بوضوح ويعترف بخطئه في رفض ذلك من قبل، أو يبين لنا ما الفرق بين ما يقرره وبين العلمانية.
ولست بحاجة لأن أعيد أننا هنا لا نتحدث عن مسألة فقهية جرى فيها خلاف، ولا حتى مسألة فقهية فيها إجماع ظني، ولا حتى عن مسألة قطعية أخطأ فيها أحد لاجتهاد أو تقصير، نحن نتحدث عن قضية قطعية قرآنية بينة، لا تخفى على عامة المسلمين، متعلقة بأساس الحكم بالشريعة، وتمس أساس التصور الإسلامي.
كما أننا نتحدث عن التأصيل الشرعي لها، فلسنا أمام واقع ضرورة أو مزاحمة بين مصالح ومفاسد مما يراعى فيه اختلاف الأحوال أو تتفاوت في تقديره الأفهام، بل أمام تأصيل كلي يقرر مصادمة صريحة لمفاهيم الإسلام.
كلمة ختامية:
إن الحديث في هذه الأحكام حديث في الدين، وكلام في الرسالة، وقد قرن الله الكلام بغير علم مع أعظم المنكرات: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .
وإن المسلم ليرتعد خوفاً من الخوض في الفتيا في تفصيلات الحلال والحرام التي تحتمل خلافاً، والدلائل عليها محتملة، فكيف بالعبث في الأصول والقطعيات.
إن العبث بأحكام الشرع جرم كبير، ويزداد خطره وإشكالاته إذا صدر ممن له سابقة علم أو دعوة أو نصرة للشرع، فتمرر من خلاله مثل هذه الموبقات، وسابقته في الخير والدعوة لا تعفيه من إثم المساهمة في تحريف الشريعة، بل يجب أن تزيده مسؤولية وحرصاً.
وواقع الحال أن تديُّن المجتمعات المسلمة وتعظيمها للدين فرض على المفسدين ضرورة تمرير هذه المصادمات القطعية للشريعة عبر أسماء ووجوه مقبولة مجتمعياً، فيا بؤس من جعل نفسه مطية لتمرير هذه الانحرافات، ويا خسارة من استفاد من تاريخه الدعوي أو العلمي الذي اكتسب به سمعة حسنة وقبولاً مجتمعياً في تمرير مصادمات للشريعة بحثاً عن مكسب صغير هنا أو هناك، مهما تأول فيها وتأول: { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۙ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} .
(ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً).