كُن أبًا ديكتاتوريًّا وافتخر بإنجازاتك!

منذ 2018-05-02

كن أبًا رحيمًا، وهرولْ إلى زهرتِك وضمَّها إليك... احتضنها بحبٍّ... استمع إليها بصبر، عامِلْها وكأنها أنثاك الوحيدة في هذا الكون.

بعض الشخصيات حين تراها العيون تبجِّلُها، وحين تقابلها توقِّرها... لها هيبة تُرغمك على احترامها... فماذا عن هذه الشخصيات داخل بيتها؟
نفس هذه الشخصيات حين تجلس مع أسرتها، تصمُتُ الأفواه فلا تسمع صوتًا إلا صوتها، ولا يجرؤ أحد على الإتيان بفكرة تُخالفُ فكرَها!
في أركان بيتها سجونٌ إجبارية، وقرارات إلزامية، وأحكامٌ عُرفية، ومَحْقٌ للشخصية، وإهدار للكرامة الإنسانية!

أتدرون عمَّن أتحدثُ؟
أتحدثُ عن الآباءِ المصابين بازدواجية الفكر والشخصية... الذين يتعاملون مع مَنْ خارج بيوتهم بحبٍّ واحترام وتقدير، وحين يعودون إلى منازلهم تسقط الأقنعة، ويعاملون بناتِهم بمنتهى الديكتاتورية والتحقير.

أتحدث عن الآباء الذين يسجنون بناتِهم في سجون أساليب التربية الرجعية، فتربيةُ البنات لديهم لا مكان فيها للحرية الفكرية، أو التسلية النفسية، فغير مسموح للابنة أن تكون لها حياةٌ إلا تلك الحياة التي ترسمها ريشةُ أبيها، حتى لو لم يكن يُتقن التقاط الريشة!

أتحدث عن الأب الذي حين تنظر إلى ابنته، ترى فتاة بدأت أزهارُ أنوثتها في التفتح، تنتظر من أبيها أنْ يحتوي عطر هذه الأنوثة قبل أنْ يفوح عطرها رغمًا عنها إلى الخارج، ولكنه لا ينتبه!

تتمنى لو فكَّر أنْ يضمَّها إلى صدره ليسمع تنهيدات قلبها وهي تقول له بحزن: أبي كم أحبُّك، فلماذا تتجاهلني هكذا، ولماذا تكمم الأفواه وتأبى أن تستمع لنا؟ ولكنه بمشاعرها لا يكترث!

فتاة صغيرة في عمرها... كبيرة في حزنها... يتحطَّم قلبها حين تسمع صوت أزيز الباب يخبرها بقدوم والدها، فيرتجف قلبها، ويرتعش بدنها؛ فتهرول لتختبئ تحت دثارها، متقوقعةً حول نفسها؛ فصوت أزيز الباب وهو يُفتح تُفتح معه أبواب خوفها، ويقفز القلق ليبني حولها سورًا لرعبها، أما الأمَّان -كالعادة- فيولي هاربًا ويتركها وحدها.

تشعر أنها صارت جسدًا بلا روح، أصبحت أشلاء إنسان نالت منه الجروح، ماتت سعادتُها وهي في مهد الحياة، ولكنها لا تجرؤ أن تعبِّر عن خلجات نفسها أو أن تبوح.

هو يصرُّ على أن يعاملها بغلظة وقسوة؛ لأنها أنثى، والأنثى في اعتقاده يجب أن تصان بالشدة، وألا يُترك لها المجال لتتنفس هواء الحرية وإلا فسَدَت، وضاع حياؤها!

مهلًا أيها القبطان، ما هذا الذي تفعله؟!
أتظن أنك بذلك تحمي فضيلةَ ابنتك؟!
واللهِ، لقد تعاملتُ مع بناتٍ كثيراتٍ، ومعظم اللاتي تألَّقْنَ خلقًا وأدبًا ودينًا وعلمًا ممن رأيتهنَّ: فتياتٌ تنعَّمن بالحب والاحتواء في أحضان آبائهنَّ.

ومعظم اللاتي انحرفْنَ وانجرفْنَ وراء الشهوات، والمنكرات، وجميل الكلمات: بناتٌ فقدْنَ الحب والاحتواء من آبائهنَّ.

بنات عِشْنَ في جوٍّ ديكتاتوريٍّ، فلمَّا فقدْنَ حرية الكلمة، وحرية الفكر، وجمال الشعور باحتواء الأب، هرولْنَ ليبحثْنَ عنه مع فتى يلملم أحزانَهنَّ، ويقدِّر مشاعرهنَّ، ويُطرب آذانهنَّ بجميل الثناء عليهنَّ.

مهلًا أيها القبطان، لا تجعل زهرتك تتفتح لرجل غريب؛ بسبب ابتعاد حنانك عنها، ولا تجعل عطرَها يفوح لذئب يلتهم براءتها؛ بسبب قسوتك عليها.

لا تظن أن ما تفعله عينُ اليقظة، بل هو عين الغفلة، إن أردت صدق القول والنصيحة؛ فما تعامَلَ أب بديكتاتورية مع بناته إلا وتفلَّتْنَ من بين يديه عاجلًا أو آجلًا، أو انكسرْنَ من داخلهنَّ، فعشن باقي عمرهن ذليلاتِ النفس خاضعاتٍ لمن يقهرهن؛ لأنهن افتقدن الحب، فبدأن يلهثن وراءه، وهرولن لشرائه مهما كان الثمنُ المدفوع، ومهما كان الجهدُ المبذول... فانتبه ولا تَبِعْ ابنتك بثمنٍ بخس.

كن أبًا رحيمًا، وهرولْ إلى زهرتِك وضمَّها إليك... احتضنها بحبٍّ... استمع إليها بصبر، عامِلْها وكأنها أنثاك الوحيدة في هذا الكون.

تجاوز عن زلاتها، أَدِّبْها برفق، قَوِّمْها بحب، وحين تخطئ لا تتركها فريسةً لأنياب الشيطان بقسوتك، بل سارع واحمِها منه بحنانك وحكمتك.

كن لها أرضًا وسماءً؛ فهي الحبيبة التي ستحتويك في كبرك، وتحنو عليك حين يضعف عظمك، هي الحنون التي ستكون إلى جوارك حين ينشغل عنك الجميع، والتي سترسل لك هداياها من العمل الصالح حين ترحل أنت وعن الحياة تغيب.

كن لها أبًا كما كان النبي صلى الله عليه وسلم لابنته، كان يحتويها بحب، ويعاملها برفق، ويستمع لها، ويشاركها أفراحها وأتراحها، ويبثُّها سرَّه حتى وهو في آخر لحظات حياته.
كن لها كذلك، تكن لك كفاطمة التي دافعت عن أبيها منذ صغرها، واحتوته في كبرها، حتى لقِّبت بأمِّ أبيها.

أما إذا أردت أن تتمسك بديكتاتوريتك، فكن أبًا ديكتاتوريًّا كما يحلو لك، ولا تلومنَّ إلا نفسك حين تجد ابنتك وقد ضاعت أخلاقُها، وزادت سقطاتها، أو حين تنكسر نفسُها.

ولا تلومنَّ زوجتك حين تجد ابنتك وقد ترَكَت صلاتها، وخلعت دون علمك حجابها، وتعرَّفت إلى رجل يُشبعها احتواء، ومن عذبِ الحب يذيقها.

ولا تتهم زوجتك بالتقصير؛ لأنك يا قبطان البيت لم تتخذ الحكمة منهجًا في قيادة سفينتك؛ فضللتَ الطريق إلى قلب ابنتك.

وإذا أَبَتْ نفسُك إلا طريقَ القسوة والديكتاتورية، فكن أبًا ديكتاتوريًّا، وافتخر بإنجازاتك العظيمة في تحطيم سعادة ابنتك وحياتها.

كن أبًا ديكتاتوريًّا، وافتخر بنفسك كما يحلو لك، حين تلملم بنفسك أشلاءَ قلب ابنتك. 

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام.

رضا الجنيدي

كاتبة متخصصة في مجال الأسرة وداعية إسلامية

  • 19
  • 1
  • 4,822

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً