المثالية والمادية في الإسلام
الإسلام الذي يوازن بين المثالية والمادية!، ويا له من مخلوق ذلك الإنسان الذي يتجلى فيه بعد مادي وبعد روحاني!، ثم يا له من توافق مدهش ومذهل بين طبيعة هذا الدين العظيم وبين احتياجات هذا المخلوق البشري
يرى المفكر والمجاهد البوسني الكبير علي عزت بيجوفيتش في كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب"، أن الإسلام "وحدة ثنائية القطبين" وأنه يتلائم تماماً مع الإنسان لأن الإنسان بطبيعته "وحدة ثنائية القطبين أيضاً" فهو يتكون من نفحة علوية "الروح" ومادة ملموسة "الجسد"، وفي السطور التالية سنسلط الضوء على هذه الثنائية الموجودة في الإسلام والإنسان في الوقت نفسه، ثم نخلص في النهاية إلى مدى توافق الإسلام مع الإنسان.
الإنسان الوحدة ثنائية القطبين:
الإنسان ليس جسداً فحسب، بل إن هذا الجسد المادي الملموس تسكن نفحة علوية وهي "الروح"، وتتجلى مظاهر تلك النفحة العلوية الماورائية في عدد من المظاهر أولها:
العقل: ولا نقصد هنا المخ البشري المادي، بل نقصد به ذلك الذكاء الذي وهبه الخالق تبارك وتعالى للإنسان، ذلك الذكاء البشري الذي جعل الإنسان يبني تلك الحضارة ويبتكر كل تلك المنجزات الحضارية، فكل الكائنات الحية لديها أمخاخ، ولكن الإنسان هو الكائن الوحيد على وجه الأرض الذي يمتلك العقل.
الخيال وتذوق الجمال: يتميز الإنسان عن غيره من الكائنات الحية بآلية "التخيل" تلك الآلية التي تقف وراء كل الإبداعات البشرية من فنون وآداب وأشعار، وما هذه الآلية إلى نوع من الحنين والشوق إلى ذلك العالم الغيبي الذي تنتمي إليه أرواحنا.
المشاعر والبعد القيمي: إن إدراكنا للعالم الخارجي ليس إدراكاً محايداً مصمتاً، ولكنه إدراك يعطي للأشياء مدلولاتها المعنوية، فنحب ونكره، ونرى الخير والشر، ونرى الحق والباطل، وهكذا فهذه المشاعر والنظرة القيمية للأمور لا تنتمي إلى العالم المادي الذي نعيش فيه، ولكنها تنتمي إلى عالم الغيب الذي نتوق إليه دائماً.
النفس البشرية: فوجود النفس البشرية لا يمكن لأي عاقل أن ينكره، وإلا فكيف نفسر الأمراض النفسية!، إنها ليست إلا تعبير عن خلل في ذلك الجزء الروحاني من الإنسان، بل وكيف نفسر مصطلحات علم النفس مثل "الأنا" و"الأنا العليا" و"الهو" وهي بالمناسبة من وضع "فرويد" عالم النفس الشهير الذي كان ملحداً!.
إن وجود البعد الروحاني للإنسان أمر لا ينكره عاقل، وما هذه الموجة الإلحادية المادية إلا انحراف عن الفطرة الإنسانية ظهر كردة فعل على تسلط الكنيسة في أوربا في العصور الوسطى، بل إن الحضارة المادية المعاصرة لم تفتأ أن تجد بدائل للدين لإشباع البعد الروحاني لدى منتسبيها فظهرت علوم الطاقة وقانون الجذب وعلوم الماورائيات والتنبؤ بالأبراج، وما إلى ذلك من بدائل!.
جين الألوهية: ثنائية الإنسان في أبهى صورها:
توصل "دين هامر" (رئيس وحدة أبحاث الجينات بالمعهد القومي للسرطان بالولايات المتحدة) إلى أن الإنسان يرث مجموعة من الجينات التي تجعله مستعداً لتقبل مفاهيم الألوهية!، وقد خرج هامر بهذا المفهوم بناءً على الأبحاث التي أجراها على الجينات، وعلى دراسات بيولوجيا الأعصاب وعلم النفس، ونشر هذه الأبحاث في كتابه "جين الألوهية" عام 2004، فهذا الكشف هو دليل على ثنائية الإنسان في أروع أشكالها، فهذا الجين المادي يشير بوضوح إلى بعد روحاني! إنه عنصر ينتمي إلى العالم المادي الملموس ولكنه في ذات الوقت يشير إلى عالم غيبي ما ورائي!، ويشير أيضاً إلى أن الإنسان متدين بالفطرة!، يا لها من ثنائية رائعة من إبداع خالق حكيم.
الإسلام: الوحدة ثنائية القطبين:
ننتقل الآن لنسلط الضوء على ثنائية الإسلام المثالية والمادية، فالإيمان القلبي يحتل مرتبة كبيرة فيه، ولكن وفي ذات الوقت يقر الإسلام بضرورة الاجتهاد والتركيز على العمل لضمان الفوز بالآخرة، ولذلك جاء ذكر الفائزين في الآخرة في القرآن الكريم مقروناً بشرطين وهما: الإيمان، والعمل الصالح، فكلا الأمرين ضروريين للفوز بها، فالإيمان القلبي (وهو يرمز إلى البعد المثالي) يجب أن يكمله العمل الصالح (والذي يمثل العنصر المادي في المعادلة).
وفي الصلاة تتجلى تلك الثنائية، فالوضوء وحركات الركوع والسجود هي تعبير عن الجهد المادي الذي يُبذل من الإنسان، أما الخشوع فهو تعبير عن البعد الروحاني في تلك الشعيرة، فالصلاة ليست مجرد تأمل روحاني فقط، ولكنها تتطلب جهداً جسدياً مادياً لإنجازها.
أما الحج فهو تعبير آخر عن تلك الثنائية المدهشة، ففي حركة الطواف حول الكعبة (وهي تتم عكس اتجاه عقارب الساعة وهي نفس حركة الإلكترونات حول نواة الذرة والكواكب حول الشمس) تعبير عن الإنسجام مع الطبيعة والكون الذي يتحرك في صورة واحدة، وهو تعبير عن البعد العقلاني والمادي في تلك الشعيرة، أما الرجم فهو يرمز إلى مقاومة الشيطان الذي يأمر بنو آدم بالمعاصي والذنوب، وهو تعبير عن البعد المثالي الماورائي في تلك الشعيرة.
وفي التوكل على الله أروع نموذج لثنائية المادية والمثالية، فالتوكل يعني الأخذ بالأسباب المادية و قطع تلك الأسباب عن القلب ووصله بمسببها!
فهو اعتراف من زاوية بقانون السببية الذي يحكم العالم المادي، وفي ذات الوقت اعتراف بقدرة الله المطلقة الذي خلق تلك الأسباب وجعلها قانوناً يحكم كونه المادي!
وقد طبق رسول الله ذلك المعنى في هجرته إلى المدينة، فمن جهة أخذ بكل الأسباب المادية التي تضمن وصوله إلى المدينة بدون علم قريش، ثم عندما وصل المشركون إلى غار ثور فإذا به يقول لأبي بكر رضي الله عنه "ما بالك بأثنين الله ثالثهما!" ياله من تخطيط محكم يستند إلى السببية، ثم يالها من ثقة مطلقة بمسبب تلك الأسباب والقادر على تبديلها في أي وقت شاء!.
ونظرة عامة إلى السيرة النبوية نجد أن الإسلام بدأت نشأته نشأة روحية، فمن غار حراء وخلوة الرسول بنفسه قبل البعثة، إلى مرحلة الدعوة السرية والظهور التدريجي للعلن، وقد كانت الآيات في تلك المرحلة المكية تعني أكثر ما تعني بالعقيدة، وهذا هو البعد المثالي في السيرة النبوية، ثم إلى مرحلة إنشاء الدولة والتشريعات وقتال المشركين، ولقد جسدت هذه المرحلة البعد المادي الواقعي للمجتمع الإسلامي.
وفي مفهوم الحاكمية أعظم صورة لهذه الثنائية، فهي تستلزم الإيمان بالله وبالعبودية المطلقة له، وهنا يتجلى البعد المثالي في ذلك المفهوم، ثم يتجلى البعد المادي الواقعي الذي يحرض على مقاومة الطواغيت والمستبدين الذين يريدون إخضاع إخوانهم من البشر إلى سلطتهم من دون الله.
يا له من دين ذلك الإسلام الذي يوازن بين المثالية والمادية!، ويا له من مخلوق ذلك الإنسان الذي يتجلى فيه بعد مادي وبعد روحاني!، ثم يا له من توافق مدهش ومذهل بين طبيعة هذا الدين العظيم وبين احتياجات هذا المخلوق البشري!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
الإسلام بين الشرق والغرب- علي عزت بيجوفيتش.
الإلحاد مشكلة نفسية – د. عمرو شريف.
أنا تتحدث عن نفسها- د. عمرو شريف.
- التصنيف: