كن من السفرة الكرام البررة
قال الحافظ ابن حجر في الفتح في شرحه لهذا الحديث: ما دام التعاهُد موجودًا فالحِفْظ موجود، كما أن البعير ما دام مشدودًا بالعقال فهو محفوظ
كثير منَّا يتمنَّى حِفْظَ القرآن، هناك من بدأ بالفعل، وحاول لكنَّه للأسف لم يُكْـمِل ما بدأه وسقط في منتصف الطريق، وأحيانًا قد يَسقُط في أول بضع خطوات منه، وهناك مَنْ لم يحاول؛ لأنه قد رَسَـخَ في قرارة نفسه أن حِفْظَه صعبٌ أو مستحيل عليه.
قد يكون لأنه يسير وحيدًا في الطريق، أو أن حجَّته عدم وجود الوقت وكثرة المسؤوليات والانشغال، أو سوء الحفظ، أو... أو...
ما أكثر الحجج! لكن ستظلُّ كلها مجرد "حجج"! نُحاول أن نقنع بها أنفسنا، والحقيقة واضحة قاطعة صريحة؛ يقول تعالى: ﴿ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} ﴾ [القمر: 17].
يا من حُجَّتُكَ أن حِفْظَهُ صعبٌ، ربُّك يقول لك: إنه سهل الحفظ.
يا من حُجَّتُكَ أنك لا تُحسِن القراءة؛ أبشر فإن لك الأجر مرتين إذا اجتهدت وتحرَّيْت الحقَّ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( «الماهرُ بالقرآن مع السَّفَرةِ الكِرامِ البرَرةِ، والذي يقرأ القرآنَ ويَتَتَعْتَعُ فيه وهو عليه شاقٌّ، له أجرانِ» ))؛ [متفق عليه] .
وتَعَلُّم التلاوة الصحيحة في هذا العصر أمرٌ سهلٌ، فدُور حفظ القرآن منتشرة في المساجد، وفي كل مكان؛ بل تستطيع تعلُّمها في بيتك عبر الإنترنت.
يا من حُجَّتُكَ أنك سريع النسيان، اعلَم أن القرآن سريعُ التَّفَلُّتِ لمن لم يهتمَّ به، فالقرآن عزيز؛ عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (( «إنما مَثَلُ صاحبِ القُرآنِ كمَثَلِ صاحبِ الإبلِ المعقلةِ، إن عاهَد عليها أمسَكها، وإن أطلَقها ذهبَتْ» ))؛ [ رواه البخاري] .
قال الحافظ ابن حجر في الفتح في شرحه لهذا الحديث: ما دام التعاهُد موجودًا فالحِفْظ موجود، كما أن البعير ما دام مشدودًا بالعقال فهو محفوظ، وخصَّ الإبل بالذكر؛ لأنها أشدُّ الحيوان الإنسي نفورًا، وفي تحصيلها بعد استكمان نفورها صعوبةٌ.
وإن كان نسيانك لضَعف في ذاكرتِكَ لا بسبب إهمالٍ منك في تعاهُد القرآن، فيكفيك عِزًّا ورِفْعةً وشرفًا أنك تعيش ليلَك ونهارَكَ مع القرآن، ولن يضيعَ تعبُكَ عند الله، واعلم أن كثرة التكرار تُثبت ما حُفِظ، أمَا تحفظ الفاتحة لكثرة قراءتها؟ ألا تجد أنَّ مَنْ يُداوم على قراءة سورة الكهف كل جمعة يُتقِن حِفْظَها؟
إن إتقان الحفظ دليلٌ على سهرك بالليل، وتعبك بالنهار، وصبرك في معاناة الحفظ، وتأمَّل هذا الحوار بين الدكتور سعيد حمزة وسائل سأله سؤالًا، فقال: يا شيخ، أنا خاتم والقرآن يتفلَّت مني بشدَّة مع أني راجعته ثلاث مرات، أين الخلل؟
وكانت الإجابة: الخلل فيما ذكرت؛ فأن تعد ثلاث مرات شيئًا عظيمًا في مراجعة القرآن الكريم، هو أمر شديد الغرابة! وهل استقام حفظ القرآن لأحد قبلك بما ذكرت؟ أنت حتى تقول: (مع أني)؟! ضع أمام الرقم 3 صفرين؛ ليُصبح 300 مرة، ثم انظر ماذا ترى؟!
يا من حُجَّتُكَ كبر السن؛ هناك من بدأ حفظه بعد سن الستين وحفظه؛ بل سمِعنا عن السيدة التي ختمته وعندها تسعون سنة.
يا من حُجَّتُكَ ضيق الوقت؛ ألغ من حياتك وقت التلفاز، وقلِّل الوقت الذي تقضيه على وسائل التواصل الاجتماعي وستجد وقتًا.
استغل وقتك بشكل صحيح؛ وأنت في وسائل المواصلات، وأنتِ تقومين بتنظيف البيت، وأنتِ تحملين ابنك الصغير، ومن كانت عدد ساعات نومه ثماني ساعات، ليجعلها سبعًا ويُخصِّص وقتًا للقرآن، لو كانت لدينا رغبة صادقة سنجد الوقت.
وابحث عمَّن يُؤنسك في الطريق، لكن إياك أن تتخلَّى عن هدفك، أو أن تسمح للشيطان أن يُبعدك عنه.
كل مشاكلنا وهمومنا وضيقنا لأن الدنيا شغلتنا وأبعدتنا عن القرآن، وأبعدتنا عن دستورنا ومصدر عِزِّنا وراحتنا وسعادتنا.
شتان بين من إذا دندن جاء على لسانه مقطع من أغنية بلا شعورٍ، وبين مَنْ على لسانه دومًا آيات من القرآن، تخيل إذا قَرَّبَكَ مَلِكٌ أو رئيسٌ منه، وجعلك من أهله وخاصَّته!
فما بالك إذا علمت أن أهل القرآن هم أهل الله وخاصته، ثم تتنازل عن هذا بكل سهولة!
ففي الحديث الصحيح: «((إنَّ للهِ أهلين من النَّاسِ))، قالوا: من هم يا رسولَ اللهِ؟ قال: ((أهلُ القرآنِ هم أهلُ اللهِ وخاصَّتُه))» ألا تريد أن يكون القرآن شفيعًا لك يوم القيامة؟
عن أبي أمامة الباهلي، قال: سمِعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «((اقْرَؤوا القرآنَ؛ فإنه يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابه، اقرَؤوا الزَّهراوَين: البقرةَ وسورةَ آلِ عمرانَ؛ فإنهما تأتِيان يومَ القيامةِ كأنهما غَمامتانِ، أو كأنهما غَيايتانِ، أو كأنهما فِرْقانِ من طيرٍ صوافَّ، تُحاجَّان عن أصحابهما، اقرَؤوا سورةَ البقرةِ؛ فإنَّ أَخْذَها بركةٌ، وتركَها حسرةٌ، ولا يستطيعُها البَطَلةُ))» ، قال معاويةُ: "بلغني أنَّ البطلةَ السَّحَرةُ"؛ [أخرجه مسلم في صحيحه] .
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: قَالُوا: سُمِّيَتا الزَّهْراوَيْنِ لِنُورِهِما وَهِدَايَتهما وعَظِيم أَجْرهما.
ألا ترغب أن ترتقي في الجنة؟
فقد روى الترمذي وأبو داود، عن عبدالله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «((يُقالُ لصاحِبِ القرآنِ: اقرأ، وارتَقِ، ورتِّل كَما كُنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا، فإنَّ منزلتَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرأُ بِها))» ، والحديث صحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة، وقال بعده:
"واعلم أن المراد بقوله: "صاحب القرآن" حافظه عن ظهر قلب على حد قوله صلى الله عليه وسلم: ((يؤمُّ القوم أقرؤهم لكتاب الله...))؛ أي: أحفظهم، فالتفاضُل في درجات الجنة؛ إنما هو على حسب الحفظ في الدنيا، وليس على حسب قراءته يومئذٍ واستكثاره منها كما توهَّم بعضُهم، ففيه فضيلة ظاهرة لحافظ القرآن؛ لكن بشرط أن يكون حفظه لوجه الله تبارك وتعالى، وليس للدنيا والدرهم والدينار، وإلَّا فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((أكثرُ مُنافقي أُمَّتي قُرَّاؤها))؛ انتهى.
ألا تحب أن تنجوَ من عذاب النار؟! يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «((لو أنَّ القرآنَ جُعِل في إهابٍ ثمَّ أُلقِي في النَّارِ، ما احترق))» .
ألا تُحِبُّ أن تُكرم نفسك ووالديك؟
قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: «((يَجيءُ القُرآنُ يومَ القِيامةِ كالرَّجُلِ الشَّاحِبِ، يَقولُ لصاحِبِهِ: هل تَعْرِفُني؟ أنا الَّذي كُنتُ أُسهِرُ لَيْلَكَ، وأُظْمِئُ هَواجِرَكَ، وإنَّ كلَّ تاجرٍ مِن وراءِ تِجارَتِهِ، وأنا لكَ اليومَ مِن وراءِ كلِّ تاجرٍ، فيُعطَى الملْكَ بيمينِهِ، والخُلْدَ بشِمالِهِ، ويُوضَعُ على رأسِهِ تاجُ الوقارِ، ويُكْسَى والِداهُ حُلَّتَيْنِ لا تَقُومُ لهُما الدُّنْيا وما فيها، فيَقُولانِ: يا ربِّ، أنَّى لنا هذا؟ فيُقالُ: بتعليمِ وَلَدِكُما القُرآنَ))» ؛ [رواه الطبراني] .
أنستغني عن كل ذلك من أجل أن الدنيا شغلتنا؟!
يقول صلى الله عليه وسلم: «((أيُّكم يُحِبُّ أنْ يغدُوَ كلَّ يومٍ إلى بطْحانَ، أوْ إلى العقيقِ، فيأتِي منه بناقَتَيْنِ كَوْماوَيْنِ زهراوَيْنِ، فِي غيرِ إثمٍ، ولا قطعِ رحِمٍ، فلَأنْ يغدُوَ أحدُكُمْ إلى المسجِدِ، فَيَتَعَلَّمُ أوْ يقرأُ آيتينِ مِنْ كتابِ اللهِ خيرٌ لَهُ مِنْ ناقتينِ، وثلاثٌ خيرٌ لَهُ مِنْ ثلاثٍ، وأربعٌ خيرٌ لَهُ مِنْ أربعٍ، ومِنْ أعْدادِهِنَّ مِنَ الِإبِلِ))[رواه مسلم] .
ما أجمل أن نعيش حياتنا بالقرآن وللقرآن ومع القرآن! اعقدوا العزم من هذه اللحظة على حفظ القرآن، فوالله إن فيه فلاح الدنيا والآخرة، ولا تلتفت للأعذار، فلا وجود لها إلَّا في خيالِكَ.
- التصنيف: