الغيبة

منذ 2019-01-21

روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل، فوقع فيه رجل من بعده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "تخلل" فقال: ومما أتخلل؟ ما أكلت لحما! قال: (إنك أكلت لحم أخيك» ) [رواه الطبراني وصححه الألباني]

 

  {بسم الله الرحمن الرحيم}


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن الغيبة كبيرة من كبائر الذنوب، فإثمها عظيم، وخطرها كبير، وهي ظلم واعتداء، تساهلنا فيها وأشغلنا مجالسنا بها، واعتادتها ألسنتنا وتجرأنا عليها مستسهلين لأمرها، جاهلين بعقابها.

فعن بلال بن الحارث الْمُزَنِيَّ رضي الله عنه قال سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (
«إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ» ) [رواه أحمد والترمذي]

إن آفات اللسان كثيرة، ومن أكثرها انتشارا وخطرا في مجالس الناس الغيبة، وما أدراكم ما الغيبة، فاكهة المجالس، وأنس البطالين، فهي مرضٌ منتشرٌ في مجالسنا، وآفةٌ تفتك بحسناتنا. 
وقد عرَّف النبي صلى الله عليه وسلم الغيبة في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قَالَ:
«قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالَ: (ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ)، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ؟ قَالَ: (إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ» ) رواه مسلم وغيره. ‌

أمّا أضرار الغيبة في المجتمع فمعلومة، فهي تُفَرِّق بين الناس، وتُورث العداوة فيما بينهم، وفيها فضيحة وهَتْك أستار وتوغر الصدور.

وأما الأسباب الباعثة لوقوع الناس في الغيبة فكثيرة، منها: الحقد والغضب، ومجاملة الرُّفقاء، والتزلف عند الأسياد لِهَدْمِ المغتاب، والهزْل وإضاعة الوقت والتبرُّؤ من العيب لإلصاقه بالغير، والحسد والسخرية والاحتقار.

ويجمع هذه الأسباب من أولها إلى آخرها قلة الخوف من الله، وعدم استشعار مراقبة الله تعالى وشديد عقابه للمغتابين.

والغيبة محرمة: ومن حرمتها أن الله -عز وجل- ذكرها في كتابه ونهى المؤمنين عنها صراحة فقال تعالى :{
{وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} }. 

وتأملوا كيف شبه الله -عز وجل- هؤلاء المغتابين بآكلي لحوم البشر، {
{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} }.

لقد رأيت صورا مقززة في الانترنت أرسلها لي صديق، لرجل فلبيني يقطع طفلا ميتا ويطبخه ويأكله، رجل تجرد من كل إنسانية، وتحول إلى وحش بهيمي فأكل لحم بني جنسه، وما علم الناس أن الذي يغتاب غيره كمن يفعل ذلك.

فقد روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
«كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل، فوقع فيه رجل من بعده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "تخلل" فقال: ومما أتخلل؟ ما أكلت لحما! قال: (إنك أكلت لحم أخيك» ) [رواه الطبراني وصححه الألباني] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (
«كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» ) ‌ [رواه ابن ماجه] .
عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (
«الربا اثنان و سبعون بابا أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه» ) [رواه الطبراني]
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الربا وعظم شأنه وقال: (إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثين زنية يزنيها الرجل، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم) رواه أبن أبي الدنيا.
وجاء عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا- قَالَ بعض الرواة: تَعْنِي قَصِيرَةً – فَقَالَ: (
«لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ» ) [رواه أبو داود] .

واعلموا أن الغيبة محرمةٌ لا تجوز بحالٍ من الأحوال إلا في حالات ضيقة ذكرها العلماء
الأولى: المظلوم يشكو لمن يظن أن له القدرة على إزالة ظلمه.
الثانية: الاستعانة على تغيير المنكر المُجاهَرُ به، ويكون عند من يظن قدرته على إزالته.
الثالثة: الاستفتاء إذا رأى في ذكره مصلحة. والأولى دون ذكر الأسماء.
الرابعة: تحذير المسلمين من شر إنسان فاسق أو مبتدع خصوصا إذا كان مجاهرا بذلك، أو من أراد أن يخالط غيره في أمر كمثل زواج أو تجارة.
الخامسة: أن يكون معروفا بلقب لا يعرف لا به، ويقال لمجرد التعريف لا التنقص.

والمغتاب إن لم يتب عُذّب في الدنيا، وفي قبره، ويوم القيامة، وأمّا عقوبته في الدنيا بأن يفضحه الله ولو في عقر داره.
فعن أبي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الإِيمَانُ قَلْبَهُ، لا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ) أحمد وأبو داود.

وأما عقوبة المغتاب في قبره، فقد مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: (
«إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَيُعَذَّبُ فِي الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَيُعَذَّبُ فِي الْغَيْبَةِ» ) [رواه ابن ماجه]

وأما عقوبة المغتاب في عرصات يوم القيامة: فقد روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (
«لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ، يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ» ) [رواه أحمد وأبو داود ]

أما ثواب من كف غيره عن الغيبة: فيجب على المسلم ابتداء عدم المشاركة في إثم الغيبة، فمن سمع شخصًا يَغتاب غيره لا ينبغي أن يُوافقه ويجامله أو يسكت وكأنه َراض بهذا الإثم، فالله يقول في شأن الصالحين: {
{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} }، وأما ثواب من كف غيره عن الغيبة، فهو العتق من النار، وما أعظمه من ثواب.

فقد جاء عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (
«مَنْ ذَبَّ عَنْ لَحْمِ أَخِيهِ بِالْغِيبَةِ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنْ النَّارِ» ) [رواه أحمد] .

وعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (
«مَنْ حَمَى مُؤْمِنًا مِنْ مُنَافِقٍ – أي مغتاب -أُرَاهُ قَالَ بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا يَحْمِي لَحْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَمَنْ رَمَى مُسْلِمًا بِشَيْءٍ يُرِيدُ شَيْنَهُ بِهِ، حَبَسَهُ اللَّهُ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ» ) [رواه أحمد وأبو داود ]

فلنتعاهد جميعاً على أننا إذا جلسنا في مجلسٍ بدأ فيه أحدُهم بالغيبة أن ننهى عن منكر الغيبة، وأن نأمر بالمعروف بصرفِ حديثِ المجلسِ إلى كلامٍ حسن، لتنجوا من عقوبة هذا الفعلِ في الآخرة، ولنكسب وعدَ الله لنا بأن يرد عن وجوهنا النار كما رددنا عن عرض أخينا، فقد روى أبو الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) [رواه الترمذي] .
وفي حديث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (
«من رد عن عرض أخيه كان له حجابا من النار» ). 
وروى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
«من نصر أخاه بظهر الغيب نصره الله في الدنيا والآخرة» ) [رواه البيهقي] .
فيا عباد الله: ما النجاة؟ وكيف الخلاص من هذه الآفة العظيمة المتصلة في حياتنا؟ 
جاء عن عطية بن عامر رضي الله عنه : أنه قال: يا رسول الله: ما النجاة؟! قال: (
«أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك» ) رواه الترمذي. 
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (
«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» ). [متفق عليه]
فمن صفات عباد الرحمن ابتعادهم عن مجالس اللغو فقال تعالى {والذين هم عن اللغو معرضون}، فلتكن هذه صفتنا.
‌فلو اشتغل المسلم بعيوب نفسه لكان خيرا له، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.
وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : عليكم بذكر الله فإنه شفاء، وإياكم وذكر الناس فإنه داء.
اللهم إنَّا نعوذ بك من أذية إخواننا المؤمنين، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

  • 7
  • 0
  • 8,378

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً