عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان - تمارين العزيمة والهمة (4)
في رمضان أرِح عينيك بعدم التطلُّع إلى الدنيا وما فيها من شهوات، وأرِح أُذنيك من ضجيج الكلام وصخب الهموم والغموم والمُحرَّمات، وأرح رجليك من كثرة الانتقال هنا وهناك من غير فائدة.
القاعدة الثالثة: تمارين العزيمة والهمة.
فإذا كان الأصوليُّون يعرِّفون العزيمة بأنَّها ما بُنيت على خلاف التيسير، كالصوم في السَّفَر لمن أطاقه، وعدم التلفُّظ بكلمة الكفر وإن قُتل، فإنَّ العزيمة عند أهل السُّلوك لها حظٌّ من هذا المعنى؛ فالعزيمة أو العزم عندهم هو استجماعُ قوى الإرادة على الفعل، وكأنَّ صاحب العزيمة لا رُخْصة له في التخلُّف عن القيام بالمهمَّة، بل هو مُطالَب باستجماع قوَّته، وشحذها، حتَّى يطيق الأداء.
وغالب مَن تكلَّم في هذا الباب لم يُشِر إلى أهمية تمارين العزيمة؛ أيْ: تحفيز الهِمَّة؛ لِتَقْوَى على المُجاهدة في الأزمنة الفاضلة، مع أنَّ الشرع أشار إلى ذلك باستحباب صوم شعبان لتتأهَّب النفس، وتَقْوى على صيام رمضان بسهولة، وكان من هَدْي النبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- في قيام الليل أن يبدأ بركعتين خفيفتين؛ حتى تتريَّض نفْسُه ولا تضجر، وأشار الشاطبِيُّ في "الموافقات" إلى أن السُّنن والنوافل بمثابة التَّوطئة، وإعداد النَّفس للدخول في الفريضة على الوجه الأكمل.
وكثيرٌ من الناس يَعْقد الآمال بفِعْل جملة من الطَّاعات في شهر رمضان؛ فإذا ما أتى الشَّهر: (أَصبح خبيثَ النفْسِ كَسْلان)؛ وذلك لأنَّه لم يحلَّ عقدة العادة والكسل والقعود.
والعزيمة لا تكون إلاَّ فيما لا تألَفُه النُّفوس أو لا تحبُّه، فتحتاج النَّفْسُ إلى المُجاهدة في معرفة فضل ذلك العمل المكروه إليها، ثم في مجاهدة وارِدَات العجز والكسل؛ ولذلك قال الله -تعالى- عن الجهاد: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216].
وتَمارين العزيمة من صميم القِيام بحقِّ شهر رمضان، وتحصيل المغفرة فيه؛ لأنَّه لا قوة للنَّفْس ما لم تُعِدَّ العدة للطاعة؛ قال -تعالى-: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46]، وهاك أمثلةً من هذه التَّمارين؛ لِتَقيس عليها، والله يوفِّقك.
التَّمرين الأول: التدريب على تجويد التوبة:
فأوَّل واجبٍ للاستعداد لرمضان: التوبة؛ وذلك لأنَّ التوبة وظيفة العمر، تَلْزم العبدَ في كلِّ لحظة من لحظات حياته، قال -تعالى-: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، وكان -صلى الله عليه وسلم- يَسْتغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرَّة، وكان يُسمَع منه في المجلس الواحد مائة مرَّة يقول: «ربِّ اغفر لي وتب عليَّ؛ إنَّك أنت التواب الرحيم»؛ كما أخرجه الترمذيُّ وصححه الألبانيُّ.
وليست التوبة كما تُفعَل دائمًا، تقول: "تبتُ - بلسانك - أستغفر الله"، وقلبك لاهٍ غافل، أو تظنُّ أن التوبة هي التوبة من النَّظر إلى المتبرِّجات، أو التوبة من الكذب والغيبة والنميمة فقط لا غير، لا يا بن الإسلام!
إنني أريد التوبة هذه المرَّة من حياتك: أن نتوب إلى الله -تعالى- من نمط الحياة التي نعيشها، ومن نمط التَّفكير الذي نفكِّر به، توبة من الآمال العريضة التي نعيش لها، توبة من حياتنا كلِّها، أريد أن نتوب حقًّا، وأن نجوِّد التوبة، أريد أن نتدرب عمَلِيًّا على توبة جديدة جيِّدة.
أخي يا بن الإسلام، قبل دخول شهر رمضان جدِّد التوبة، وحسِّنها، وأتقِنْها، واصدقها، إنَّنا جميعًا بحاجةٍ إلى أن نتوب؛ لا من الذُّنوب والمعاصي فحسب - وإن كانت هي الأُولى والأَوْلى - ولكنَّنا بحاجة إلى توباتٍ أُخَر، نعم؛ أريد بعد التَّوبة من الكبائر الظاهرة والباطنة، والتوبة من المعاصي الملازمة والعارضة: أن نتوب من أشياء أُخَر، منها:
أولاً: التوبة من تضييع الأوقات:
1- الليل:
قال -تعالى-: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 10 - 11]، وقال -تعالى-: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17 - 18].
وحين وصَف الله -تعالى- عباد الرَّحمن قال عنهم: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64]، فهذه وظيفة اللَّيل في الإسلام: السُّكون والراحة، والخلوة مع الله -تعالى- للتعبُّد، هذا هو ليل المسلمين، ولكن - مع شديدِ الأسف! - انظر إلى ليل المسلمين هذه الأيَّام: يا حسرةً على العباد! تحوَّل ليلُ المسلمين إلى لعبٍ ولهو، ومعاصٍ وغفلة، وحوَّل بعضُهم ليلَه نهارًا، ونهاره ليلاً، وضاع اللَّيل، ضمن الأوقات الضائعة! ضاع الليل بساعاته الغالية، وأوقاته النَّفيسة، ضاع اللَّيل بِفُرَصِه الذهبيَّة، وفتوحاته الربَّانية، ضاع الليل وهم يقولون: شهر رمضان شهر السَّهَر!
هذه فرصتُك - يا بن الإسلام - فتقرَّب إلى الله -تعالى- وتُبْ مِن تضييع ليلك في المعاصي واللَّهو، وأثبِت صدق توبتك هذه بقيامك بين يدَيْه تُناجيه وتَسْتجديه أن يغفر لك، واللهِ - يا بن الإسلام - فرصة، فلا تضيِّعها.
2- الشُّرود الذِّهني في الفراغ:
أخي يا بن الإسلام، هل تمرُّ عليك أوقات تجلس صامتًا لا تفعل شيئًا؟! فقط تجلس شاخصًا ببصرك إلى الفراغ، وتفكِّر في لا شيء؟! هذا هو التَّجسيد الحقيقيُّ للغفلة، غفلة مُطْبِقة على القلب، على العقل، غفلة مستحكِمة، وكلَّما ازداد شُخوصك هذا زاد تمكُّنها منك، فتب إلى الله من ذلك، ولا تجلس فارغًا، اشغل لسانك وقلبَك بذِكْر الله، واشغل عقلك بالتفكُّر في هذا الذِّكْر، توبة يتبعها عملٌ صالِح.
3- مأساة المواصلات:
كم من الوقت يضيع منك يوميًّا في المواصلات أخي يا بن الإسلام؟! على الأقلِّ ثلاث ساعات يوميًّا، وكلها تضيع في معصية الله؛ من الاختلاط بالنِّساء، وإطلاق البصَر، وغيرها، ولو شئت في هذه الساعات لذكَرْت الله، فاغتنم هذا الوقت ولا تضيِّعه؛ فإنه يكفيك لآلافٍ من الذِّكر يوميًّا..
أيضًا: جوِّد هذه التوبة بيقينك أنَّ هذه الفترة فرصة سانحة لذِكْر الله -تعالى- والانشغال به.
4- النوم:
كثيرًا ما أكرِّر معك - يا بن الإسلام - أنَّ هذا الشَّهر يحتاج إلى هِمَّة عالية، وأصحاب العَشْر الساعات نومًا يوميًّا ليسوا ذوي هِمَّة عالية، بل أهل البطالة والكسل، فإذا قُلْتَ لي - كما يقول كثيرٌ غيرك -: إنني أحتسب نومي هذا لله، قلتُ لك: تحتسب عشر ساعات! بل وثمان أيضًا! كيف تحتسبها؟! الاحتساب أن تقول: يا رب، سأرقد فقط لأتقوَّى على طاعتك، وهل تتقوَّى على طاعة الله بعشر ساعات نوم؟!
أنا لن أحدِّد لك عدد ساعات نومك، ولكن أذكِّرك أن معظم هذا الوقت ضائعٌ من عمرك، فحدِّد أنت ما يكفيك، والتوبة من ذلك أن تتوب من الخِدَاع؛ بأن تعلم أنَّ الله الذي يُراقبك يعلم - سبحانه - ما يَكْفيك، فجوِّد التوبة ولا تُخادِع.
ثانيًا: التوبة من اللِّسان:
قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- كما عند التِّرمذي وصحَّحه الألبانيُّ: «وأعوذ بك مِن شرِّ لساني»، وفي حديث معاذٍ المشهور: «وهل يكبُّ الناسَ على وجوههم في النَّار إلاَّ حصائدُ ألسنتهم»؛ وهو في "مسند أحمد" وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع".
فهل يجرُّ عليك لسانُك إلا كلَّ شر؟! فأنت إن تركتَه أهلكَك: كذب، غيبة، نميمة، بُهْتان، رياء، عُجْب، احتِقار، زنا... فاللَّهم إنا نعوذ بك من شرور ألسنتنا، ومن مآسي اللِّسان في عصرنا:
1- مأساة التليفونات:
لا شكَّ أن ثورة الاتِّصالات التي حدثت في هذا العصر لها فوائد، ونفع الله بها المسلمين في جوانب، وخدمت الدَّعوة الإسلامية في نواحٍ متعدِّدة؛ لكن مأساة (التليفونات) في عصرنا عجيبةٌ، ولا بد لها من وقفة شرعيَّة، أيُّها الإخوة؛ فأكثر الناس اليوم يحمل أكثر من (تليفون) في جيوبه، والسُّؤال لك أيُّها الأخ المسلم الملتزم السُّنِّي، يا طالب الآخرة، ويا حريصًا على رضا الله: ماذا تصنع بهذا (التليفون)؟!
دعونا من المراوغة، وتعالوا نتكلم في الصَّميم: إنَّ وجود (التليفون) في يد كثيرٍ من الناس مجرَّد (مَنْظرة)، مِثل الناس، تقليد أعمى، فليس صاحبنا رجلَ أعمالٍ خطيرًا، ولا شخصيَّة مهمة، ولا يمثِّل (التليفون) بالنسبة له أيَّ دور ولا أثر، فما الذي كان؟!
الآفات الثلاثة التي يكرهها الله: «قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال»، كما في الصَّحيحين، اجتمعَتْ تلك الآفات الثلاثة في (التليفون)، فليس في هذه الاتصالات إلا القيل والقال، وفواتير (التليفونات)، وثمن (الكروت) صار إرهاقًا للميزانيَّة يُقتَطع من فم الأولاد، فتُبْ أخي يا بن الإسلام، وألق عنك هذا الجهاز قبل دخول رمضان، تستجمع شمل قلبك، وتفرِّغ هَمَّك للطاعة، ويقلُّ الانشغال.
2- القصص والحكايات والمنامات، وكرة القدم والفن:
اعلم أخي -يا بن الإسلام- أنَّ الكلام شهوة، حتَّى إنك تجد بعض الناس لا يكفُّ عن الكلام، وإنك إذا جلَسْت في مجلسٍ-وجرِّب ذلك- ساكتًا صامتًا تتأمَّل، نقِّل بصرك وأُذنك لتسمع الأطراف المتحاورة، تجد كلامًا فارغًا، وحواراتٍ سقيمةً، وحكايات عقيمة، قصصًا وحكاياتٍ، أخبارًا وروايات، كلها لا قيمة لها، تضرُّ ولا تنفع.
ومما زاد الطينَ بِلةً كثرة الافتراءات في ذِكْر المنامات، فتجد الكلَّ يؤلِّف ويحكي أنَّه رأى، والآخر يفتي ويؤوِّل، ومثله الكلام عن كرة القدم والفن... وأكثره زورٌ وبُهتان.
فتب إلى الله - أخي يا بن الإسلام - من القصص والحكايات قولاً وسمعًا، واغتنم الوقت بذِكْر الله - تعالى.
3- الوصف والمبالغات والنفاق والمجاملات:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الترمذيُّ وصححه الألباني: «مِن حُسْنِ إسلام المرء تَرْكه ما لا يَعْنيه»، وآفة الاختلاط بالنَّاس، وبدافع الفضول البشريِّ، والاستشراف للاطِّلاع على أسرار الخلق؛ يجعل كل ذلك شغف الناس بكثرة الكلام، ولكن المصيبة الأكبر أن يَحْصل نوعٌ من المبالغات أو التوسُّع في الوصف الدَّقيق لموضوعات لا تَحْتاج ولا تحتمل، والأبشع من كلِّ ما مَرَّ: المُجاملات الزائفة الكاذبة، والنِّفاق الاجتماعي المتبادَل، فهل من توبةٍ من هذا الخطر المستطير الذي يهدِّد بخسفٍ ومسخ وقذف؟!
4- التَّهريج والمزاح، والفحش والبذاء:
قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الترمذيُّ وصححه الألباني: «ليس المؤمن بالطعَّان ولا اللعَّان، ولا الفاحش ولا البذيء»، وقال فيما رواه ابن ماجهْ وصححه الألباني: «لا تُكْثِروا الضحك؛ فإنَّ كثرة الضحك تميت القلب».
صار من سِمات الباطل في عصرنا خفَّة الدم - زعموا! - وليس أثقل من كذوبٍ فاحش، يستضحك الناس بالباطل، والأخبَثُ في الموضوع أن يُشارك في هذا الأمر مَن يلتزمون بالدِّين، ويُظهرون حبَّ اللهِ ورسولِه، فيحوِّلون أكثرَ المواقفِ جديةً إلى مزاح!.. فاتَّقوا الله يا قوم، ونزهوا ألسنتكم عن فضول الكلام، فضلاً عن الفحش والبذاء، والتهريج والمزاح.
ثالثًا: التوبة من العلاقات:
1- معارف للظروف:
كثيرًا ما تسأل أحدهم: كم جزءًا قرأتَ من القرآن اليوم؟ ويكون الجواب: أنا أتمنَّى والله أن أقرأ؛ ولكن المشكلة، ليس هناك وقت! وحين تتساءل: أين ضاع الوقت؟ وكيف ضاع؟ فإنَّك ستجد أنَّ مِن أخطر ما يُضيع الوقت كثرةَ الاختلاط بالناس، إنَّنا نستهين بِمُكالمة لمجرَّد المجاملة، قد يضيع فيها نصف ساعة، ومصافحة و(كلمتين ع الماشي) بعد الصلاة أمام المسجد يضيع فيها نصف ساعة أخرى، وهكذا تضيع الأوقات بغير فائدة، والعبد مسؤولٌ عن عمره فيمَ أفناه؟!
فالرجاء - أخي يا بن الإسلام - قبل دخول رمضان أن تُحجِّم علاقاتك، أن تَختصر معارفك؛ فليس هناك مجال لأداء حقوق كلِّ هؤلاء.
والتوبة من هذا تكون بتحقيق الإخلاص في العلاقات، بإقامة صرح الحبِّ في الله؛ «وأن يُحِبَّ المرء لا يحبُّه إلا لله»، فتنضبط العلاقات بضابط الحبِّ في الله، والبُغْض في الله، فتكون عبادة.
2- مجاملات بالحرام:
في العلاقات الكثيرة المتشعِّبة لا بد من المُجاملة، وأحيانًا لا مجال للمجاملة إلاَّ بالكذب، أو على حساب الآخرين، وكلاهما حرام، فلا بدَّ من التوبة من المُجاملات: قل الحق ولو كان مُرًّا، والساكت عن الحقِّ شيطان أخرس، فلا تُجامِل بالحرام، وكُفَّ لسانَك.
3- الاختلاط المحرَّم:
أكبر آفات العلاقات أن تكون العلاقةُ آثمةً بين رجل وامرأة، مهما زعَموا أنَّها علاقة بريئة، دعونا نكون صُرَحاء: ليست هناك علاقةٌ بريئة، كلها علاقات محرَّمة.
إننا يا قوم عبيد! يحكمنا دينٌ يقوم على أمرٍ ونَهْي، وليس الحاكم في ذلك العادات والتقاليد، أو الهوى والشَّهوات، فتجب التوبةُ قبل دخول رمضان من كلِّ علاقةٍ آثِمة؛ حتى يطهر القلب.
رابعًا: توبة القلب:
1- التوبة من الخواطر:
أحلام اليقظة مُتْعة بعض الناس، فإيَّاك أخي يا بن الإسلام أن يقتلك الوهم، عِشِ الحقيقة، وإيَّاك وأحلامَ اليقظة، إيَّاك من الخواطر الرديئة، اجعل خواطرك تحت السيطرة، لا تدَعْها تخرج من تحت يدك؛ إنَّك إذا تركْتَ الخواطر ترعى في قلبك وعقلك بغير ضابطٍ ولا رابط، فستعيش الوهم وتصدِّقه، كم من أناسٍ عاشوا وَهْمَ المشيخة، وهُم ليسوا على شيء، وآخَرون قتلَهم وهْمُ طلب العلم، وعاشوا أحلام اليقظة في ثياب فضفاضةٍ ليست من ثيابهم.
أخي يا بن الإسلام، قبل رمضان عشِ الحقيقة، وانْسَ الوهم، وتُبْ إلى الله -تعالى- واعلم أن انشغالك بالعمل يُخْرجك من هذا الوهم.
2- التوبة من التعلُّق بغير الله:
قال -تعالى-: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81 - 82]، فإياك أخي يا بن الإسلام والتعلُّقَ بغير الله -تعالى- فالكلُّ سيَخْذلك، ويتخلَّى عنك، إلا الله العظيم، فلا تنشغِل بالآخرين، واجعل انشغالك به، تب من التعلق بالأسباب، والتعلُّقِ بغير الله، وتعلَّقْ به - سبحانه.
3- التوبة من الأماني والتسويف وطول الأمل:
قال الحسن البصريُّ - رحمه الله -: "ليس الإيمان بالتمنِّي ولا بالتحلِّي، ولكن ما وقرَ في القلب وصدَّقه العمل، وإنَّ قومًا غرَّتْهم أمانِيُّ المغفرة حتى خرجوا من الدُّنيا ولا حسَنة لهم، قالوا: نُحْسِن الظنَّ بالله، وكذَبوا؛ لو أحسَنوا الظنَّ لأحسَنوا العمل"؛ فاحذر أخي يا بن الإسلام مِن التَّسويف، واحذر من الاغترارِ بالأماني.
4- التَّوبة من العُجْب والكِبْر والغرور ورؤيةِ النفس:
وهذه الأمراض أيضًا تقتل الإيمان، وتَذْهب بالعبد إلى الجحيم، فالمُعجب مُحْبطٌ عمَله، ولن يدخل الجنة من كان في قلبه مثقالُ ذرَّةٍ من كِبْر، والغرور قتَّال، ورؤية النَّفْس تجعلك تَخْتال، فاحذر يا مسكين؛ فإنَّك لا تدري بمَ يختم لك، تب من كلِّ ذلك، وانكسر واخضع، وذلَّ لربك؛ لعلَّ أحد هؤلاء الذين تزدريهم قد سبَقك إلى الجنَّة بِمراحل، ولله في خلقه شؤون، فاحذر؛ عجِّل بالتوبة، ومن تواضع لله رفعه.
خامسًا: التوبة من الكسل:
1- كم بين العلم والعمل:
ونحن على أبواب رمضان، والكلُّ - بلا استثناءٍ - يعرف فضائل رمضان، ويَحْفظ الوعودَ على الأعمال، ولكن ماذا أفاد هذا العِلم؟! وبمَ نفع الحفظ؟! أين العمَل؟!
تُبْ أيُّها المسكين من الكسل؛ فقد استعاذ النبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- منه، فقالَ كما في الصَّحيحين: «اللَّهم إنِّي أعوذ بك من الهمِّ والحزَن، والعجز والكسَل، والبُخل والجبن، وضلَع الدَّين، وغلَبة الرِّجال»، فاستعِذ بالله، وانتفض قائمًا، واعْمَل بما علِمْت، هذه توبة.
2- ضعف اليقين في الوعد والوعيد:
قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الترمذيُّ وصححه الألباني: «من قال: سبحان الله وبحمده، غُرِسَت له نخلةٌ في الجنَّة»، إنَّ هذه الكلمة لا تستغرق أكثرَ من ثانيةٍ واحدة، فلو ثبت يقينُك في هذا الوعد، وأنَّك تَكْسب بالثَّانية الواحدة نخلةً في الجنة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الترمذيُّ وصححه الألباني أيضًا: «ما من نخلةٍ في الجنَّة إلا وساقُها من ذهب»؛ فوَزْنُ ساق نخلةٍ من ذهب مئات الكيلوات، هذا ثمن كلِّ ثانية من عمرك، وأنت تضيعه شذرَ مذَر! ولا تُبالي ولا تذَر! وإنما أُتِيتَ من ضعفِ يقينك، فلو ثبتَ يقينُك في ذلك الوعد ما ضيَّعت لحظةً من عمرك، وما ركَنْتَ إلى الكسل، وترْكِ العمل.
3- التَرَخُّص المهين:
بعض الناس يريد التفلُّت من الدِّين، ولكن بِدين! فهو يبحث عن الرُّخص، ويتَّخِذ الخلاف بين العلماء مسوِّغًا للهروب، فكلُّ المسائل عنده فيها خلافٌ بين العلماء، وهو يرجِّح فيها بِهَواه، ويَخْتار ما يوافق شهوته، ويظنُّ أنه على شيءٍ: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 18 - 19]، فتُبْ أخي يا بْنَ الإسلام من هذا الترخُّص المَهِين، واستعن بالله على الأخذ بالعزائم، والعمل الجادِّ المُثْمِر، والله المستعان.
وقد جعلت الكسل آخرَ هذه العناصر؛ حتى لا نكسل في التَّوبة، فلْنُسارع الآن، حالاً، ونَتُبْ إلى الله، فهذه توبةٌ لازمة، ليست لرمضان فحسب، ولكنها لازمةٌ استعدادًا للموت، فقد تموت الآن، في هذه اللحظة، إذًا: فتب يا عبد الله، ولا تسوِّف.
التمرين الثانِي: التدريب على تهدئة نمط الحياة:
تخفيف سرعة حركة الحياة؛ تمهيدًا للتوقُّف في رمضان، والتخفيف من أعباء الدُّنيا، ومحاولة إزالة همومها العارضة، والحذر من الانشغال بها، والتلهِّي بها عن طاعة الله -تعالى- لا بد من رَوِيَّة، ولا بدَّ من دقَّة في التوفيق بين أعمال الآخرة التي هي خير وأبقى، وبين أعمال الدُّنيا التي هي ذاهبة زائلة.
إنَّنا نعيش في هذا الزمان حياةً مليئة بالحركة والسُّرعة، نعيش في هذه الأيام سرعة التَّغيير، ودوام التغيير، ومفاجأة التغيير؛ فلا توجد فرصة حقيقيَّة للإنسان للتفكير قبل التغيير، وهذه أكبر أخطاء هذا العصر؛ لذلك قبل رمضان نحتاج أن يُمْهِل الإنسانُ نفْسَه، يعطي نفسه فرصةً للهدوء الذِّهني والقلبي، فرصة لِمُراجعة نمط الحياة، وتهدئة هذه السُّرعة؛ ليحصل التروِّي والتعقُّل في أخذ القرار بإيثار الآخرة على الدُّنيا، فيكون الاستمرار؛ لأنَّ القرارات السريعة تتغيَّر بنفس السُّرعة، فهيَّا - أخي يا بن الإسلام - هيا أيها الحبيب، الهدوءَ الهدوءَ، والسكينةَ السكينةَ.
أخي يا بن الإسلام، قال الله -تعالى-: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وقال جابرٌ - رضي الله عنه -: " «لا تَجْعَل يوم صومِك كيوم فِطْرِك"؛ لا تجعَلْهُما سواءً، لا بُدَّ من التَّغيير، إنَّه بمجرد ظهور هلال رمضان في السَّماء، تُفتح أبواب الجنَّة، وتغلَّق أبواب النار، وتُصَفَّد الشياطين، ويُنادي المنادي».
سبحان الله: تغيُّر جذري عجيبٌ في الكون كلِّه، يجب أن يستشعره المؤمنُ صاحبُ العقل اليقظ والقلب الحي، ويحصل منه استقبالٌ لِهذا الشهر استقبالاً حقيقيًّا، فيظهر أثرُ ذلك الاستقبال في تغيير نمط الحياة؛ لأنَّه يتعامل مع الكون، فإذا تغيَّر الكون يجب أن يتغيَّر هو أيضًا؛ ولذلك فإنَّ أول ما تستقبل به هذا الشهر الكريم لِتُحْسِن استثماره على الوجه الأكمل: فكُّ الشدِّ العصبي في العراك مع الحياة لتحصيل المُصالحة، لا بُدَّ من عقد هدنة بين جميع الأطراف خلال هذا الشهر؛ لتصل إلى الهدف المنشود بسلامٍ: "العتق من النِّيران".
فاحرص - أخي الحبيب يا بن الإسلام - على:
(1) هُدْنة مع المناقشات والجدال:
في المَنْزل مع الزَّوجة والأولاد، واجتهد في تَهْيئة بيئةٍ رمضانيَّة إيمانية، قال -تعالى-: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} [النحل: 80]، ويكون ذلك بما يَلي:
* محاولة فضِّ جميع المشاكل والمنازعات قبل دخول الشَّهر؛ حتَّى لا تُعَرقل طاعتك التي تريد القيامَ بِها، وحتَّى لا تعكِّر عليك جوَّك الإيماني.
* إجراء مَحاضر صُلْح بين جميع أفراد الأُسْرة، حتى تُنَقِّي البيئة من حولك من شائبة الاختلافات والخصومات، واعمل على أن توجِد جوًّا من المحبَّة والتوادِّ والتَّقارُبِ بينؤ أفراد الأُسْرة؛ فإنَّ ذلك مما يُيَسِّرُ السبيل أن يطيعوك ويطيعوا ربَّهم: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء: 53].
* عَقْد اجتماعٍ طارئ وعاجل مع جميع أفراد الأسرة؛ للاتِّفاق على المبادئ والأصول التي سيتمُّ السير في ظلالها خلال شهر رمضان، ومن هذه المبادئ:
*التخلِّي عن التليفزيون ومشاهدته، وإقناعهم أنَّهم لن يخسروا شيئًا إذا فعلوا، وتعالوا نجرِّب أن نستبدل بذلك أعمالاً إيمانيَّةً، وقرباتٍ نافعة، وانتفع من مادَّة هذه الكتاب في هذه الأعمال والقربات.
* إيقاف سيول الأغاني الجارفة التي تَقْتل الإيمان.
* ضَبْط اللِّسان، والحذر من انحرافه إلى ما يغضب الله.
* إلغاء جميع السَّهرات والعزومات والدعوات، أو التَّقَلُّل منها قدر الإمكان.
* اتِّخاذ السُّبل الجادة لإنقاذ جميع أفراد الأسرة من النَّار؛ قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
(2) هدنةٌ في العمل مع الزملاء والمسؤولين:
وذلك يكون بالتَّجاوز عن الخصومات، ومصالحة الجميع، ونسيان الخلافات، والبَدْء بصفحة نقيَّة بيضاء، لا نريد زوبعة المشاكل في العمل، ولا نريد الانشغال بقيل وقال، لا نريد ضياع الأوقات في فُضول الكلام، ولا بدَّ من الإصلاح بين المُتخاصمين، والوصول إلى حلٍّ وسط لإرضاء جميع الأطراف، بشرط ألاَّ يكون في معصية الله، قال -تعالى-: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1].
نريد أن يكون تعامُلُك مع الزملاء في العمل مبنِيًّا على حصول المكاسب لك في الدِّين، وإن خسرْتَ الدُّنيا، ولا بدَّ كذلك من إتقان العمل وإحسانه، ولا سيَّما وأنت صائم تُراقب الله، قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو يَعْلى، والطَّبَراني، وصحَّحه الألبانيُّ: «إن الله يحبُّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يُتْقِنه».
(3) إقامة هدنة مع نفسك؛ للتخلُّص من سموم القلب:
وسموم القلب خمسة: فضول الطَّعام، وفضول الكلام، وفضول النَّوم، وفضول الاختِلاط، وفضول النظر.
* فلْتَعقد هدنةً مع الطعام؛ فإذا أكل المرءُ كثيرًا، شرب كثيرًا، فنام كثيرًا، وخسر كثيرًا؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: «ما ملأ ابنُ آدم وعاءً شرًّا من بطنه، بِحَسْبِ ابنِ آدم لقيمات يُقِمن صلبَه، فإن كان لا بدَّ فاعلاً، فثُلثٌ لطعامه، وثلُث لشرابه، وثلث لِنَفَسِه»؛ كما روى ابن ماجهْ وصحَّحه الألباني.
وقال -تعالى-: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه: 81]، فلتكتَفِ بلقيماتٍ كما أُمِرت.
* ولتعقد هدنةً مع الكلام: رجاءً، أغلق فمَك في رمضان، قال -صلى الله عليه وسلم- كما في "الصحيحين": «من كان يؤمن بالله واليوم الآخِر، فلْيَقُل خيرًا أو لِيَصمت».
وانتبه؛ فكلُّ كلمة تخرج من فمِك فهي إمَّا لك وإما عليك؛ إما ثواب وإما عقاب، قال -تعالى-: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، وكثرة الكلام مَدْعاة للخطأ؛ قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أحمد وصححه الألباني: «من صمتَ نَجا»)، فلا تتكلَّمْ إلا لطاعةٍ، وأحجم لسانَك عن قول ما لا يُرضي الله، فقد سُئل النبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن أكثرِ ما يُدْخِل النَّاسَ النارَ، فقال: «الفَمُ والفرْج»؛ كما رواه أحمد، وصحَّحه الألباني.
وهما أيضًا سببٌ لدخول الجنَّة؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم- كما في "صحيح البخاري": «من يضمن لي ما بين لَحْييه وما بين رِجْليه، أضمَنْ له الجنَّة».
وهذا يدلُّك على خطر اللِّسان، وخطر ما يخرج منه، فلا تتكلَّم - أخي يا بن الإسلام - إلاَّ إذا ترجَّحت المصلحة، أمَّا إذا تساوَت المصلحة مع المفسدة فلا تتكلَّم، فضلاً عن أن المفسدة إذا زادت فلا تتكلَّم.
* ولْتَعقد هُدنةً مع السَّرير: دعْه يستَرِح منك شهرًا، نحن نعترف أنَّ النوم نعمةٌ من الله -عزَّ وجلَّ -على عباده، لكن إذا أساء العبْدُ استخدامها، وتعدَّى بها إلى حدِّ الإفراط، أفسدَتْ قلبه؛ فاحذر كثرةَ النَّوم؛ حتَّى لا يضيع عمرُك، ويضيع دينك وقلبك.
كلَّما حدَّثتْك نفْسُك بالنَّوم والتكاسل في العبادة، فأغمِض عينك، وتخيَّل الجنَّة، وقل لنفسك: أترضَين أن نخسر الجنة؟! أتنامين وهناك من يسبقنا إلى الجنَّة؟! أما علمتِ أنَّ فلانًا يتلو القرآن الآن، وفلانًا يصلِّي من الليل الآن، فماذا سيفيدك النوم إذا سبقَكِ هؤلاء إلى الجنَّة بدرجاتٍ؟! ولذلك أنصحك - أخي يا بن الإسلام - أن تجعل لك صديقًا مخلصًا ذا همَّة عالية، تتنافس معه في العبادات؛ {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26].
* ولْتَعقد هدنة مع النَّاس: فأنفاسُ الناس دُخَان القلوب، ومُخالطة الناس بلاء، ولا سيَّما هذه الأيَّام، قال بعض السَّلَف: "هذا أوان السُّكوت، ولزوم البيوت"، فاحْذَر مُخالطة أهل الدُّنيا؛ فَإِنَّ خَلاَئِقَ السُّفَهَاءِ تُعْدِي فإن كان لا بدَّ من المُخالطة، فلتكن يسيرةً، ولتكن بالصَّالحين، وعليك بِذَوي الهمم العالية منهم.
* ولْتَعقد هدنة مع العين: أرِحْ بصرك حتى تنطلقَ بصيرتُك، وسبيل ذلك أن يسَعَك بيتُك، ولا تنطلق في الشَّوارع، اشْغَل نفسك ببعض الطاعات، لا تَجِدْ وقتًا للخروج، واشغل بصرك بالنظر إلى المصحف لا ترَ أحدًا.
(4) هدنة مع الوالدين والأرحام:
إن مجرَّد شعورك أن كلَّ الناس يحبُّونك، ويُعجبون بك، وأنه ليس لك أعداء، ولا أحد يَحْقِد عليك، هذا الشُّعور بِمُفرده يجلب راحة نفسيَّة، وهدوءًا قلبيًّا، وراحةَ ضمير، وراحة بالٍ، وكلها مطلوبةٌ يَحْتاج الإنسان إليها.
إنَّنا نطلب ذلك لا لنُعجَب بأنفسنا وراحتنا فقط، ولكن لنستطيع أن نَجْمع الهمَّ؛ كي نَعْبد ربَّنا كما ينبغي، فأحسن أخي إلى الجميع، وأرِح الجميع ولو على حساب نفسك، سامِح الكلَّ، وتنازل عن الحقوق، وأدِّ جميع الواجبات تُجَاه الجميع، ابْذل كلَّ ما تستطيع لعقد هدنة مع كلِّ مَن حولك من الأقارب.
(5) هدنة مع نفسك لِتَرك الذنوب والمعاصي:
هدنة في الحرب مع الله، قال -تعالى-: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]، ابدأ فورًا بإقامة العهد مع النفس بالإقلاع عن الذُّنوب، والتوبة إلى الله، والعَزْمِ على عدم العودة بنيَّة حقيقيَّة صادقة.
(6) هدنة مع طول الغياب خارج المنزل، وكثرة الارتباطات والمواعيد واللقاءات:
تفرَّغ في رمضان لعبادة ربِّك، لِمُعالجة نفسك، والعمل على تهذيبها، أنت في فترة عنايةٍ مركَّزة للقلب، فلماذا تُكْثِر الخروج من البيت لغير فائدة؟! تشتري كذا! وتزور فلانًا! وتكلِّم فلانًا!
يُمْكِنُك أن تشتري حاجيات رمضان قبل دخوله؛ حتَّى لا تنشغل بغير العِبادة، يُمْكنك أن تشتري ملابس العيد قبل دخول رمضان، وتتركها حتَّى العيد، والأشياء الأخرى التي تُرِيدها في العيد اشتَرِها من الآن.
سأل عقبةُ بن عامر رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عن النَّجاة، فقال: «أمسِكْ عليك لسانَك، ولْيَسعْك بيتُك، وابْكِ على خطيئتك»؛ رواه الترمذيُّ، وصححه الألباني.
(7) هدنة مع كثرة الإنفاق والتبذير:
شُرع الصيامُ للتقليل من الطَّعام والشراب، ولكن - للأسف الشديد - تجد النَّاس يُنْفِقون مِن الطعام والشَّراب في رمضان ما لا يُنْفِقونه في غيره، والتَّبذير ليس من صفات المؤمنين، بل من صفات الشياطين، ويمكنك أن تتَّفِق مع الأسرة على أمورٍ، منها: الاتِّفاق على:
* الصَّدقة؛ فهي دليلٌ على صِدْق المرء في إيمانه، فاتَّفِق على أن تتصدَّق كلَّ يوم ولو بشيءٍ قليل؛ فإنَّ الله يضاعفه، تصدَّقْ أنت مرَّة، وأعط زوجتَك هي الأخرى تتصدَّق مرَّة، وأعط ولدَك يتصدَّق؛ ليتعوَّد الجميعُ على العطاء والبذل، والله يُضاعف لمن يشاء.
* الاجتهاد في تَفْطير صائمٍ، أو صائمين، أو ثلاثة، أو عشرة كلَّ يومٍ قدر استطاعتك؛ فإنَّ لك مثْلَ أجْرِه كلَّ يوم.
* إطعام المساكين ومساعدة المُحتاجين.
(8) هُدْنة مع العقول والقلوب من التَّفكير والتدبير للدنيا:
فالدُّنيا لا تستحِقُّ أن تفكر فيها؛ فهي أهون من ذلك، وأحقَرُ من أن تنشغل بها وتدبِّر لها، لذلك اجعل تفكيرك كلَّه في الآخرة:
* فكِّر في حسنةٍ جديدة تعمَلُها، ابحث عن عبادةٍ مهجورة لتقوم بها، ابحث عن ذِكْرٍ مهجور لا يقوله كثيرٌ من الناس، أو لم تَقُله أنت أبدًا، واذْكُر الله به، فكِّر كيف تجمع الحسنات، وتدَّخِر الأجر عند الله.
* فكِّر في خدمة المسلمين، كيف تخدمهم وتبذل الخير لهم؟
* فكِّر في خدمة الدِّين، كيف تخدم دينَك؟ وكيف تبذل في سبيله؟ تعطي شريطًا هديَّة، تقوم بإلقاء موعظة، تُهدي كتيبًا، تدعو رجلاً لترك التدخين، وتدعو آخَر للمحافظة على الصلوات، تقوم بعمل مجلَّة حائط، تقوم على حلقةٍ لتحفيظ القرآن وتجويدِه، تفكِّر في خدمة دينك، فدينُنا يحتاج إلى كلِّ يد تكتب عنه، وتُدافع عنه، وإلى كل لسان يُبَيِّنُ حقيقته وعظمته للناس، وإلى كل قلب ينبض بحبِّه، وأنصحك بكتاب "33 وسيلة لخدمة الدِّين" لشيخنا/ "رضا صمدي" - حفظه الله - فإنَّه ينفعك كثيرًا - إن شاء الله تعالى.
* فكر في لذَّةٍ أخروية، فكر كيف تفوز غدًا بالجنة؟ كيف تستشعر قرب الله إذا ذكَرْتَه؟ كيف تحقِّق الخشوع في الصَّلاة؟ كيف تخلو بربِّك في ساعة النُّزول الإلهيِّ؟ كيف تبكي بين يديه، وتفزع إليه، فتَشْعر بِقُربه منك، وقربك منه، وحبِّه لك؟ فكِّر دائمًا في الآخرة، كيف تَحْظى برضا الله عنك، وحُبِّه لك؛ فإنَّ ذلك أدعى إلى الوصول إلى كلِّ مأمول، والله -تعالى- المُسْتعان.
(9) هُدْنة مع استهلاك الأعضاء:
ففي رمضان أرِح عينيك بعدم التطلُّع إلى الدنيا وما فيها من شهوات، وأرِح أُذنيك من ضجيج الكلام وصخب الهموم والغموم والمُحرَّمات، وأرح رجليك من كثرة الانتقال هنا وهناك من غير فائدة، وأرح عقلَك من هموم الدُّنيا ونكدِها، وانشغل بالطاعات، وأرح معدتَك بعدم دسِّ الطعام فيها على الدوام، وأرح أمعاءك كذلك، وأرِح قلبك من التعلُّق بالبشر، والتعلُّق بالأسباب، اجمع هَمَّك - أخي يا بن الإسلام - وأرح جوارحك، تستَمْتِعْ بحبِّ الله - تعالى.
(10) هدنة مع الهموم:
أريدُك أن تطرح الهمومَ عن صدرك، لا تشغل ذِهْنَك بها؛ فهذا رجلٌ طلب منه أولادُه ملابس المدرسة، وكتب المدرسة، وكراريس المدرسة، فلم يَدْرِ من أين يأتي بالمال؛ لكي يشتري لأولاده ما يريدون، وظل الهمُّ في صدره، ونام وعقْلُه مشغولٌ بذلك، ولكنه استراح من ذلك الهمِّ فجأة! أتدرون ماذا حدث؟! مات! راحة أبديَّة من هذه الدنيا! لذلك أقول لك: والله إن هذه الدُّنيا لا تستحقُّ أن تقتل نفسك من أجْلِها، ولذلك أيضًا: اجعل الهمَّ هَمًّا واحدًا، وهو رضا الله، اجعل هذا هَمَّك: أن تُرضي الله وحده، فلو رَضِيَ عنك، لنالك كلُّ بِرٍّ وخير، وبرَكةٍ وفضل.
هذا الهمُّ لا يُؤَجَّل، وجميع الهموم تُؤَجَّل، فليكن هَمُّك في رمضان هو عِتْقَ رقبتك من النَّار، والفوز برضوان الله العزيز الغفَّار - تبارك وتعالى.
فيا بن الإسلام: إذا كانت هذه الهدنة تامَّة، كانت الراحة التامَّة، فكان الاستقبال لرمضان بحفاوةٍ بالغة، وبداية مُوَفَّقة، وعناية مركَّزة، فتعيش رمضان حقيقةً كما ينبغي، وتحافظ دائمًا على إشراقتِه الإيمانيَّة، والله الموفق.
التمرين الثالث: التدريب على تعظيم الشعائر:
غفلة القلب من أضرِّ الأشياء على العبد؛ ولذلك لا بدَّ في الاستعداد لرمضان من التدريب على يقظة القلب، ولا شكَّ أن من يقظة القلب أن يُراعي شعائر الله، وأن يعطيها حظَّها من التوقير والتعظيم وحِفْظ الحرمة، وهذا مطلبٌ خطير، يجب أن يُراعَى في رمضان.
يجب أن نكون من داخلنا خائفين قلقين أن يفوتنا رمضانُ من غير أن نُعتق من النار، ونُكتبَ من أهل الجنة؛ أصحابُ السبت لَمَّا لم يُعظِّموا أمْرَ الله في عدم الصَّيد يوم السبت مسخَهم الله قردةً: ﴿ {فَلَمَّا عَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166]، والله -تعالى- يقول: ﴿ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 183]؛ فهذا أمرٌ وفَرْض، وشعيرة عظيمة، مَن عظَّمَها فهو التقيُّ؛ قال -تعالى-: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
التَّمرين الرابع: التدريب على استقامة القلب:
لكي نستعد لرمضان؛ لا بُدَّ من استقامة القلب، بأن يكون الله أحبَّ إلينا من كلِّ شيء، فنُقَدِّم محبَّتَه على كلِّ شيء، وأن نعظِّم أمره ونهيه؛ لأنَّ تعظيم الأوامر والنواهي من تعظيم الآمِر والنَّاهي، وأن نقوم بعمليَّة تطهيرٍ ظاهري وباطني، ويكون ذلك بأمورٍ، منها:
1- التعلُّق بالله:
أن يتعلَّق القلب بالله وحده، وإنَّ من أكبر عوامل فساد القلب التعلُّقَ بالأسباب، لا تظنَّ أنك بهذه الأسباب وحْدَها ستُوَفَّق لطاعة الله؛ بل لا بدَّ من عون الله لك، لا بدَّ أن يتعلق قلبُك بالله؛ فأنت لا حول لك ولا قوَّة، والحول والقوة لله وحده، ومن أخطر نتائج التعلُّقِ بالأسباب أن يَحُول الله بينك وبين قلبك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]، لا بدَّ لك من شوقٍ مُحْرق، يأخذ بيدك إلى ربِّك، وقد تناولتُ هذه المسألة من قبل.
2- استيعاب القلب لأسرار الطاعات، واستلهام حلاوة الإيمان:
فإذا فَقِه القلبُ أسرار الطاعة، وذاق لذَّتَها، انصلح حالُه، وآفة أعمالنا أنَّها تجري على الشكليَّات والمناظر، وما يبدو في الظاهر، هكذا نشَأْنا؛ نؤدِّي العبادات كما رأينا آباءنا وأجدادنا يفعلون، دون دراسةٍ لأسرارها، أو فقهٍ لِرُوحها، ومن ثَمَّ ضاع أثرُها، فعُدْتَ ترى صلاةً بغير خشوع، وقرآنًا بغير تدبُّر، وصيامًا بغير تبتُّل، وحجًّا وعمرة بغير حبٍّ وشغَفٍ وشوق... كلُّ العبادات تؤدَّى شكليًّا أداءً للواجب؛ ولكن دون وعيٍ صحيحٍ بأسرار العبادة؛ فكانت النتيجة أن تجد أعمالاً بغير نتيجة، ولا أثر لها على شخصيَّة العبد، وعلى حاله مع الله!
إنَّنا - يا بن الإسلام - إذا أرَدْنا أن نذوق طعم العِبادة، ولذَّة الطاعة، فلا بُدَّ من معرفة حقيقيَّة لأسرار العبادة، ورمضانُ له أسرار، وأسرار الصِّيام أعظم، وسأَذْكُر لك - أخي يا بن الإسلام - طرَفًا من أسرار بعض العبادات فيما بعد - إن شاء الله تعالى.
التمرين الخامس: التَّرويض على الانكسار لله - عزَّ وجلَّ:
قال -تعالى-: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7]، إنَّ رؤية الإنسان لنفسه بعين الغِنَى تجرُّه إلى الطغيان ومجاوزة الحدِّ، فلا يليق بالمؤمن إلاَّ الفقر، وهو أصْلُ خِلْقته، ولكن هذا الفقر الداخليَّ يحتاجُ إلى استشعار حقيقيٍّ؛ لِيَظهر أثَرُه على الجوارح وفي الفكر والتعبُّد.
ومعلومٌ أن الفقر وصفٌ ذاتي لكلِّ مخلوق، وصفٌ لازم له، كما أن الغِنَى وصْفٌ ذاتِيٌّ للخالق - جلَّ وعلا -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]، فلا بد أن تُظهر فقرَك وذُلَّك وانكسارَك بين يديه - سبحانه وتعالى - والطاعات مدَدٌ وأرزاق، وحينما تدخل على المَلِك وأنت فقيرٌ يعطيك، وإذا دخَلْتَ عليه وأنت مُسْتعلٍ طردَك؛ لا بُدَّ أن تدخل بفقرك وضعفك وحاجتك ومسكنَتِك.
وهذا الباب - باب الذُّل - بابٌ عظيم يوصل إلى رضا الربِّ الكريم - جلَّ جلاله - كما قال بعض السَّلَف: أتيتُ الله من الأبواب كلِّها، فوجدْتُها ملأى، فأتيتُه من باب الذُّل، فوجدتُه خاليًا.
إنَّ إظهارك الافتقار لله يستجلب لك رحمته وعفْوَه؛ فأنت فقيرٌ إلى الله، والله غنيٌّ عنك وعن عمَلِك، وكل ما تعمل من عملٍ إنَّما هو لِنَفع نفسك: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [يونس: 108]، فالله -تعالى- لا تنفعه طاعةٌ، ولا تضرُّه معصية، ولو أنَّ خلْقَه كلهم؛ أوَّلَهم وآخرهم، وإنسهم وجِنَّهم كانوا على أتقى قلب رجلٍ منهم، ما زاد ذلك في مُلْكِه شيئًا، ولو أن أولهم وآخرهم وإِنْسهم وجِنَّهم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحد منهم ما نقص ذلك من ملكه شيئًا.
الكاتب: محمود العشري.
- التصنيف:
Mohamed farouk
منذ