المنافقون - (12) تدليس وتلبيس المنافقين
المنافق تابع لمصلحته أينما كانت فثم وجهه؛ لذا فبمجرد أن يبدو له زوال تلك المصلحة من صف المؤمنين - يسارع بالمغادرة، يسارع في الكفر {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [سورة المائدة 52]، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ}، [سورة المائدة 41] ، {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ۚ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ۗ يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة آل عمران 176].
والزلازل أيضا تظهر المنافق بمجرد أن تتعقد الأمور ويشتد البأس بالمؤمنين يكشف المنافق عن وجهه القبيح إنه ببساطة شخص لا عقيدة له أو إن شئت فقل: عقيدته مصلحته... مصلحته وحسب.
لأجل ذلك لا يستطيع المنافق الصبر على أي بلاء أو تحمل أي أزمة بينما يمكن للكافر الأصلي أن يفعل.
نعم.. قد تبدو هذه مفاجأة للبعض لكنها الحقيقة الصادمة الكافر لديه عقيدة يصبر عليها، ويبذل لأجلها بل ويتواصى مع إخوانه في الكفر على الصبر عليها {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} .
أما المنافق فهو تابع لمصلحته أينما كانت فثم وجهه؛ لذا فبمجرد أن يبدو له زوال تلك المصلحة من صف المؤمنين - يسارع بالمغادرة، يسارع في الكفر {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [سورة المائدة 52]، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ}، [سورة المائدة 41] ، {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ۚ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ۗ يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة آل عمران 176].
تأمل اللفظ القرآني المتكرر الذي يظهر سلوكهم بدقة مذهلة "يسارعون" إنهم لا يطيقون المكث لحظة في جانب يظنونه خاسرا، لا يستطيعون البقاء لوهلة في الصف المبتلى، لا يملكون انتحال شخصية المؤمن أو حتى استكمال المشهد الذي اجتهدوا في رسمه؛ لذا تأتي المسارعة، ولا يأتي بعدها حرف الجر "إلى" ، بل هم يسارعون "فيهم" في أعداء الدين والملة، وكأنهم لم يكونوا يوما منفكين عنهم ليذهبوا إليهم إنما هم منهم وفيهم والتذبذب بين الجانبين كان مؤقتا ظاهريا حين ارتبط بالمصلحة لكن حقيقة الأمر أنهم أميل إليهم {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِين} (النساء:141).
هكذا يتنقلون بين المعسكرين تبعا للمصلحة العاجلة كالشاة الحائرة بين قطيعين هكذا شبههم النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى الإمام مسلم في صحيحه في "كتاب صفات المنافقين وأحكامهم" من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ؛ تَعِيرُ إِلَى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً» -وفي رواية: «تَكِرُّ فِي هَذِهِ مَرَّةً وَفِي هَذِهِ مَرَّةً» ، وهذا كله يظهره الزلزال {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} نزلت هذه الآية تعليقا على غزوة ربما لم يشهد المسلمون الأوائل في خطورتها غزوة استحقت أن توصف أحداثها بالزلزلة "الأحزاب" اجتمع العرب عليهم ورموهم عن قوس واحدة وساقوا إليهم جيوشهم وأبطالهم يحاصرون المدينة من جل جهاتها بينما يخون اليهود في الجهة المتبقية.
تزيغ الأبصار... تبلغ القلوب الحناجر... تُظن بالله الظنون... عندئذ لم يتمالك المنافقون أنفسهم مباشرة وفي الآية التي تلي وصف الزلزال الذي أصاب المؤمنين - يتكلم المنافقون {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}.
قال المنافقون تلك الكلمات تعليقا على وعود صدرت من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك اللحظات الصعبة أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني الساعة هذه البشرى قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الأثناء أثناء الزلزال الشديد هنا تكلم المنافقون ماذا تقول؟!
فى تلك الأحوال العصيبة فى هذه الظروف القاسية؛ تبشرنا؟!
تبادل المنافقون نظرات ذات مغزى، وسرى بينهم حديث بلغة العيون، فحواه التكذيب، و خلاصته الاستهجان، إنها الوجوه المتشككة نفسها؛ التي تطل في كل ابتلاء واختبار وجوه مستريبة، تعلوها غبرة النفاق، وتظهر على قسماتها قترة الحقد، والتربص، وكأن عيون الحقد و النفاق تتراسل قائلة نحفر خندقًا لأول مرة فى تاريخ العرب، وقد رمتنا قبائلها عن قوس واحدة، بعدد لم تشهده حرب فى جزيرتنا قط، ومحمد يعدنا أرض الروم؟!
قطع سيل أفكارهم، ونظراتهم؛ صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم «الله أكبر... أُعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض من مكاني هذا، أخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليهم فأبشروا بالنصر» بشارة نبوية أخرى نظرات الريبة تزداد حدة، ويتواصل حوار العيون من جديد؛ أي مدائن يعني؟! أويقصد مدائن كسرى؟ هل غرَّ هؤلاء دينهم لهذه الدرجة؟ كسرى!! أنى لنا بكسرى، وقيصر؛ ونحن لا نعلم ماذا يفعل بنا العرب غدا، أو بعد غد؟!
انقطع سيل الأفكار، وتمزقت خيوط الظنون من جديد، حين تعالت البشارة النبوية يجللها التكبير: «أُعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة» واليمن أيضا؟؟!! إن هذا لشىء عُجاب!
هكذا تسارعت الأفكار لرءوس المنافقين المظلمة، حملتها أعناقهم المتربصة ولسان حالهم الذي لم يلبث إلا أن صار لسان مقالهم {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا} خفافيش ظلام تكره النور، وتنفر من السرور الذي فاض من حروف الرسول (صلى الله عليه وسلم)، إلى قلوب الصادقين المُصّدِقين ألمجرد كلمات قالها نبيكم مثل هذا الأثر البالغ على قلوبكم أيها المصدقون؟! أم أنها العقيدة أنتم بها موقنون، والنصر المبين أنتم له منتظرون؟
هذا هو الفارق الجوهري بين من هم بموعود ربهم مؤمنون و بين المنافقين الذين لا يصدقون إلا مصلحتهم الآنية أما الأولون فلا يضيرهم رهق الخوف، ولا تنال منهم شدة الجوع، ولا يؤذيهم نقصان أمنهم؛ فإن جنانهم، وبساتينهم في صدورهم، في ظلال يقينها يرفلون، ومن ثمار صدقها يقطفون، وأما الآخرون فأسرى لخوفهم، يَصلون لهيب جبنهم وخورهم، ويتقلبون في جحيم حقدهم وشكهم، ويبحثون فقط عن حسابات مصلحتهم إنه الفارق بين من شعاره حين يرى جحافل الكفر قد احتشدت، و أحزابه قد تمالأت: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}، و بين من لا ينقطع عن التشكيك ناعقا: {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا}.
إن هذا الزلزال الشديد، الذى تعرضت له المدينة فى هذه الغزوة، كان كافيا لتتكشف الفوارق، و يحدث التمايز، كان كفيلا ليظهر من يعبد الله على حرف، و ما إن يأتى البلاء حتى ينكص على عقبيه، و يظن بالله الظنونا، فما إن جاءت الأحزاب، و اصطفت قريش و غطفان وفزارة و أشجع و مرة بجنودهم، حتى دارت أعين فى محاجرها، كالذى يغشى عليه من الموت أعين المنافقين أولئك الخوارين الذين لا يصلون صفا و لا يسدون ثغرا لا تجد منهم إلا التخذيل، و لا ينال المؤمنين من ألسنتهم الحداد إلا التخويف، و الإثقال والتعويق، و لا يأتون البأس إلا قليلا،
نداؤهم حينئذ {يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} يثرب! و ما يثرب؟!
ذلك الاسم الذي له وقع غريب على الأذن، وصدى عتيق في القلب، يذكر بأيام الشرك والظلام؛ يثرب! ألم يندثر هذا الاسم ويزل ذكره عن الألسنة؟ ألم يُنس هذا الاسم؛ وقد أبدلهم الله خيرًا منه، لما جاءهم الحبيب، فأنار من مدينتهم كل شيء، وصارت يثرب هي مدينة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه؟
منذ ذلك الحين صار اسمها المدينة النبوية وطيبة وطابة وطائب، وغير ذلك من الأسماء الحسنة التي امتن الله بها على مدينتهم فلماذا العودة إلي مثل هذا الاسم، الذي ارتبط في أذهان الجميع بعهود الشرك والضلال؟
إنه ترسيخ لمعنى الهزيمة ورجوع الأمور إلى ما كانت عليه بإعادة بعث للاسم والمصطلح القديم ومدلولاته ذات المغزى المعلوم تلميح إلى أن الأمر قد انتهى وأن الوضع القائم قد تغير وعاد لما كان عليه من قبل لقد ظنوا أن تكالب الأحزاب واستئسادهم ورمى العرب للمؤمنين عن قوس واحدة، سيجعل الزمن يعود إلى الوراء، فينصرم الأمر، وينتهي الخير، وينفض الخلق سوَّلت لهم أنفسهم أن يتخيلوا أن فتح الله للمدينة وإكرامها بنور الوحى، الذي أضاء جنباتها وقلوب أهلها، كان حلمًا جميلًا، سيستيقظ منه المؤمنون على أصواتهم القبيحة، وهي تؤذى أسماعهم بتلك الكلمات المثبطة؟
توقعوا أن إرجافهم وتشكيكهم سيفُت في عضد المؤمنين، أو يزعزع ثقتهم، أو يقوض عزائمهم؟ فهل استجاب المؤمنون؟ الجواب: لا.
لقد ظل الأمل في نفوسهم ولم تغادرهم الثقة بوعد الله واليقين فيه وما زادتهم رؤية الأحزاب وتمالؤها إلا إيمانًا وتسليمًا وقالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله، ومن هنا ثبتوا ثم انتصروا لما لم يفقدوا الأمل وتنهزم نفوسهم ولم يقولوا بلسان الحال أو المقال: يثرب لم يرضخوا لفكرة أن الأمر انتهى والواقع قد فرض بل هو ما وعدهم الله ورسوله وإن أرجف المرجفون وبدل المبدلون والمغيرون، ومن هنا يأتي النصر، وبضده يأتي الانكسار وتتحقق الهزيمة فما الانكسار إلا انكسار الإرادة، وما الهزيمة إلا هزيمة النفس، وما الوهن إلا ضعف قلب امتلأ بحب الدنيا والتعلق بها والفزع من كل صيحة يحسبها المرجف عليه، وكل ذلك لا يتسرب إلا تحت ستار من دخان التحريف والتدليس والتلبيس يتقن المنافقون نسجه.
أولئك الأشحة على الخير الذين لا ينفكون في لحظات البلاء عن الإرجاف و التعويق، ولا يملكون حين البأس إلا إعراضا وانسحابا وفرارا تماما كما فعل ابن سلول يوم أحد حين تراجع في اللحظات الحرجة بثلث جيش المسلمين، ومثلها حين تعذر المعذرون وقعد القاعدون يوم النفير لغزوة العسرة "غزوة تبوك" دوما يفتضح أمر المنافق في تلك اللحظات... البلاء... الاختبار... البذل ... التضحية... كلمات لا يفقهها المنافق بل لا يطيقها لا يتحملها {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ۖ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ۙ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ} [سورة محمد 20] .
مرة أخرى يأتي اللفظ القرآني معهم ليفضح مرض قلوبهم لفظ "رأيت" ستراهم... ستشاهدهم... ستعرفهم... { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ۖ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} إنها الرؤية من جديد سترى نفس النظرات الزائعة ستعرف الشح والخوف والخذلان ثم ستدهشك الخسة بعد ذلك { فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ۚ أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [سورة اﻷحزاب 19].
وكل ذلك عند المحك العظيم الذي نتحدث عنه محك البلاء الذي ينبغي أن تقابله تضحية وبذل ويحدوه صبر ويقين لا يعرفه المنافق ولا يفهم شيئا عنه وأنّى له أن يفعل وهو لا يفقه إلا مصلحته ولا يؤمن إلا بهواه ولا يعبد إلا إلها واحدا لا يعرف غيره نفسه..
- التصنيف: