ملح الحياة - معجم صغيري
اعلموا أن العادةَ ألزمُ من الطبع، فعوِّد لسانك شريفَ الكلام، تكنْ أرضيتَ عقلَكَ وربَّك، وأورثت ولدَك ما لا تأثم عليه، وإن أردت أن ترى نفسك، وكيفية انفعالك مع أولادك، فانظر لابنك عند غضبِه، خاصةً في عمر ما دونَ المدرسة، تجده يكرِّر ألفاظَك وحركاتِك وانفعالاتِك نفسَها وبدقَّة، عندها تَأَنَّ وانظرْ: هل أنت على الطريق الصحيح أو لا؟! فإن انفعاله تقييم لسلوكك معه.
التربيةُ فنٌّ يعتمِد على الفطرة والتجرِبة والدين والموروث الفكريِّ والعَقَديِّ والبيئيِّ لدى الوالدَينِ، ربما نجد أحيانًا المشكلةَ في الوالدينِ أنفسِهما، حيث يطبِّقون سلوكياتٍ مرفوضةً مع أبنائهم لمجرَّد أنهم ورثوها من آبائهم، دون أن يمرِّروها على عقولهم وثقافتهم التي هي حتمًا متطوِّرة عن ثقافة والدَيهم، ولو بقدْرٍ، فانتبهوا جيِّدًا لقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق»، فكلُّ موروثٍ يخالف مكارمَ الأخلاق، يجب ألَّا تجعليه من ميراث ابنك، كذلك نفَّر صلى الله عليه وسلم من الفُحش في القول والبذاءة، فقال: «ليس المؤمن بالطعّان، ولا اللعّان، ولا الفاحش البذيء» أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
أثبت كثيرٌ من الدراسات أن معجم الطفل يتكوَّن منذ نُمُوِّ سَمْعِه وهو جنينٌ، واستدلُّوا على ذلك بأن الطفل يَنتبِهُ بسرعة للمادَّة المسموعةِ التي كانت تَحرِص عليها الأمُّ أثناء الحمل؛ كصوت الأذان أو القرآن، أو غيره، أكثر مما ينتبه لغيرها.
سنبدأُ في تكوينِ معجم الطفل من مرحلة الهَدْهَدة، قبل اكتمالِ جهاز النطق عنه، عليكِ أن تنتقي مجموعةً من الأدعية السهلة الموزونة، وهَدْهِدِي بها طفلك قبل نومه وعند بكائه، سيستمرُّ هذا لعمر الثالثة تقريبًا، سيحفظها الطفلُ وستروق له، وتُحدِث راحةً في نفسه كلَّما أدرك معناها تدريجيًّا.
كنت أُهَدْهِدُ أولادي الأربعةَ على الشهادة بإلقاء مختلِف، وبعض الأشعار الخفيفة، ثم سمعت من جارتي دعاءً تنغِّمُه هي بصوتها باسم الطفل نفسِه: "سلِّم فلان يا الله، خلّه لأمه يا الله، بارك عمره يا الله، يسِّر أمره يا الله..."، وهي امرأة من بَدْوِ الجزيرة، عاشرتُها أكثر من عشرين عامًا عن كثب، واللهِ ما دَعَت على أحد من أولادها مرَّةً؛ بل في أشد لحظات غيظها تدعو له! وفي أوقات تندُّرهم وهم كبارٌ يذكرونها بما يحفظون من هذه المواقف والكلمات!
تكرِّر بعضُ الأمَّهات أنها ليست المتحكِّمةَ في قاموس ابنها؛ لأنه يختلط بالكبار من عائلته (الأعمام والأخوال وأولادهم...) وأنها تخجل من الاعتراض على ألفاظهم، وطفلُها يكتسب منهم ما لا يرضيها، وأنها لا تستطيعُ حصارَ الجميع، والتحكُّم في ألفاظهم وسلوكهم، وهو فعلًا صعبٌ، لكن العلاج متاح.
أيًّا كانت البيئة المحيطة، فاجعلي بيتك مُناخًا مختلفًا، وسيدرك الطفل مع الوقت أن لكل مقام مقالًا، كوني يقظة جدًّا لكل مفردة تسمعينها أنت، ثم في خَلْوَتك بابنك بَيِّنِي له أن الكلمة هذه لا تليق بك أنت، وعزِّزي لديه الثقة بالنفس والطموح والتميُّز؛ كأن تقولي له: "أريدك إنسانًا مميزًا، أنت أعظم في عيني من أن تقول هذه الألفاظ، هم يُخطئون عند قولها ولا تخطئ مثلهم، هذه الألفاظ ليس مكانها البيت، أنا لن أجلس مع فلان كثيرًا؛ لأن ألفاظه لا تعجبني وفيها بذاءة لا تليق بالمسلم، وإن صرت مثله سيتجنَّبك الناس أيضًا.
ثم اغتنمي الفرصة واغرسي فيه الحياء من الله ومن الملائكة، قولي له: "إن الله يسمعني ويراني، وأنا أحبه؛ لأنه هو الذي أعطاني كل شيء أملكه، وأخجل أن يسمع مني أو يرى ما يكره، وَضِّحِي له أن الملائكة تكتب كل ما نقوله، ولا أحب أن يكتبوا عني لفظًا بذيئًا، طبعًا انتبهي سيردُّ عليك الطفل الذكيُّ قائلًا: لكنك قلتِ كذا وكذا سابقًا. بادريه بأنك أخطأتِ واستغفرتِ وتُدَرِّبين نفسَك على الالتزام، وأنه لا مانع من الخطأ، ولكن التراجع عنه هو صفة العقلاء.
سيدخلُ معكِ في جدل حول المقرَّبين له، ولماذا استمرُّوا على هذا الخطأ؟ وما المشكلة أن نكون مثلهم؟ فنحن نحبُّهم وهم ناجحون... وغير ذلك، اجعلي إجابتَك أكثرَ ذكاءً من الطفل، وَضِّحِي بما يناسب عمره أن القضية إرضاء الله، وليست فقط اعتراضًا على الأشخاص، وأن الجنة درجات، وكلَّما كنت أنقى، كنت أعلى، ولا مانعَ من الحوافز المادية كالهدايا، ثم وضع ندٍّ صالحٍ في مقابل ذلك الندِّ، كأن تقولي له: "انظر لفلان، هو محبوب أكثر من هذا؛ لأنه أكثر تهذيبًا وانتقاء لألفاظه"، المهم أن تكون المقارنة صادقة وناجحة لأنك ستنسين وسيظلُّ الطفل متذكِّرًا، ويقارن بنفسه للتحقُّق مما قيل له ثم يراوح بين الصواب والخطأ حتى يستقرَّ على الصواب إن شاء الله، فالعائلة تجربة الطفل الأولى في مواجهة المجتمع الأكبر الذي سيواجهه لاحقًا، يختلط معهم لا شك، ولكن بمساعدتك لا يمتص كل ما يعرض له منهم، حتى لا يمتص كل ما سيراه لاحقًا من قبح في المجتمع، حفظهم الله جميعًا.
أعلم أن الأمر صعبٌ، ودائمًا ما أشبِّه التربية بالنحت على صخور ملساءَ بأظفارٍ ضعيفة، لكن حسبنا أننا نؤدِّي ما كلِّفنا به أمام الله باجتهاد وإخلاص واحتساب وثقة في كرم الله وحِكمته.
المجتمع الآن في مرحلة ضعف قيميٍّ، وأكثر ما نحتاجه الآن تحصين نفوسهم من الملوِّثات ـ جعلهم الله قرَّة عين لكم ـ فلابد للوالدين من مراجعة أنفسهم في سلوكهم مع أبنائهم، فيحرصون على عملية غربلة يتخلَّصون بعدها مما لا يَصِحُّ فعله مع الأبناء، حتى لو كان من موروثاتنا، فكما أعددتِ نفسك للجامعة والزواج، عليك أن تعدِّي نفسك عقلًا وروحًا للأمومة، وما أسهلَ وأيسرَ اكتسابَ الخبرات الآن مع وجود وسائل التواصل! وأهمُّها وأسرعها (اليوتيوب).
مما يحضرُني في هذا الصدد أن أمًّا تُكَرِّرُ السِّبابَ والدعاءَ كما كانت أمُّها تفعله معها، وبالألفاظ نفسها، والمضحك أنها قد لا تعرف معنى الكلمة التي تستخدمها، ولم تفكِّر فيه سابقًا، فظلّت هذه الأم تَسُبُّ ابنَها بكلمة (جاءك عارضٌ) وهي لا تعرف معناها، ولم تفكِّر فيه، حتى ذهب الطفل للمدرسة، واستخدم المفردة نفسها عند سَبِّهِ أصحابَه. استوقفتنا الكلمة من طفلٍ، وبدأنا نفسِّرُها ونبحثُ عنها، ونرى استخدامها في القرآن واللغة ونتضاحك كفريق عمل، حتى حان لقاءٌ بالأمِّ فحاولنا الاستفسار منها، فقالت: "لا أعلم معناها، كررتُها كما كانت أمي تقولها فقط!"، ولو عجَّل الله لنا الشرَّ استعجالنا بالخير لقطعنا ألسنتنا ندمًا! ماذا لو علمت هذه الأمُّ أن العارض كان عذابًا أليمًا مهلِكًا؛ قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24].
وقد أوضحَ كثيرٌ من الأحاديث قيمةَ الكلمة وأثرَها، فربما تهوي بصاحبها في النار، وهو لم يكن يَعِيها ولا يعطيها بالًا!
واعلموا أن العادةَ ألزمُ من الطبع، فعوِّد لسانك شريفَ الكلام، تكنْ أرضيتَ عقلَكَ وربَّك، وأورثت ولدَك ما لا تأثم عليه، وإن أردت أن ترى نفسك، وكيفية انفعالك مع أولادك، فانظر لابنك عند غضبِه، خاصةً في عمر ما دونَ المدرسة، تجده يكرِّر ألفاظَك وحركاتِك وانفعالاتِك نفسَها وبدقَّة، عندها تَأَنَّ وانظرْ: هل أنت على الطريق الصحيح أو لا؟! فإن انفعاله تقييم لسلوكك معه.
نسأل اللهَ أن يحفظَ أبناءَ المسلمين ويستعملهم ولا يستبدلهم.
بقلم: أ / منى مصطفى عبد الهادي