مع القرآن (من لقمان إلى الأحقاف ) - ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون
وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ
{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} :
تصايح الكفار لما أعلن النبي صلى الله عليه وسلم عقيدة التوحيد وبطلان عبادة المسيح عليه السلام , وقالوا يا محمد هذا تناقض , فأنت من وقرت عيسى عليه السلام ووصفته بالنبوة والرسالة وها أنت ذا تحذر من عبادته وتصف عابديه بالكفار ؟؟ فهل هو خير أم آلهتنا ؟؟؟
وهذا اعتراض باطل من كل الوجوه فلا يعني توقير الإسلام لعيسى عليه السلام كأحد الرسل الكبار من أولى العزم أن يقر من اتخذه إلها من دون الله أو ادعى انه ابن الله , فالرسول صلى الله عليه وسلم كما نهى عن عبادة عيسى فقد نهى أيضاً عن اتخاذ قبره هو نفسه صلى الله عليه وسلم وثناً يعبد من دون الله.
فالأمر كله يتعلق بإفراد الله بالعبادة والطاعة والاتباع وحده لا شريك له , فما عيسى عليه السلام إلا عبد من عباد الله جعله الله معجزة وآية لقومه كونه من أم بلا أب , ليكتمل الإعجاز , فقد خلق الله أدم بلا أم ولا أب , وخلق حواء من أب بلا أم , وخلق عيسى من أم بلا أب , ليعلن سبحانه لعباده قدرته على كل شيء , وليعلم الجميع أن القادر على خلق هذه الصور المختلفة هو القادر على بعث الجميع وخلقهم من جديد وجمعهم يوم القيامة للحساب والجزاء .
ومن هنا فالمستحق للعبادة والاتباع هو الله والطريق الموصل إلى الجنة و المنجي من النار هو طريقه فقط , صراط مستقيم لا عوج فيه , أما سبيل الشيطان فهو سبيل باطل معوج موصل إلى جهنم وبئس المصير.
قال تعالى : {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} . [الزخرف 57-62]
قال السعدي في تفسيره:
يقول تعالى: { {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا } } أي: نهي عن عبادته، وجعلت عبادته بمنزلة عبادة الأصنام والأنداد. { {إِذَا قَوْمُكَ} } المكذبون لك { {مِنْهُ} } أي: من أجل هذا المثل المضروب، { {يَصِدُّونَ } } أي: يستلجون في خصومتهم لك، ويصيحون، ويزعمون أنهم قد غلبوا في حجتهم، وأفلجوا.
{ { وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } } يعني: عيسى، حيث نهي عن عبادة الجميع، وشورك بينهم بالوعيد على من عبدهم، ونزل أيضا قوله تعالى: { {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} }
ووجه حجتهم الظالمة، أنهم قالوا: قد تقرر عندنا وعندك يا محمد، أن عيسى من عباد الله المقربين، الذين لهم العاقبة الحسنة، فلم سويت بينه وبينها في النهي عن عبادة الجميع؟ فلولا أن حجتك باطلة لم تتناقض.
ولم قلت: { {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } } وهذا اللفظ بزعمهم، يعم الأصنام، وعيسى، فهل هذا إلا تناقض؟ وتناقض الحجة دليل على بطلانها، هذا أنهى ما يقررون به هذه الشبهة التي فرحوا بها واستبشروا، وجعلوا يصدون ويتباشرون.
وهي -وللّه الحمد- من أضعف الشبه وأبطلها، فإن تسوية الله بين النهي عن عبادة المسيح، وبين النهي عن عبادة الأصنام، لأن العبادة حق للّه تعالى، لا يستحقها أحد من الخلق، لا الملائكة المقربون، ولا الأنبياء المرسلون، ولا من سواهم من الخلق، فأي شبهة في تسوية النهي عن عبادة عيسى وغيره؟
وليس تفضيل عيسى عليه السلام، وكونه مقربا عند ربه ما يدل على الفرق بينه وبينها في هذا الموضع، وإنما هو كما قال تعالى: { {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } }
بالنبوة والحكمة والعلم والعمل، { {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} } يعرفون به قدرة الله تعالى على إيجاده من دون أب.
وأما قوله تعالى: { {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } } فالجواب عنها من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن قوله: { {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} } أن { {ما } } اسم لما لا يعقل، لا يدخل فيه المسيح ونحوه.
الثاني: أن الخطاب للمشركين، الذين بمكة وما حولها، وهم إنما يعبدون أصناما وأوثانا ولا يعبدون المسيح.
الثالث: أن الله قال بعد هذه الآية: { {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } } فلا شك أن عيسى وغيره من الأنبياء والأولياء، داخلون في هذه الآية.
ثم قال تعالى: { {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ } } أي: لجعلنا بدلكم ملائكة يخلفونكم في الأرض، ويكونون في الأرض حتى نرسل إليهم ملائكة من جنسهم، وأما أنتم يا معشر البشر، فلا تطيقون أن ترسل إليكم الملائكة، فمن رحمة الله بكم، أن أرسل إليكم رسلا من جنسكم، تتمكنون من الأخذ عنهم.
{ {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} } أي: وإن عيسى عليه السلام، لدليل على الساعة، وأن القادر على إيجاده من أم بلا أب، قادر على بعث الموتى من قبورهم، أو وإن عيسى عليه السلام، سينزل في آخر الزمان، ويكون نزوله علامة من علامات الساعة { { فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا } } أي: لا تشكن في قيام الساعة، فإن الشك فيها كفر. { {وَاتَّبِعُونِ } } بامتثال ما أمرتكم، واجتناب ما نهيتكم، { {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } } موصل إلى الله عز وجل،
{ {وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ } } عما أمركم الله به، فإن الشيطان { { لَكُمْ عَدُوٌّ } } حريص على إغوائكم، باذل جهده في ذلك.
#أبو_الهيثم
#مع_القرآن
أبو الهيثم محمد درويش
دكتوراه المناهج وطرق التدريس في تخصص تكنولوجيا التعليم من كلية التربية بجامعة طنطا بمصر.
- التصنيف: