خطر الفتوى بغير علم على ثقافة وحياة الناس
من اللازم نصب المفتين في المناطق المتباعدة إن ظهرت الحاجة ولم يوجد متبــرِّعون بالفتيا، ولا يُنصَب إلا من كان لذلك أهلًا، وينبغي أن يُنظر في أحوال المفتين، فيُمنع من يتصدَّر لذلك وليس بأهل، أو إذا كان مـمــن يسيء إلى الفتوى ولا يحسنها.
قال تعالى مخاطبًا المستفتين: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُون} [النحل: 43]، أي ارجعوا إلى أهل المعرفة وأهل الخبرة،فسؤال أهل الذكر واجب، وهذه قاعدة في الحياة كلها، فكما أن الإنسان إذا مرض هو أو مرض ولدُه يرجعُ إلى أهل الاختصاص في الطب، كذلك في كل أمرٍ من الأمور ومنها أمورُ الدين.
وقال تعالى مخاطبًا المفتين: {وَ لَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَال وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].
وفي حياة النبي صلى الله عليه وسلم، أصيب أحد الصحابة بجرح، وكان عليه جنابة، ولابد أن يغتسل ويتطهر، فأفتاه بعضُ مَنْ معه بأن ينزل الماء ويغتسل مع هذه الجراحة، فكانت النتيجة أن الرجل مات من آثار ذلك، فلما بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خبرُ هذه الحادثة، قال في شأن هؤلاء الذين أفتوه: «قَتَلُوهُ،قَتَلَهُمْ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَـمْسَحَ عَلَيْهَا، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ» (رواه الإمام أبو داود).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم -وهو معلم الشريعة- يُسأل أحيانًا عن أشياءَ لم ينزل فيها وحي، فيـنتظر الوحي ليعلمه بحكم الله فيها، وآيات "يسألونك" في كتاب الله غير قليلة وشاهدة على ذلك. وكان كثير من الصحابة لا يجيب عن مسألة حتى يأخذ رأي صاحبه، وكان الخلفاء الراشدون -مع ما آتاهم الله من سعة العلم- يجمعون علماء الصحابة وفضلاءهم عندما تعرض لهم مشكلات المسائل يستشيرونـهم.
وعن الشعبي والحسن وأبي حصين التابعين قالوا: "إن أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر".
وعن الأثرم قال: سمعتُ أحمدَ بن حنبل يُكثر أن يقول: "لا أدري"، وذلك فيما عرف الأقاويل فيه.
وعن الهيثم بن جميل: "شهدت مالكًا سُئلَ عن ثمانٍ وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري». وكان يقول: «من أجاب في مسألة، فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف خلاصه، ثم يجيب"!!
وسُئل القاسم بن محمد عن شيء، فقال: إني لا أحسنه، فقال له السائل: إني جئتك لا أعرف غيرك، فقال له القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي، والله ما أحسنه! فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي الزمها فوالله ما رأيناك في مجلس أنبل منك اليوم! فقال القاسم: "والله لأن يُقطع لساني أحب إليَّ من أن أتكلمَ بما لا علمَ لي به".
وسئل الشعبي عن مسألة، فقال: لا أدري، قيل له: ألا تستحي من قول "لا أدري" وأنت فقيه العراق؟ فقال: لكن الملائكة لم تستحِ حين قالوا:سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتــنا.
ولذلك كان من اللازم نصب المفتين في المناطق المتباعدة إن ظهرت الحاجة ولم يوجد متبــرِّعون بالفتيا، ولا يُنصَب إلا من كان لذلك أهلًا، وينبغي أن يُنظر في أحوال المفتين، فيُمنع من يتصدَّر لذلك وليس بأهل، أو إذا كان مـمــن يسيء إلى الفتوى ولا يحسنها.
قال فقهاء الحنفيَّة: يحجر على المفتي الماجن، والطبيب الجاهل، والمكاري المفلس؛ لِمَا فيه من الضرر الفاحش إذا لم يُحْجَرْ عليهم، فالمفتي الماجن يُفْسِد على الناس دينَهم، والمتطبِّب الجاهل يُفْسد أبدانَهم، والمكاري المفلس يتلف أموالَهم، فيُمنعون من ذلك دفعًا للضرر. وقد فسَّروا المفتي الماجِن بأنه الذي يُعلِّمُ الناس الحِيَل ليحتالوا على الشريعة، كمن يُعلِّم الزوجة أن ترتدَّ لِتَبين من زوجها، أو يعلِّم ما تسقط به الزكاة، وكذا من يفتي عن جهل.
وقال الخطيب البغدادي: ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين، فمن صلح للفتيا أقرَّه، ومن لا يصلح منعه ونهاه وتوعده بالعقوبة إن عاد،قال: وطريق الإمام إلى معرفة من يصلح للفتيا أن يسأل عنه علماء وقته، ويعتمد إخبار الموثوق بهم. وقال ابن القيم: من أفتى وليس بأهل فهو آثمٌ عاصٍ، ومن أقرَّهم من ولاة الأمور فهو آثمٌ أيضًا.
وقال ابن الجوزي: يلزم وليَّ الأمر منعُهم، فهو -يعني المفتي بغير علم- بمنزلة من يدلُّ الركب ولا يعلم الطريق، وبمنزلة من يرشد الناس إلى القبلة وهو أعمى، بل أسوأ حالًا.
وإذا تعيَّن على وليِّ الأمر منعُ مَنْ لم يحسن الطب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسُّنة ولم يتفقَّه في الدين؟!! ووصف ابن الجوزي حال شيخه ابن تيمية، فقال: وكان شَيْخُنا رضي الله عنه شَديدَ الإنكار على هؤلاء،فسمعتُه يقول: قال لي بعضُ هؤلاء: أَجُعِلْتَمُحْتَسِبًا على الفتوى؟ فقلتُ له: يكون على الخـــبــــَّازين والطبَّاخين مُحْتَسِبٌ، ولا يكون على الفتوى مُحْتَسِبٌ؟!!
ونقل أئمةُ الأحناف عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى قولَه:"لا يجوز الحجْرُ إلا على ثلاثة: على المفتي الماجِن، وعلى المتطبِّبِ الجاهل، وعلى المكاري المفلِس."
إعداد: الشيخ عبد اللطيف دريان
مفتي الجمهورية اللبنانية
- التصنيف: