ثقافة الإقصاء.. من التشهير إلى التحريض
منذ 2011-05-19
لم تحظ حكومة في مصر بتأييد شعبي جارف، استمدته من ميدان التحرير، حيث اعتصم فيه الملايين على مدى 18 يوما، مثلما حصلت حكومة الدكتور عصام شرف....
لم تحظ حكومة في مصر بتأييد شعبي جارف، استمدته من ميدان التحرير،
حيث اعتصم فيه الملايين على مدى 18 يوما، مثلما حصلت حكومة الدكتور
عصام شرف، وكان التأييد لشخصه ومواقفه من الثورة كرئيس للوزراء، وليس
لكل أفراد حكومته، بعدما فوجئ المصريون أنها تضم ولا تزال وزراء
ووجوها هم من الحزب الوطني الحاكم السابق، والذي تم حله الشهر الماضي،
في تحد للثوار، الذين منحوا شرف الدعم والتأييد.
ولأول وهلة ظن كثيرون أن الحكومة الجديدة ستكون لجميع المصريين
على مختلف انتماءاتهم، وأن من هم محسوبين على النظام السابق سيبدؤون
تحولا ليكونوا وزراء للجميع، غير أنه بمرور الوقت والتصريحات ظهر
الأمر خلاف ذلك، حتى وصف البعض مثل هذه المواقف بأنها شكلا من أشكال
الثورة المضادة لثورة 25 يناير، الذي استمد منها شرف الدعم
والشرعية.
وهنا، فليس بالضرورة أن تكون الثورة المضادة من خارج السلطة، بل
قد تكون من داخلها، على النحو الذي يظهر حاليا في حكومة أصبح يتم
نعتها بحكومة الثورة المصرية، وهو ما يظهر بوضوح لدعم بعض التيارات
والمسئولين داخل هذه الحكومة لإقصاء التيار الإسلامي بعينه، وهو ما
يتضح جليا في تجنيب أي من الإسلاميين أو حتى المحسوبين عليهم لأي منصب
في الدولة، وهى المناصب التي لن يبرح أصحابها مكانهم مع فترة حكومة
تسيير الأعمال القائمة، التي يفترض تغييرها بعد إجراء الانتخابات
"البرلمانية" التي صار الالتفاف عليها واضحا، بالمطالبة بتأجيلها، في
محاولة لتقويض أي فرص قد تلوح في الأفق لتولي الإسلاميين مقاعد
"برلمانية".
وبنظرة فاحصة على تصريحات عدد من الوزراء في الحكومة القائمة يجد
المدقق لها نعرة جاهلية في سياسة إقصاء أنصار التيار الإسلامي،
والحيلولة دون تولي أي من أفراده أي منصب، وهو ما دشنته بعض الوزارات
على الأرض فعليا بتسمية العديد من التيارات المحسوبة على اليسار، بل
وفلول الحزب الوطني الحاكم السابق والمنحل بالمواقع الوظيفية القيادية
الشاغرة.
وقبل توضيح الأمر برصد واقعي لما يدور، فانه يعرف أن الإسلاميين
ليسوا بأصحاب سلطة، أو طلاب مناصب، فمسيرتهم في العمل الدعوي متجذرة
في مصر، وهو ما كان نصيبهم لقائها العديد من أشكال التنكيل عبر سنوات
نظام حسني مبارك المخلوع، والذي توحش معه جهازه الأمني، فما كان من
النظام إلا الاستبداد والطغيان، بعدما استحر فيهم القتل، وأثخن في
دمائهم الكثير ممن نحتسبهم شهداء، فضلا عن جملة الاعتقالات، والفصل من
الوظائف، والتعنت الواضح في مختلف شئون حياتهم.
هذه التضحيات لم يكن هدفها بالمطلق البحث عن مناصب، خاصة إذا عرف
أن النظام المخلوع كان يمسك بتلابيب كل مفاصل الدولة المصرية، وإجراء
كل ما في وسعه من أساليب لتحقيق التزاوج بين السلطة والثروة، وتعزيز
هيمنة حزبه على كافة روافد الدولة ومؤسساتها.
إلا أن الإقصاء المتعمد الذي صار واضحا تجاه الإسلاميين، والذي
يأتي استجابة لحملات أنصار التيار اليساري بكل فصائله، تعيد الأذهان
ولو بصورة أخرى للموقف الذي كان متجذرا من قبل النظام البائد بحق
الإسلاميين، ما قد يؤشر في المستقبل لنافذة جديدة من التضييق على
عملهم الدعوي، في ظل الحملات الإعلامية الدعائية التي صاروا يتعرضون
لها.
هذا الإقصاء لا يمكنه بحال أن يتناسب مع حكومة ثورة، تم تشكيلها
لجميع المصريين، وليس لخدمة تيار بعينه، أو لتحقيق مآرب لبعض الذين
عرف عنهم ارتمائهم في أحضان القوى الكبرى، وهو نفس ما كان يفعله بعضهم
إبان نظام مبارك بالنفاق والنفعية، ما كان محصلته توليهم للعديد من
المناصب والوظائف المهمة بالدولة.
والناظر للتصريحات الرسمية بالحكومة يجدها تؤكد معنى الإقصاء
بشكل جلي، لا ينطلي إلا على من يجافي الحقيقة، أو يخالف الواقع، فنائب
رئيس الوزراء الدكتور يحيي الجمل، وخلاف تصريحاته المثيرة للجدل حول
خوضه في الذات الإلهية، كثيرا ما أعلن صراحة عن رفضه لتولي أي شخص
يحسب على التيار الإسلامي مناصب داخل الدولة، "حتى لا تكون فرصة
لإقامة الدولة الدينية، التي نرفضها وبشدة، ونضرب على كل من يعارضها
من هؤلاء الظلاميين"، في إشارته للإسلاميين، على نحو ما أعلنه في
مؤتمر شبكة الليبراليين العرب بالقاهرة يوم 6 مايو 2011.
الرجل ترجم قبل تصريحه هذا مواقف عملية لهذا الإقصاء باختياره،
أو بإيعازه - فهو المحرك الأساس داخل الحكومة لدعم التيار الليبرالي-
لشخصيات يسارية وعلمانية وفنية، يعرف مناؤتها الشرسة للإسلاميين، كما
حدث في ترشيحه واختياره لأعضاء مجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتلفزيون،
وقبلهم اختياره لأعضاء المجلس القومي لحقوق الإنسان، خلاف دوره الأساس
في اختيار المحافظين والوزراء، الذي خلت أسماؤهم أو وجوههم من أي دعم
لفكر أو تيار إسلامي.
ولذلك كان ترشيحه - الذي يوصف بالحقد الواضح على الإسلاميين-
واضحا للدكتور عماد أبوغازي كوزير للثقافة، وهذا الرجل لمن لا يعرفه
يعد من قمم التيار اليساري بين جمع دعاة الاستنارة الزائفة والظلامية
الفاشلة، ويعرف بوضوح إقصائه لأي إسلامي، وترويجه أفكار علمانية إبان
توليه أمانة المجلس الأعلى للثقافة، وحتى داخل عمله الأكاديمي، عندما
كان مدرسا بالجامعة، بما يخالف حال موضوعية البحث العلمي
وأكاديميته.
ولذلك فإن أباغازي، وفور توليه منصبه لم يفكر كثيراً في الصبر
على ترك العديد من المناصب داخل وزارته شاغرة، حتى قام بتسكين شخصيات
يسارية أو مغمورة في المواقع القيادية بالوزارة، تحسبا لأي تغيير يمكن
أن يحدث، فتكون لهذا التيار ضمانة الاستمرار داخل الوزارة.
ولا يخفى الدور الذي لعبه أبوغازي إبان توليه الأمانة العامة
للمجلس الأعلى للثقافة في تحريك اليساريين ضد سلفه المهندس محمد عبد
المنعم الصاوي، والأخير أعلن في وجود أبو غازي نفسه أنه لا يرى تصادما
بين الدين والتطور العلمي، بل كان من سخط أبوغازي عليه أن الصاوي كان
حريصا على الصلاة، وفق ما أعلنته الصحف عن الصاوي استئذانه للصحفيين
لتأدية الصلاة بحضور أبوغازي، ما أثار حنق الأخير.
علاوة على ذلك، فكان الدور الذي لعبه أبوغازي ضد الصاوي ينطلق من
حرص الثاني على وضع معايير للإبداع، والذي أعلنه أنه يفهمه على أنه
"الإبداع الذي لا يهدم الدين، ولا يجور على أخلاق المجتمع، ولا يخدش
الحياء".
ووقت أن كان الصاوي في منصبه كوزير للثقافة بعد 25 يناير، وأبو
غازي في منصبه كأمين عام للثقافة، كان يجن جنون الأخير، ما دفعه
لتحريك اليساريين ضد الصاوي في وقفات احتجاجية، حتى كان اختيار عصام
شرف لتشكيل الحكومة، ليدفع هذا التيار بأبي غازي ليقود الوزارة لتحقيق
أهدافه في السيطرة على مؤسسات وقطاعات الوزارة بما يعزز من وجود
العلمانيين داخلها، ولإقصاء أي فكر يقترب من الإسلاميين من ناحية
أخرى.
وهو الفعل الذي لم يكذبه أبو غازي طويلا، ولم يقف أمامه كثيرا،
حتى فعل ذلك، في الوقت الذي كان يلتزم فيه الصمت بحق الإسلاميين، حتى
كان تصريحه في ورشة الزيتون يوم 8 مايو 2011بمثابة تدشينه لموقف جديد
في التعامل مع الإسلاميين، عندما وجه انتقادات حادة للإعلام المصري
الرسمي لاستضافته لقادة الدعوة السلفية من ناحية، ومن وصفه بالقاتل
عبود الزمر من ناحية أخرى.
من هنا، بدأ الرجل مرحلة جديدة من إقصاء الإسلاميين في وزارته،
إلى ما وراء ذلك إلى التشهير والتحريض عليهم في وزارات وجهات أخرى، ما
يفتح في الأفق نافذة جديدة للاشتباك معهم على نحو التصريحات المستفزة
التي كان يطلقها أحد أسلافه فاروق حسني بحق الإسلام
والإسلاميين.
هذا التحريض على الإسلاميين لا شك يثير حالة من الحنق داخل
المجتمع المصري، الذي تؤمن أغلبيته الصامتة بالإسلام شريعة ومنهاجا،
يتغافل معها أبوغازي أن الإعلام الرسمي، هو إعلام الدولة، التي يعيش
فيها جميع المصريين، والذين من حقهم جميعا الظهور فيه، وأن هذا القاتل
كما يصفه قضى محكوميته وفق القضاء، وأن حكومة الثورة ما كان ينبغي لها
أن تتعمد سياسة إقصاء لتيار على حساب آخر، تفتح له جميع نوافذها
تقريبا ليصدعوا مستمعيها ليلا ونهارا بفزاعات كان يطلقها النظام
المخلوع تماما عن "المتطرفين والإرهابيين"، إلى غيرها من الصفات
والاتهامات الجاهزة، التي أعدها سريعا أبوغازي والجمل وغيرهما في
الحكومة المصرية ليدشنوا بها ثقافة جديدة من الإقصاء، بل وانتقالها
أيضا إلى التشهير والتحريض، وسط طموحات المصريين بألا تعود مثل هذه
الفزاعات.
المصدر: علا محمود سامي - موقع المسلم
- التصنيف: