كتاب (واقعنا المعاصر) لمحمد قطب رحمه الله تعالى
يجب أن يستقر في أذهاننا بوضوح كذلك أنه لا يمكن القضاء على التطرف إلا بإزالة أسبابه الحقيقية الدافعة إليه. أي استجابة الحكام لأمر الله لهم أن يحكموا بما أنزل الله، أو – في أقل القليل – الكف عن المعاملة الوحشية التي يعاملون بها الذين يطالبون بتحكيم شريعة الله.
شهدت فترة السبعينات الميلادية انحسار المدّ الناصري في مصر، وإعادة تأسيس جماعة الإخوان المسلمين بعد الضربات التي تلقتها في الفترة الناصريّة.
ومؤلف هذا الكتاب هو أحد الذين اعتقلوا في السجن الحربي سنة 1954م، وعُذِّب، ثم أُفرج عنه، ثم أُعيد اعتقاله سنة 1965م، وبقي مُعتقلاً مُدَّة ست سنوات، وأُشيع في تلك الفترة خبر مقتله، ثم أُفرج عنه بعد زوال الحقبة الناصرية سنة 1971م، وسافر بعدها إلى الحجاز، وعمل مدرّساً في جامعة أم القرى بمكة المكرمة[2].
ومع أن المُؤلِّف لم يُذكَر له دورٌ في التأسيس الثاني لجماعة الإخوان المسلمين في مصر في السبعينات؛ إذ إنه غادر مصر بعد أشهر من خروجه من السجن، إلا أن عودة العمل المتصل بجماعة الإخوان المسلمين (والذي قد يسمى التأسيس الثاني للجماعة)، كان باعثاً للمؤلف للمساهمة النظرية في الإجابة عن الأسئلة التي كانت متداولة لدى ذلك الجيل من الشباب، فكتب هذا الكتاب الذي بين أيدينا، وسمّاه (واقعنا المعاصر)، وذلك سنة 1986م.
يقول المؤلف في مقدمة كتابه: (وقد أردتُ بمحاولتي تلك الرد على تساؤلات الشباب المتطلع إلى تحقيق الإسلام في عالم الواقع: لماذا طالت المسيرة؟ لماذا تأخر التمكين؟ ما منهج الدعوة؟ ما الطريق الصحيح؟) (ص13).
ويقول المؤلف واصفاً ذلك الجيل من الشباب الذي كان مستهدفاً بكتابه هذا: (معظم الشباب المُقبِل على الدعوة اليوم لم يتربَّ في داخل جماعة واحدة ذات قيادة منظمة، لغياب القيادات العاملة داخل السجون والمعتقلات...) (ص436)، وهذا الوصف ينطبق على ذلك الجيل من الشباب الذي نشأ في فترة غياب قيادات جماعة الإخوان في سجون جمال عبد الناصر.
فالغاية من تأليف هذا الكتاب إذاً هي تلبية الاحتياجات الفكرية لذلك الجيل من الشباب[3].
والاحتياجات الفكرية لذلك الجيل من الشباب التي يقصد المؤلف تلبيتها نستطيع أن نقول إنها كلها من متعلقات سؤال: كيف نُقيم الدولة الإسلامية؟ الذي يصفه المؤلف بقوله: (السؤال الذي ينبغي أن يكون ملء تفكيرنا في اللحظة الحاضرة) (ص473). وهذا السؤال يرى المؤلف أن دعوة الأستاذ حسن البنا أساساً كانت تقصد الإجابة عنه عمليّاً: (لقد كان الضياع الذي أحسه المسلمون بعد الإطاحة بالخلافة والحزن البالغ الذي أصاب العالم الإسلامي والأسى الذي استولى على القلوب هو ذاته الذي بعث حسن البنا إلى إنشاء دعوته فقد قال في نفسه: إذا كانت دولة الإسلام قد ضاعت فلماذا لا نحاول استعادتها من جديد؟!) (ص405). لكنه حصل الخلاف بعده في المنهج المتبع للجواب عنه، والمؤلف يشير إلى حصول الخلاف في تلك الفترة التي حصل فيها التأسيس الثاني للإخوان: (تختلف الجماعات العاملة اليوم في حقل الدعوة اختلافاً واسعاً حول منهج الحركة الواجب اتباعه في المرحلة الراهنة، وربما لم يكن هذا الخلاف قائماً قبل ربع قرن من الزمان (أي سنة 1950م)، فقد كانت الحركة تسير على المنهج الذي رسمه الإمام الشهيد وأقام جماعته على أساسه، ولم تكن هناك في الساحة جماعات أخرى غير تلك الجماعة) (ص454-455).
فيمكننا أن نقول: إن المؤلف أراد في كتابه هذا تزويد الشابَّ بمادة نظرية يمكنه الركون إليها في الترجيح بين الطرق والمسالك المطروحة للجواب عن سؤال: (كيف نقيم الدولة الإسلامية؟) أو لمعرفة ما يسميه المؤلف (طريق الخلاص).
وينبه المؤلف إلى بعض الأمور الأخلاقية التي ينبغي التزامها لدى السعي لجواب هذا السؤال فيقول: (إن تصحيح المفاهيم وتصحيح المنهج أمر ضروري للحركة الإسلامية دون شك. وما تستطيع الحركة أن تثمر ثمرتها المرجوة إن لم تعرف الطريق الصحيح وتتوجه إليه.
ولكن محاولة التصحيح بالتنابذ والفرقة، والتدافع بالمناكب، والجدل الدائم الذي يحاول فيه كل فريق تسفيه الآخرين وتجريحهم والنيل منهم. كل ذلك جهد ضائع بلا ثمرة، إلا الثمرة النكدة التي يتلقفها الشيطان!
إنما يكون التصحيح بالبيان الهادئ الهادف، وإبراز الدليل الشرعي الذي تبنى عليه الأحكام، مع التفقه في دين الله، قبل إصدار الحكم الذي يتشبث به صاحبه ويفاصل الناس عليه!) (ص438-439).
2- موضوع الكتاب:
في سبيل تحقيق تلك الغاية التي قصدها المؤلف من هذا الكتاب؛ جعل موضوعه البَحثَ في الواقع المعاصر؛ لأن إدراك هذا الواقع هو المُقدِّمة الشرطيَّة للإجابة عن سؤال: (كيف نقيم الدولة الإسلامية؟)، والجهة التي يبحث فيها المؤلف في النظر إلى الواقع المعاصر هي ما يسميه (الانحراف)، ومدلول مصطلح (الانحراف) لديه ليس مطابقاً لمصطلح (البدعة) أو (الفسق) أو (الخروج عن الشرع) من المصطلحات الشرعية، وإنما هو مصطلح خاصّ، يقصد به (الانحراف) الذي له ثمرة اليوم - بحسب رأيه - في تعثير أو عرقلة أو منع إقامة الدولة الإسلامية اليوم.
فبحسب نظر المؤلف: ينبغي لمعرفة كيفية إقامة الدولة الإسلامية إدراك الانحرافات الموجودة في الأمة، والتي تُعدُّ مانعاً من إقامتها، فإذا أُدرِك نوع الانحراف وحجمه يُصَار بعد ذلك إلى الحكم على تلك الطرق التي يتساءل ذلك الجيل من الشباب عن صحتها في إقامة الدولة الإسلامية، ويُصَار بعد ذلك إلى ترجيح الطريق الأحرى أن تكون صواباً في كيفية إقامة الدولة الإسلامية.
ولذا؛ فبعد أن عقد المؤلف فصلين في رصد خط الانحراف في الأمة وآثاره، عقد فصلاً سماه (الصحوة الإسلامية) تحدث فيه عن الطرق المطروحة لإقامة الدولة الإسلامية، وعمَّا يراه هو صواباً من الطرق.
يقول المؤلف: (إن حجم الانحراف الذي وقعت فيه الأمة خلال القرون - وفي القرن الأخير خاصة - أضخم بكثير مما يتصوره الكثيرون، إنه ليس فساداً في السلوك فحسب، ولكنه فساد في التصور وفساد في السلوك. فساد في تصور كل المفاهيم الرئيسية للإسلام، بدءاً بمفهوم لا إله إلا الله، الركن الأول والأعظم في هذا الدين.
وتغيير حال هذه الأمة، وإرجاعها إلى حقيقة الإسلام، أمر لا يتم بالسهولة التي يتصورها كثير من الناس، إنما يحتاج - بحسب السنة الجارية - إلى وقت أطول بكثير، وجهد أكبر بكثير، مما تم في هذه اللحظة في جميع الميادين!) (ص457).
وإذا أردنا أن ننظر في البواعث التي حملت المؤلف على جعل البحث في قضية الانحراف الذي أصاب الأمة مُقدِّمَةً للجواب عن سؤال (كيف نُقيم الدولة الإسلامية؟) يمكننا - بالنظر في كلامه - ردها إلى ثلاثة[4]:
الأول: وهو باعث متعلق بالنظر في الوعد الإلهي، وهو أن السنة الربانية تقتضي أن النصر والتمكين منوط بطاعة أوامر الله تعالى، ومن ثَمَّ رأى المؤلف أن الانحراف الواقع في الأمة من موانع إقامة الدولة الإسلامية، فكان البحث في الانحراف مقدِّمة للإجابة عن سؤال كيفية إقامة الدولة الإسلامية.
يقول: (وأما التاريخ فقد قال كلمته، وكلمته هي سنة الله التي لا تتبدل ولا تتحول. أن هذه الأمة تمكَّن بقدر التزامها بمقتضيات الإيمان، لا بمجرد التصديق والإقرار، وأنها تُزلزل ويزول عنها التمكين بمقدار ما تنتقص في عملها من مقتضيات الإيمان. مقتضيات لا إله إلا الله.
وانظر إلى الجيل المتفرد رضوان الله عليهم - يبطئ عليهم النصر ذات مرة فيقولون لأنفسهم: لينظر كلٌّ ما قصر فيه من أوامر ربه وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، فيجد بعضهم أنه قد أهمل السواك، فيقولون: هو ذاك. وانظر إلى الأجيال التى تنقض أوامر ربها، وتعيش إسلاماً بلا عمل وإسلاماً بلا أخلاق، ثم تقول: لا يضر مع الإيمان شيء!) (ص172).
الثاني: وهو باعث متعلق بتجربة جماعة الإخوان في مصر، إذ تم اغتيال مؤسسها، ثم حصل التنكيل بالجماعة في عهد عبد الناصر، والذي نال المؤلف نفسه، وقتل فيه شقيقه سيد قطب سنة 1966م، فالمؤلف يرى أن سكوت الأمة أو من يسميهم (الجماهير) عن المذابح التي نالت الإخوان يدلّ على انحراف كبير لدى الأمة في فهم لا إله إلا الله، ويسمي هذه الدلالة (الدلالة المُرّة)، فلا بدّ إذاً لإقامة الدولة الإسلامية من إصلاح هذا الانحراف وتكوين ما أسماها (القاعدة الإسلامية)، التي تقوم بها الدولة الإسلامية.
يقول: (السكوت الكامل عن قضية تحكيم شريعة الله، ثم السكوت على المذابح التي تقام للمسلمين الداعين إلى تحكيمها، أمر لا يمكن أن يحدثَ إلا أن تكون هذه الجهالة المطبقة بحقيقة لا إله إلا الله، وارتباطها الوثيق بتحكيم شريعة الله) (ص423).
ويقول: (الدلالة المرة التي تدل عليها مرور مقتل الإمام الشهيد ومرور مذابح السفاح هينة على قلوب الناس، لأن وعيهم بأن تحكيم شريعة الله جزء من عقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله، ما زال ناقصاً جدّاً، وما زال في حاجة إلى بيان طويل ودعوة وتربية، حتى تصحح العقيدة إلى صورتها الربانية الحقيقية التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله) (ص467).
ويقول: (والسنة الجارية – التي نحن مأمورون أن نتعامل معها، وإن كنا لا نكف لحظة واحدة عن التطلع إلى رحمة الله – هذه السنة تقول إنه لا بد أولاً من إقامة القاعدة المسلمة المؤمنة بالحجم المعقول، ثم نتوقع إقامة الدولة الإسلامية بعد ذلك، بعد جهاد – قد يطول – تقوم به تلك القاعدة مع الجاهلية المتربصة بها في كل مكان) (ص473).
والأمر الثالث: وهو باعث واقعي، وهو أن أي دولة لا بد لها من سندٍ وقوة تقوم عليها، ولما كانت الدولة الإسلامية لا يمكن أن تقوم في واقعنا بسند من الخارج، كما هو حال الشيوعيين والعلمانيين، ولا بد لإقامتها من سندٍ داخلي من الأمة نفسها = كان الالتفات إلى الأمة، ومعرفة ما اعتراها من انحرافات؛ شرطاً لمعرفة ما إذا كانت الأمة مستعدة لإقامة الدولة أم لا.
يقول: (فإذا كان لا بد لكل حكم من سند يسنده لكي يقوم أولاً، ولكي يستمر في الوجود بعد ذلك، فأين هو السند الذي يقيم الحكم الإسلامي في الوقت الحاضر، ثم يظل مسانداً له لكي يستمر في الوجود؟
وإذا كان الشيوعيون والعلمانيون والأقليات التي تصل إلى الحكم تقوم أساساً بتحريك أعداء الإسلام، وتستمر في الوجود بسندهم لها، فهل أعداء الإسلام – سواء روسيا أو أمريكا – سيسمحون بقيام حكم إسلامي فضلاً عن أن يسندوه إذا قام؟ أم أنهم يتربصون بالمسلمين ليمنعوهم من تحقيق وجودهم الإسلامي، كما تفعل أمريكا في كل البلاد الواقعة تحت نفوذها؟!
لا بد إذن – بداهة – أن يقوم السند للحكم الإسلامي من داخل الأمة المسلمة ما دام لا يمكن أن يجيء من خارجها؛ فهل هذا السند موجود في الحقيقة؟!) (ص456).
3- طريقة المؤلف في الكتاب:
لما كانت فئة الشباب هي المقصودة من هذا الكتاب، فإن اللغة التي كُتِب بها لغة سهلة مُيسَّرة، لا يشترط لفهمها مقدمات أو أصول علمية.
ويقدم المؤلف الفكرة التي يريدها بالشرح والإيضاح، ويكررها أحياناً، ويعرضها بأكثر من طريقة أحياناً، ويبينها أحياناً بطريقة العدّ إذا احتاجت إلى تفصيل، ولا يعتمد في كتابه الطريقة الأكاديمية في تقسيم البحث إلى أبواب وفصول ومباحث، وإنما قسمه مقدمة وخمسة عناوين رئيسية، تشبه الفصول، وقد يكون تحتها عناوين أخرى فرعية، ويذكر خلاصات في آخر كل فصل.
والبحث يشتمل على مادّة تاريخية كبيرة، لكن المؤلف يبين أنه لا يقصد التأريخ للأحداث وإنما رسم الخطوط العريضة:
يقول: (ولسنا هنا نؤرخ للأحداث لا بالنسبة للصحوة الإسلامية ولا بالنسبة لمخططات الأعداء للقضاء عليها فإن هذا له مجال آخر وله كتاب متخصصون.
إنما نحن على مدار البحث كله نرسم خطوطاً عريضةً لظواهر تاريخية رئيسية..
فكما أننا لم نؤرخ للجماعة الأولى ولكنا أبرزنا خطوطاً عريضةً تمثل أبرز سماتها ولم نؤرخ لخط الانحراف التاريخي وإنما أبرزنا أهم الخطوط الرئيسية فيه فكذلك نحن لا نؤرخ لأحداث الصحوة الإسلامية إنما نتناولها كظاهرة تاريخية فنشير بقدر ما تسمح طبيعة البحث إلى أهم الخطوط البارزة في شأنها) (ص393-394).
ويقول: (وليس هنا مجال التأريخ لهذه الأمة ولا مجال التأريخ لخط الانحراف، إنما نكتفي برسم الخطوط العريضة التى تبين لنا معالم الطريق. وكما أوجزنا الحديث من قبل عن الجيل المتفرد فاكتفينا بتسجيل أبرز السمات بالقدر الذي يعطينا فكرة مجملة عن الصورة الصحيحة لتطبيق هذا الدين فكذلك نوجز الحديث عن خط الانحراف بالقدر الذي يعيننا على معرفة الأسباب التى أردت بناء إلى الواقع الذي نعيشه اليوم.. ذلك أن هدفنا الرئيس ليس الدراسة المفصلة للتاريخ الإسلامى إنما هدفنا أن نرسم صورة واضحة المعالم لواقعنا المعاصر بأبعاده الرئيسية وانحرافتها الرئيسية لنحدد على ضوئها طريق الخلاص) (ص117).
ويقول: (ولسنا هنا نؤرخ لعبد الناصر.. ولسنا كذلك نؤرخ لهذه الحقبة الخطيرة من حياة الأمة الإسلامية إنما نحن فقط نتتبع الخطوات العريضة لمحاولات الأعداء للقضاء على الأمة الإسلامية والقضاء على الإسلام ونتتبع الوسائل التي استخدموها في هذه الحرب الضارية التي شنوها على الإسلام) (ص360).
وقد اشتمل الكتاب على آراء للمؤلف في أحداث وشخصيات ومذاهب كثيرة في التاريخ المعاصر أو قبله، فأبدى رأيه في الدولة الأموية، والعباسية، والعثمانية، ومحمد علي، ومحمد بن عبد الوهاب، ورفاعة الطهطاوي، وقاسم أمين، وسعد زغلول، وجمال الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وحسن البنا، وجمال عبد الناصر، ومصطفى أتاتورك، وأبدى رأيه في المذاهب الكلامية والاعتقادية كالاعتزال والإرجاء والتصوّف؛ كل بحسب ما يقتضيه السياق، وغاية الكتاب.
ولا يهتم المؤلف بتوثيق النصوص كثيراً، وسبب ذلك ذكره في مقدمة الأولى فقال: (وقد كنت أحتفظ دائماً بقصاصات من الصحف، وببعض النصوص والتصريحات ذات الدلالة التي تلقى بين الحين والحين، لأعود إليها كلما احتجت إلى الاستشهاد بها، وقد أخذت مني هذه القصاصات عند دخولي السجن الحربي عام 1965م ثم لم ترد إليّ) (ص14).
4 - عرض إجمالي لفصول الكتاب:
أول فصل عقده المؤلف هو لتجلية حال النموذج الذي حقق شرط النصر والتمكين، فتحقق له التمكين، وهو نموذج الصحابة رضي الله عنهم، وقد عنون له المؤلف بقوله: (نظرة إلى الجيل الفريد)، وتحدث فيه عن خمس سمات لذلك الجيل: صدق الإيمان، وجدية الأخذ من الكتاب والسنة، وصدق الجهاد في سبيل الله، وتحقيق معنى (الأمة) في صورته الحقيقية، وتحقيق العدل الرباني في واقع الأرض، وأخلاقيات لا إله إلا الله، والوفاء بالمواثيق.
ثم تحدث عن أمرين آخرين هما من الخصائص الرئيسية للأمة الإسلامية، قال: (وإن كان تحقيقهما – بطبيعته - لم يتم في حياة الجيل الأول، إنما تم في الأجيال التالية، لأنهما - بحكم طبيعتهما - يحتاجان إلى فترة زمنية بعد التمكين في الأرض، ذانك هما الحركة العملية الإسلامية، والحركة الحضارية الإسلامية، وقد تمتا كلتاهما متأخرتين في الزمن. ولكن قواعدهما الأولى كانت قد أرسيت ولا شك في حياة ذلك الجيل الذي كتب في الحقيقة تاريخ الإسلام، فقد كانت الأجيال التالية متأثرة كلها بالدفعة الهائلة التي أحدثها الجيل الأول في حركة الحياة، لا في داخل العالم الإسلامي وحده، ولكن في الأرض كلها علي الاتساع!) (ص33).
ثم عقد المؤلف فصلاً سمَّاه (خط الانحراف)، تحدث فيه عن الانحرافات التي وقعت في الدول الأموية والعباسية والعثمانية.
وخلص في نهاية الفصل إلى رد أسباب الانحراف إلى أربعة: التفلُّت البشري الطبيعي من التكليف، والفكر الإرجائي، والصوفية، والاستبداد السياسي (ص162-163).
ثم عقد فصلاً طويلاً في آثار الانحراف يزيد على ثلث الكتاب، ركز فيه على الانحرافات في القرنين الأخيرين، لما لذلك من أهمية في تحقيق غاية الكتاب في نظر المؤلف، يقول في ذلك: (ونريد هنا أن نركز القول على القرنين الأخيرين في حياة الأمة والقرن الأخير خاصة بشيء من التفصيل، يبين لنا من ناحية، كيف وصلنا إلى واقعنا المعاصر الذي نعيشه في هذه اللحظة، ويبين لنا من ناحية أخرى ماهية هذا الواقع المعاصر وسماته البارزة، ليتيسر لنا في ما بعد أن نتعرف على طريق الخلاص) (ص165).
تحدّث المؤلف أولاً عن التخلف العقيدي، وعن الانحراف في فهم لا إله إلا الله، والانحراف في مفهوم العبادة، والإرجاء، وذكر أن التخلف العقيدي بلغ ذروته في القرن الأخير بتنحية الشريعة.
يقول: (هذا التخلف العقيدي - الذي هو عقدة العقد في حياة الأمة في الفترة الأخيرة - قد وصل إلى أقصى درجاته في القرن الأخير خاصة، حين نُحِّيَت الشريعة الربانية عن الحكم على يد الغزو الصليبي الجائح) (ص173).
ثم تحدث عن التخلف العلمي والحضاري والاقتصادي والحربي والثقافي ووصفه بأنه نتيجة عن التخلف العقيدي، وبيَّن وجه ذلك من وجهة نظره.
ثم تحدَّث عن الغزو الصليبي وبواعثه هل هي اقتصادية أم دينية.
ثم تحدث عن الغزو الفكري، واختار للحديث عنه التجربة المصرية، فتحدث عن حملة نابليون على مصر سنة 1798م، وذكر أهدافها، وأن منها تنحية الشريعة الإسلامية وإحلال القوانين الوضعية بدلاً منها، ثم تحدث عن دور محمد علي باشا في إفساد مصر، ودور الاحتلال البريطاني بعد ذلك، وشرح دوره في إفساد الأخلاق في مناهج التعليم، ووسائل الإعلام، من الكتب والصحافة، وعن قضية تحرير المرأة ودور قاسم أمين فيها، وفي مجال الفكر والأدب، وفي مجال السياسة ودور سعد زغلول.
ثم تحدَّث عمَّا سماه بروز الزعامات العلمانية، وخلو الساحة من القيادة الدينية، وانتقد فيها دور محمد عبده ورشيد رضا، وناقش فتوى طويلة له في مسألة القوانين الوضعية، ووصفه في موضع آخر بتضليل الأمة عن قضية تحكيم الشريعة (ص441).
ثم تحدّث عن استيراد النظم والمبادئ من أوروبا ؛ في جوانب السياسة والاقتصاد والاجتماع.
ثم تحدَّث عن الانقلابات العسكرية واستخدام الاشتراكية لحرب الإسلام، وذكر أتاتورك وجمال عبد الناصر نموذجاً.
ثمّ عقد المؤلف فصلاً للحديث عن الصحوة الإسلامية؛ وقصد بها دعوة الأستاذ حسن البنا، إذ يقول عن الصحوة: (لقد بدأت في قلبِ رجُلٍ واحد فتح الله عليه ووهب له من إشراقة الروح وصفاء الصلة بالله ما يستشعر به عظمة الإسلام وما يتحرك به لتحقيق هذه العظمة في واقع الحياة) (ص401).
ويتحدَّث المؤلف كيف فاجأت دعوة البنّا أصحاب المخطط التغريبي بأن حملتها من الأفندية، وبأنها لا تقف موقف الجمود من الحضارة الغربية، وبأنها تعُدُّ الانحراف عن الإسلام سبب التخلُّف الذي أصاب الأمة، وبأنها تنتشر انتشاراً ذريعاً في صفوف المثقفين من الأطباء والمعلمين والمهندسين والمحامين.
ثم يتحدَّث المؤلف عن الضربات التي وجِّهَت لجماعة الإخوان بمقتل مؤسسها سنة 1949م، وبالمذابح التي قام بها عبد الناصر سنتي 1954-1955م، وسنتي 1965-1966م.
ثم يكتب المؤلف تقييماً لتجربة الإخوان الأولى، فيتحدث عن ثغراتها، ويذكر منها: الاستعجال في التجميع الجماهيري قبل موعده الذي ينبغي أن يجيء فيه، والتعجل في الساحة الداخلية وفي قضية فلسطين سنة 1948م، والتعجل في عملية البناء، حيث افترضت أن الجماهير قد تجاوزت مرحلة البناء العقدي، ولم يكن الواقع كذلك، ويقصد المؤلف عدم التربية على قضية تحكيم الشريعة، يقول: (لقد كان التواكل الذي أحدثته الصوفية وأحدثه الفكر الإرجائي هو الخلل الذي أصلحته حركة الإمام الشهيد بإيقاظ الوجدان الغافي وتحويله إلى حركة واقعة، وكان هذا جهداً ضخماً في حقيقته إذا نظرنا إلى ما كان قد أصاب المسلمين في هذا الجانب كما بينا من قبل.
ولكن الخلل الآخر الذي طرأ على الأمة خلال القرن الأخير خاصة كان هو إفراغ (لا إله إلا الله) من حقيقتها في قضية (الحاكمية) المتصلة بتحكيم شريعة الله، وكان هذا الخلل شديد الخطورة في حياة هذه الأمة، وشديد الخطورة بالنسبة للصحوة الإسلامية ذاتها بحيث ينبغي أن يركز له من الجهد بقدر ما ركز في علاج التواكل الذي أحدثته الصوفية والإرجاء..) (ص421).
ثم أبدى المؤلف رأيه في قضايا متعلقة بالتأسيس الثاني لجماعة الإخوان، أو ما سماه (واقع الصحوة الإسلامية بعد ما يزيد قليلاً على نصف قرن منذ بدأها الإمام الشهيد) (ص434).
والقضيتان المهمتان اللتان أبدى فيهما رأيه هما:
القضية الأولى: قضيةالحكم على الناس، فرأيه فيها (قضيتنا الأولى والكبرى ليست هي قضية الحكم على الناس، إنما هي قضية تعليمهم حقيقة الإسلام) (ص439). وذكر ثلاث اعتبارات في اختياره هذا.
والقضية الثانية: منهج الحركة، يبين فيه خلاصة رأيه بقوله: (إنه لا بد من ارتياد الطريق الطويل.. المجهد الشاق.. البطيء الثمرة.. المستنفد للطاقة، طريق التربية، لإنشاء القاعدة المسلمة الواعية المجاهدة، التي تسند الحكم الإسلامي حين يقوم، وتظل تسنده لكي يستمر في الوجود بعد أن يقوم. وقد رأينا في دراستنا التي ناقشنا فيها الوسائل الثلاثة التي يستخدمها المتعجلون – كلٌّ من زاويته – أنها كلها تؤدي إلى طريق مسدود، وإن بدا في ظاهر الأمر أنها هي "الحركة" التي تخرج "بالعمل" من حالة الجمود!
فالصدام مع السلطة قبل وجود القاعدة المسلمة الواعية المجاهدة عمليات انتحارية لا طائل وراءها، إلا إعطاء الطغاة حجة لتقتيل المسلمين وتذبيحهم، والناس غافلون عن حقيقة المعركة، وعن كون هؤلاء الطغاة إنما يعملون ما يعملون عداءً للإسلام ذاته – لا رداً على عمل بعينه – وولاءً للصليبية الصهيونية التي تحارب الإسلام في كل الأرض.
والتسلل إلى داخل الأجهزة السياسية مع عدم وجود القاعدة المسلمة الواعية المجاهدة عملية عبثية لا طائل وراءها، إلا تمييع القضية في نظر الجماهير، وتأخير النضج اللازم لإقامة القاعدة التي لا يقوم بغيرها الحكم الإسلامي.
والبحث عن الحلول العملية للمشاكل المعاصرة قبل وجود القاعدة المشار إليها آنفاً صرف للجهد بلا طائل، وتحويل للطاقة العاملة في الساحة من ميدانها الأول الأصيل إلى ميدان جانبي، يستنفد الطاقة وهو لا يؤدي – الآن – إلى شيء، ويوهم صاحبه في الوقت ذاته أنه "يعمل" بل أنه يعمل العمل الواجب، فلا يحس بالتقصير الذي يمارسه في الميدان الأول الأصيل، إن لم ينظر إلى العاملين فيه على أنهم هم العابثون المضيعون!) (ص474-475).
ثم أبدى المؤلف رأيه في ست قضايا دون تينك القضيتين في الأهمية، بحسب رأيه، وهي:
الأولى: قضية السمع والطاعة، بين فيها الخطورة الشرعية للطاعة المطلقة لقيادة الجماعة، وبين الخطر التربوي في ذلك، يقول: (استئثار بضعة أفراد في الجماعة بالسلطة بوصفهم "المسؤولين" وإلزام الباقين بالسمع والطاعة بغير اعتراض، فضلاً عن المخالفة الشرعية التي يحملها – وسنبينها عاجلاً – فإنه هو الذي جعل معظم هذه الجماعات تربي "جنوداً" ولا تربي "قادة" فتعجز عن أيجاد "صف ثان" يحمل المسؤولية بعد القائد الأول) (ص449).
القضية الثانية: تحدث فيها عن القيادة المطلوبة، يقول في ذلك: (والقيادة المطلوبة للعمل الإسلامي في ظروفه الدقيقة الراهنة، هي القيادة التي تستطيع أن تعطي الشحنة التربوية كاملة، وفي الوقت ذاته تقول للناس: كفوا أيديكم، فيطيعون... يطيعون دون أن تخبو حماستهم للعمل الإسلامي، ودون أن يتفلتوا، ودون أن يأكلهم اليأس أو يأكلهم الضياع!) (ص502).
القضية الثالثة: مسألة التعلم في ما أسماها المدارس الجاهلية، انتقد فيها ترك التعلم في الجامعات المعاصرة.
القضية الرابعة: تحدث فيها عن المناصب التي يمكن للمنتمين لهذه الصحوة أن يتقلدوها، وأنكر فيها استلام الوزارات.
القضية الخامسة: تحدث فيها عن مسألة التعامل مع الشبهات حول الإسلام، يقول: (المنهج الصحيح هو بيان حقائق الإسلام للناس، فهم في حاجة دائمة إلى هذا البيان في كل جيل من أجيالهم، وفي الأجيال المعاصرة خاصة، التي أصبح الإسلام غريباً بينها من شدة جهلها بحقائقه. ولا بأس – في أثناء بيان حقائق الإسلام – أن تقف عند شبهة ترد في أذهان الناس من عند أنفسهم بسب عدم المعرفة، أو يثيرها الأعداء ليفتنوا بها المسلمين عن دينهم، فنجلي هذه الشبهة ببيان الحقيقة فيها) (ص511).
والقضية السادسة التي تحدث فيها المؤلف هي قضية التطرف، يقول في رأيه في سبب نشوئها: (يجب أن يستقر في أذهاننا بوضوح أن المتسبب الأول، والمتسبب الأكبر في نشر التطرف وتغذيته هو الحكومات التي لا تحكم بما أنزل الله، وتقوم بتعذيب المطالبين بتحكيم شريعة الله تعذيباً وحشيّاً لا مثيل له في التاريخ، وأن هذه الحكومات ترتكب ثلاث جرائم في وقت واحد: الإعراض عن أمر الله القاضي بتحكيم شريعته دون سواها، والقيام بجرائم القتل والتعذيب الجماعي التي لا تقرها حتى شريعة الغاب، وتغذية روح التطرف بين الشباب كرد فعل للجريمتين الأوليين.
كما يجب أن يستقر في أذهاننا بوضوح كذلك أنه لا يمكن القضاء على التطرف إلا بإزالة أسبابه الحقيقية الدافعة إليه. أي استجابة الحكام لأمر الله لهم أن يحكموا بما أنزل الله، أو – في أقل القليل – الكف عن المعاملة الوحشية التي يعاملون بها الذين يطالبون بتحكيم شريعة الله. وأن كل مذبحة تقام للمسلمين في الأرض هي وقود جديد للتطرف، يمتد إلى ما شاء الله) (ص522).
6- تأثير الكتاب:
من الكتابات المتأثرة تأثراً مباشراً بالكتاب الذي بين أيدينا رسالة علمية من جامعة أم القرى أشرف عليها محمد قطب نفسه عنوانها: (الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وأثرهما في حياة الأمة) لعلي بن بخيت الزهراني. يقول محمد قطب في تقديمه لها: ( لقد كنا نقرأ الخطوط العريضة ونحدّث الناس عنها، فجاء الباحث بصبر ومثابرة، فبحث في الخطوط الدقيقة جدّاً، والتي لم تكن واضحة في أذهاننا كما اتضحت في البحث).
والرسالة منشورة عن دار طيبة بمكة المكرمة وتقع في مجلدين.
ووُجِّهت للكتاب دراسات نقديّة من أبرزها ما قدمه أحد رموز جماعة الإخوان في مصر سالم البهنساوي في رسالة صغيرة الحجم أسماها (شبهات حول الفكر الإسلام المعاصر) حيث انتقد آراء محمد قطب التي أبداها في كتابه في مسائل الأسماء والأحكام، وانتقد موقفه من المشاركة السياسية، وانتقد بعض القضايا التاريخية التي ذكرها في التأريخ لجماعة الإخوان في مصر.
ولكلام محمد قطب في هذا الكتاب في مسائل الأسماء والأحكام، وفي مسألة المشاركة السياسية = حضورٌ في السجالات الكتابية في هذه المسائل التي دارت في فترة التسعينات الميلادية.
[1] الطبعة المعتمدة في العزو هي الطبعة الثانية الصادرة عن مؤسسة المدينة للصحافة سنة 1988م.
[2] «علماء ومفكرون عرفتهم» لمحمد المجذوب (2/279 - 281).
[3] مضى على تأليف هذا الكتاب ثلاثون عاماً، والذين كانوا شباباً إذ ذاك لم يعودوا كذلك.
[4] أكتفي هنا بعرض كلام المؤلف إذ هذا هو المقصود، والانتقاد له موضعه.
- التصنيف:
- المصدر: