الاختيار الحر.. وكرامة الإنسانية

منذ 2019-02-08

فأين هم من الحرية، بل من الإنسانية أولئك الذين يفرضون على الناس اليوم مذاهبهم الأرضية، وأديانهم المخترعة؟! بل حتى اختياراتهم الفقهية

إن من نعم الله تعالى على الإنسان  أن خلقه حرا، كما قاله عمر رضي الله عنه: "متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!"، وقمة هذه الحرية أن يكون حرًّا من كل عبودية سوى عبوديته لله، فتلده أمه حرًّا سليم الفطرة، خِلْوًا من كل ما يصرفها أو يحرفها، كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تُحِسون فيها من جدعاء»[متفق عليه]، ولكن بيئته هي التي قد تحرف من انحرف من البشر..

فكلُّ تَعلُّقٍ أو تبعيةٍ أو خضوعٍ لغير الله تعالى أو بغير إذنه ووفق شريعته فهو نقصان من الحرية بقدر ذلك المشاكس القائم في القلب، ثم في العمل، لأنه في النهاية خضوع مخلوقٍ لإرادة مخلوقٍ مثله في أصل الخلقة، مساوٍ له في الطبيعة، مأمور مثله بالعبودية لمن ليس كمثله شيء.. وهو الله وحده.

ولا يُحِسُّ الإنسان بإنسانيته ويتمتع بكرامته في حياته وممارساته ومواقفه إلا أن يشعر بالحرية المطلقة من إرادة أي مخلوق في اختياره.. ومن ثم أكرمه الله تعالى بحفظ حريته بتخييره أمام البشرحتى في حرية الدخول في دين الله تعالى وعبوديته.. فقال تعالى: {لا إكراه في الدين}، وهذا خطاب للبشر من الرُّسل فمَن دونهم ألا يُكرهوا الناس على الدين، وألّا يسلبوهم حريتهم، وألا يرغموهم حتى على عبادة الله، وهي الغاية التي ما خَلَقَنَا الله تعالى إلا لأجلها: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: 56]، وهذا خطاب مباشر للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ألا يُكره الناس ولِيُحافظ لهم على حريتهم التي بدونها يفقدون إنسانيتهم: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[يونس:99].

وذاك الذي طبقه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لخصومه، الذين فعلوا به الأفاعيل بالأمس القريب فطرَّدوه وشرَّدوه وأخرجوه من أحب أرض الله إليه..  فلما أظهره الله-تعالى- عليهم ومكَّنه من رقابهم، استحضر أن الذي بينه وبين قومه ليس النكايات ولا الغلبة والانتقامات؛ بل ولا شخصنة للقضية أبدا-؛ وإنما مهمته الربانية في حفظ هذه الحرية ليكون إسلام من أسلم إسلاما لله تعالى عن حب وطوع واختيار، وكانوا قد استحقوا الإعدام قصاصا لما قتلوه من أصحابه في مكة وغزوة أُحُد.. وكان بإمكانه أن يجعل لهم الإسلام والدخول في الطاعة مقابل العفو.. لكنه عفا وتركهم أحرارا، فقال لهم: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ».. طليقة أيديكم وعقولكم وقلوبكم.. لا سلطان لي عليكم إلا في حدود قانون الدولة ودستور المجتمع..

إن كان لك دعوة أو رأيٌّ فالجميل بك أن تقدمه وتعرضه عرضا ولا تفرضه فرضا، وأسعد لحظاتك أن يتبنى غيرُك فكرتَك عن طواعية واختيار، حتى إنه يدافع عنها دونك، بل ولم يتركها حتى لو تركتها أنت، بل يواجهك بها حتى لو خالفتها أنت وتنكرت إليها.. لأنه امتلكها..

فها هو صلى الله عليه وسلم يترك عدوه في المسجد- وقد ربطه الذين أسروه لا النبي صلى الله عليه وسلم- فتركه ليعطيه فرصة لرؤية الدين والإسلام متمثلا في مجتمع المسلمين، لا مجرد رايات مكتوب عليها لا إله إلا الله أو أَلْسِنة تنطقها، ويريه الحقيقة، لا ليدخله فيه بلا حرية واختيار، فقد أَسَرَ فريقٌ من الصحابة الكرام "ثمامةَ بن أثال، سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ماذا عندك يا ثمامة؟» فقال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تُنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد"... وكرر عليه ذلك ثلاثة أيام؛ يعرض عليها الكرامة عرضا ولا يفرضها فرضا، ثم في اليوم الثالث، قال لأصحابه: «أطلقوا ثمامة»، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، يا محمد، والله، ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي، والله، ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوتَ، فقال: لا، ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله، لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم"[صحيح مسلم وغيره]. فأخذ الإسلام عن اقتناع واختيار لا عن فرض وإجبار؛ ولعله قد خطر له ذلك فلم يعلن إسلامه في القيد، وإنما بعد أن فُكّ عنه القيدُ وأُطْلِقَت حريتُه.. بل ذهب بعد ذلك يحمل الفكرة عن صاحبها ويحامي عليها دونه ويخاطر بنفسه من أجلها.. فلو كانت فُرضِت عليه فرضًا لكان قد وجد لحظة التَّفَلَّت منها.. ولكنه قال : "أسلمت مَعَ محمد"، ولم يقل حتى: "أسلمت أو استسلمت لـمحمد".

وفي قصة إسلام أبي العاص إشارة إلى مبلغ التمتع بالحرية أمام الناس، فقد خرج أبو العاص قُبَيْل فتح مكة تاجرا بأموال قريش إلى الشام، وعند رجوعه اعترضته سَرِية من سرايا المسلمين المدنية، فأخذوا ما معه من أموال، فهرب إلى المدينة ليلا فدخل على زينب مستجيرا بها فأجارته، ونادت في صلاة الصبح أني قد أجرت أبا العاص بن الربيع، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته قَبِل إجارتها، لأن المسلمين يجير عليهم أدناهم، واستأذن المسلمين في أن يردوا عليه أمواله، فردوها عليه كلها؛ فلما رجع مكة وأعطى الأموال أصحابَها، أعلن إسلامه فيهم، وأخبرهم أنه لم يسلم بالمدينة خوفا من أن يتهموه أنه إنما أسلم لأجل أن يأكل أموالهم، ثم هاجر إلى المدينة فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه زوجته زينب رضي الله عنها(سيرة ابن كثير:3/ 339). وقد خطر له ذلك أيضًا؛ فلم يعلن إسلامه حتى رجع مكة التي كانت موطنه ومأمنه، وحتى يعلم العالم حوله أن إسلامه لم يكن تحت رغبة أو رهبة.. وإنما هو الاختيار الحر..

وفي غزوة أحد وقد أشيع مقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فألقى بعضهم السلاح، وظنوا أن الأمر انتهى بنهاية صاحب الدعوة!.. فقام لهم من بينهم من كان قد امتلك الدعوة مع صاحبها وورثها عنه وتبناها من بعده.. فقال: ما تصنعون بالحياة من بعده.. قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وهو يشعر أن الدعوة له، وما كان النبي إلا واسطة تبليغ.. ولم يقل عما نقتل أنفسنا عن فكرةِ غيرنا وقد مات صاحبها..

ووقع شبيه ذلك لمانعي الزكاة، فقالوا: كنا نؤديها لرسول الله فما بال أبي بكر؟! وكأنهم كانوا يتبنون أمر غيرهم محاباة أو ممالأة أو رغمًا؛ وليس الأمر لهم ينفعهم فعلُه ويضرُّهم تركه.. لكن جيل الصحابة الكريم بقيادة أبي بكر رضي الله عنهم جميعا كانوا قد احتضنوا دعوة نبيهم وتبنَّوْها وتملَّكوها من بعده فقاموا يدافعون عنها..

فأين هم من الحرية، بل من الإنسانية أولئك الذين يفرضون على الناس اليوم مذاهبهم الأرضية، وأديانهم المخترعة؟! بل حتى اختياراتهم الفقهية كان ينبغي أن تكون اختيارات شخصية لا يجوز جعلها دينا للناس مخالفه مبتدع أو ضال!

حين أخذ بعضُ المسلمين الناسَ بالقوة في بعض البلاد وحملوهم على الاتِّباع حملا، فاستجابوا كرها، أكثر مما كان طوعا ومحبة وقناعة، ولم يكن وصل بهم الإيمانُ مبلغ الاستجابة له.. فما إن ارتخت يدُ المسلمين عليهم أو حدث انقلاب عليهم حتى هرعت جحافل الناس إلى المقاهي والملاهي.. وشواطئ البحار، وكأنها تنتقم.. وكان ذلك من ترك سنة التدرج والبدء بالقلوب والعقول قبل الأجساد والالتزام الظاهر كَرها.

وقبل الختام أقول: إن مبدأ الحرية هذا لا يعني الانفلات من كل ضابط واتباع كل هوى وشهوة.. فإن هذا نفسه ينافي الحرية الحقيقة، ويكون عندئذ خضوعا للهوى البشري، أو الإغواء الشيطاني.. لذلك جاءت الشرائع بحدود وأحكام وقوانين وآداب لتضبط هذه الحرية، وما من حد منها أو قيد إلا وهو يعود على الفرد أو الجماعة أو كليهما بجلب النفع ودفع الضرر، ومنع أن يكون بعضهم لبعض أربابا أو عبيدا.. وجمل ضابط الحرية ألا تضاد شريعة رب العالمين، محررة الحريات، وألا تعود بالضرر على الفرد والجماعة.. ومن ثم فالأخذ على يدي المشاغبين أو مستعملي الحرية في غير مواضعها فهذا ضبط للحرية  الصحيحة، بل وتحرير الحرية نفسها، وحتى لا يقع الفساد المجتمع بحجة الحرية والتحرر..

ولي في هذا أيضا مقالة قديمة رابطها وعنوانها : أسمى معاني الحرية

أبو محمد بن عبد الله

أبو محمد بن عبد الله

باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.

  • 2
  • 0
  • 6,676

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً