بر الوالدين (2)
فأخبر صلى الله عليه وسلم أن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام.
بسم الله الرحمن الرحيم
عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة. قلت من هذا؟) فقالوا: حارثة بن النعمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كذلكم البر كذلكم البر [وكان أبر الناس بأمه}
يقول سيد قطب: وما يملك الوليد وما يبلغ أن يعوض الوالدين بعض ما بذلاه ولو وقف عمره عليهما وهذه الصورة الموحية {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] ترسم ظلال هذا البذل النبيل، والأم بطبيعة الحال تحتمل النصيب الأوفر وتجود به في انعطاف أشد وأعمق وأحنى وأرفق، وفي ظلال تلك الصورة الحانية يوجه إلى شكر الله المنعم الأول، وشكر الوالدين المنعمين التاليين ويرتب الواجبات فيجيء شكر الله أولا ويتلوه شكر الوالدين {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} ويربط بهذه الحقيقة حقيقة الآخرة {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} حيث ينفع رصيد الشكر المذخور، ولكن رابطة الوالدين بالوليد على كل هذا الانعطاف وكل هذه الكرامة إنما تأتي في ترتيبها بعد وشيجة العقيدة، فبقية الوصية للإنسان في علاقته بوالديه {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15] فإلى هنا ويسقط واجب الطاعة، وتعلو وشيجة العقيدة على كل وشيجة، فمهما بذل الوالدان من جهد ومن جهاد ومن مغالبة ومن إقناع ليغرياه بأن يشرك بالله ما يجهل ألوهيته وكل ما عدا الله لا إلوهية له فتعلم! فهو مأمور بعدم الطاعة من الله صاحب الحق الأول في الطاعة.
ولكن الاختلاف في العقيدة والأمر بعدم الطاعة في خلافها لا يسقط حق الوالدين في المعاملة الطيبة والصحبة الكريمة {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}[لقمان: 15] فهي رحلة قصيرة على الأرض لا تؤثر في الحقيقة الأصيلة {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} من المؤمنين {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} بعد رحلة الأرض المحدودة {فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15] ولكل جزاء ما عمل من كفران أو شكران ومن شرك أو توحيد (10).
كذلكم البر كذلكم البر:
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: «الصلاة على وقتها» قال: ثم أي؟ قال: «ثم بر الوالدين» قال ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» (11)..
فأخبر صلى الله عليه وسلم أن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام. ورتب ذلك بـ (ثم) التي تعطي الترتيب والمهلة. ومن البر بهما والإحسان إليهما ألا يتعرض لسبهما ولا يعقهما؛ فإن ذلك من الكبائر بلا خلاف، وبذلك وردت السنة الثابتة؛ فعن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من الكبائر شتم الرجل والديه» قالوا يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: «نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه» (12)..
وعن عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال صلى الله عليه وسلم: «رضا الرب في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما» (13)..
قال المناوي: «رضا الرب في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما» أي غضبهما الذي لا يخالف القوانين الشرعية كما تقرر، فإن قيل: ما وجه تعلق رضا اللّه عنه برضا الوالد؟ قلنا: الجزاء من جنس العمل، فلما أرضى من أمر اللّه بإرضائه رضي اللّه عنه، فهو من قبيل لا يشكر اللّه من لا يشكر الناس. قال الغزالي: وآداب الولد مع والده أن يسمع كلامه ويقوم بقيامه ويمتثل أمره ولا يمشي أمامه ولا يرفع صوته ويلبي دعوته ويحرص على طلب مرضاته ويخفض له جناحه بالصبر ولا يمن بالبر له ولا بالقيام بأمره ولا ينظر إليه شزراً ولا يقطب وجهه في وجهه (14)..
وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن رجلا أتاه فقال: إن لي امرأة، وإن أمي تأمرني بطلاقها. قال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الوالد أوسط أبواب الجنة» فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه (15) أي خير الأبواب وأعلاها وأفضلها، يقال: هو من أوسط قومه، أي من خيارهم. والمعنى: أن أحسن ما يتوسل به إلى دخول الجنة ويتوصل به إلى الوصول إليها مطاوعة الوالد ورعاية جانبه.
وأمام هذا الحق للوالدين لا مندوحة للمسلم عن طاعة الوالدين، فإن كان اعتراضهما عليه متقدِّمٌ على زواجه ممَّن ارتضى دينها وخُلُقها فيجب طاعتهما واحتساب الأجر والثواب عند الله تعالى على امتثال أمرهما، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
أما إذا كان الأمر بعد الزواج فلا بد من التريث قليلاً قبل الحكم في مسألة أمر الأب ابنه بتطليق امرأته، لما قد يترتب على هذا الأمر من التعدِّي والظلم، والظلم ظُلُماتٌ يوم القيامة. فطاعة الأب في هذا الأمر واجبة ما لم يكن ذلك لغرضٍ دنيويٍ أو حاجةٍ في نفسِه، فإن وُجِدَ الغَرَض آلت المسألة إلى إيقاع الظلم بالزوجة، وهو محرم، لا طاعة فيه لأحدٍ، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولكن الطاعة في المعروف.
وقد سُئل إمام أهل السنَّة أحمد بن حنبل رحمه الله عن الرجل يأمر ابنه بتطليق امرأته؟ فقال: إذا كان أبوك مثل عمر فطلِّقها. فلا بد للأبناء من بر الآباء، ولابد للآباء من تقوى الله فيما يأمرون به أبناءهم، فلا يأمرون بمنكر ولا يحرِّضون على مظلمةٍ، وليحذَر الآمر والمؤتمِر من تعدي حدود الله فإن {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1].
أما إذا أمر الأبوان الابنة بمخالعة زوجها أو طلب الطلاق منه، فلا طاعة لهما في ذلك، لأن ولايتها انتقلت إلى الزوج بالنكاح، وحقُّه مقدَّم على حقِّهما، فلا طاعة لهما في مطلب كهذا ولا ما هو دونه إذا ما أباه الزوج.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش والمصادر :
(10) في ظلال القرآن ــ دار الشروق ص 2788 (11) رواه البخاري ــ كتاب مواقيت الصلاة برقم 496 (12) رواه مسلم ــ كتاب الإيمان برقم 130 (13) رواه الطبراني (صحيح) انظر حديث رقم: 3507 في صحيح الجامع.السيوطي / الألباني (14) فيض القدير للمناوي 2/528 (15) رواه الترمذي ــ كتاب البر والصلة برقم 1822 (صحيح) انظر حديث رقم: 7145 في صحيح الجامع والحديث أورده الشيخ الألباني في الصحيحة برقم 914 وقال رحمه الله بعد أن ذكر تصحيحه (قوله: فاحفظ ذلك الباب أو ضيِّعه؛ الظاهر من السياق أنه قول أبي الدرداء غير مرفوع )
- التصنيف: