ومضات تربوية وسلوكية:المقال الرابع عشر

منذ 2019-02-17

ووجدت أن من لا يرويه الحلال يقنع به ويصبر عليه لا يرويه الحرام ولو وصل به إلى نساء الأرض جميعا. [من حديث النفس، على الطنطاوي، ص 305]

تذخر بطون الكتب بالعديد من الأفكار الذهبية والعبارات المحورية الجديرة برصدها وتدوينها للوقوف على كنوز مفكرينا وكُتابنا العظام، وللانتفاع بالفائدة المرجوة منها، ولذلك حرصت خلال جولتي بين دفوف الكتب أن أرصد هذه الثروات الفكرية والتربوية والتحليلية، وأنقلها بنصها كما وردت فيها أو باختصار طفيف في بعض الأحيان، هذا كي يستفيد منها القاسي والداني، سائلا المولى عز وجل أن ينفع بها الكبير والصغير، وأن يكتب لكاتبها وجامعها وقارئها الأجر والمثوبة إنه نعم المولى ونعم النصير.   

 

 (المصالح المعتبرة)

ولا نزاع أن المصالح المعتبرة هي مصلحة الدين ثم مصلحة النفس ثم مصلحة العرض ثم مصلحة العقل ثم مصلحة المال، وهذه الأخيرة يمكن أن يكون فيها نزاع لكن لا شك أن هذه المصالح معتبرة بهذا الترتيب ولكن البعض يفهم أن مصلحة الدين هي أن نضحي بالنفوس من غير تحصيل مصلحة دينية، وليس كذلك، فالمصلحة الدينية يمكن أن تقوم مع استبقاء مصلحة النفس، وإلا فلما جاز النطق بكلمة الكفر عند الإكراه؟ أليس حفظا لمصلحة النفس مع حفظ مصلحة الدين؟ فإن مصلحة الدين حاصلة وموجودة لأنه نطق بالكفر مع الإكراه وقلبه مطمئن بالإيمان فهو ما زال مؤمنا، فحصل مصلحة النفس مع بقاء مصلحة الدين وبذلك يكون قد حصّل مصلحتين.

أما إذا كان يعلم أنه لو نطق بكلمة الكفر أو ظل مع الكافرين ووافقهم فإنه يكفر اختيارا فالواجب عليه –والحالة هذه- أن يصبر استبقاء لإيمانه، لذلك قال الصبي لأمه: «يا أمه اصبري فإنك على الحق» لأنها لو لم ترم بنفسها في النار لبقيت ولكفرت لذلك.

وفي هذا دليل على أن المسلم لو خير بين أن يقتل ويقتل صبيانه على التوحيد وبين أن يؤخذوا منه فينشئوا على الكفر، لكان الخيار الذي يلزمه أن يقتل هو وصبيانه، لأن الدين مقدم على النفس –كما بينا- ولا يرضى بكفر أولاده الصغار –ولو كانوا دون البلوغ، ودون التكليف- والله أعلم. [منطلقات الدعوة إلى الله، ياسر برهامي، دار الفتح الإسلامي، ص 82-83]    

(صاحب الشهوة)

طلبت متعة الجسد وصرمت الليالي أفكر فيها وأضعت أيامه في البحث عن مكانها، وكنت في سكرة الفتوة الأولى لا أكاد أفكر إلا فيها ولا أحن إلا إليها أقرأ من القصص ما يتحدث عنها، ومن الشعر ما يشير إليها. ثم كبرت سني وزاد علمي، فذهبت السكرة وصحت الفكرة، فرأيت أن صاحب الشهوة الذي يسلك إليها كل سبيل كالعطشان الذي يشرب من ماء البحر وكلما ازداد شربا ازداد عطشا، ووجدت أن من لا يرويه الحلال يقنع به ويصبر عليه لا يرويه الحرام ولو وصل به إلى نساء الأرض جميعا. [من حديث النفس، على الطنطاوي، ص 305]     

 (من كتابات الشيخ الطنطاوي عن السيرة النبوية)

وأقسم أني لم أسر فيها غير قليل حتى أحسست بلذة فنية تمتلك علي أمري وتستأثر بنفسي، كاللذة التي أحسها عندما أقرأ الأثر الأدبي البارع لأول مرة، وتغلبني حتى تضطرني أحيانا إلى قطع القراءة لأمسك بقلبي الواجب أو أمسح عيني المستعبرة، أو أصغى إلى صوت الحق في ضميري ومنادي الفضيلة في قلبي.

ثم أسير فيها، فأنتقل من اللذة الفنية والشعور بالجمال إلى شيء أغلى من الفن وأسمى من الجمال، أحس بحلاوة الإيمان. وإن للإيمان لحلاوة عرفها من عرفها وجهلها من جهلها، فمن عرف درى ما أقول، ومن جهل لم ير إلا حروفا فارغة من المعنى.

وإذا جاء الإيمان جاءت معه البطولة بأروع أشكالها والتضحية بأعجب أنواعها، وجاء معه الصبر والإيثار والقوة والشعور وكل فضيلة من فضائل البشر، وكذلك كانت حياة أصحاب هذه السيرة.

كانت حياة أسمى وأجمل من كل حياة عرفتها أو قرأت عنها أو تخيلتها: معرفة للغاية التي خلق الله الناس من أجلها، وجهاد في سبيل هذه الغاية، وجري على هذا الجهاد، وترفع عن خدع الحياة وألاعيبها، واتصال بالله يكاد والله يرفعهم من رتبة الإنسانية إلى رتبة الملائكة، ويخرج بهم من ثوب الجسم المادي حتى يكونوا روحا خالصا.

عرفوا ما هي الغاية من الحياة وفهموها، على حين جهل الناس هذه الغاية فهم يسألون أبدا: لماذا نعيش؟ أو خدعوا عنها بغايات دنيئة قريبة. أما هؤلاء الغربيون فحسبوا أن الغاية من الحياة هي الحياة. جعلوا السبب هو المسبب والوسيلة هي الغاية، فعمدوا إلى ترفيه الحياة واستخدموا لأجل ذلك ما قدروا عليه، فصارت حضارتهم آلية جامدة، وصاروا لطول ما اشتغلوا بالحديد والنحاس يفكرون بعقول من حديد ونحاس، وانقطعت صلتهم الروح وانبتوا مما وراء المادة.

وأما هؤلاء المشرقيون من الهنود وأمثالهم، فساروا على الضد وأهملوا الجسم وعاشوا للروح، فظنوا بأن غاية الحياة الفناء في المطمح الروحي، فقتلوا أجسامهم وأعرضوا عن دنياهم، وأغرقوا أعمارهم في تأمل لا أول له ولا آخر، ولا جدا منه ولا منفعة.

أما الفلاسفة فكان منهم الماديون الذين بلغ من رقاعتهم أن أنكروا الروح إنكارا وجحدوا الله، وقال متكلمهم: إن الدماغ يفرز الفكر كما تفرز الكبد الصفراء. فجعل الفكر مادة سائلة! ومنهم الروحيون الذين كانوا أصح نظرا وأدنى إلى الحق، ولكنهم لم يصلوا إليه، تساءلوا منذ بدؤوا يفكرون: لماذا نعيش؟ ولا يزالون مختلفين يتساءلون هذا السؤال الذي عرف المسلمون وحدهم جوابه حين قرؤوا قول الله الذي أنزله على عبده ورسوله { {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} } [الذاريات:56] [نور وهداية، على الطنطاوي، دار المنارة ص 105-106]

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 2
  • 0
  • 2,205

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً