الاعتكاف وتربية النفس
فوائد الاعتكاف كثيرة منها ما ذكرنا، ومنها: زيادة الصلة الإيمانية بالله، والإكثار من أنواع العبادات التي تزكي النفس، وتجعل المرء أكثر قدرة على مواجهة فتن الحياة.
ما أحوج الإنسان إلى أن يخلو بنفسه ويركن إلى زاوية الفكر والذكر يتأمل حاله فيصلحه، ويتأمل نعمة الله عليه فيحمده ويشكره، ما أحوج الإنسان إلى هذه الخلوة الإيمانية في عالم ملأه الضجيج والاضطراب والفتن، ما أحوجه إلى أن يخلد إلى محراب الإيمان يعتكف فيه لا هربا من الحياة ومشكلاتها، ولكنه تجديد لقوة النفس وثقتها وإيمانها بربها.
وما أجمل أن يكون هذا الاعتكاف في شهر مبارك امتلأ بمعاني الإيمان، وفاحت منه أريج الطاعات، فالناس بين ذاكر وقاريء ومصل، في هذا الجو الإيماني الفريد يخلو العبد بربه ذاكر شاكرا متفكرا في نعم الله عليه، فيجلس الأيام والليالي وهو على هذه الحال، فيشعر بلحظات من السعادة تغمر قلبه وتملأ جوانحه، لحظات لم يشعرها في عالم الصخب والضجيج بكل ما فيه من زخارف الحياة المادية الجافة.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على الاعتكاف ليخلو بربه سبحانه، فكان صلى الله عليه وسلم يعتكف في مسجده في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قُبِضَ فيه اعكتف عشرين يوماً. كما روى ذلك أبو داود ، وترك النبي صلى الله عليه وسلم الاعتكاف مرة فقضاه في شوال، وكان في ابتداء أمره يعتكف في العشر الأول من رمضان ثم الوسطى ثم العشر الأخيرة يلتمس ليلة القدر، فلما تبين له أنها فيها، داوم على اعتكافه فيها حتى لحق بربه عز وجل، وكان صلى الله عليه وسلم يتخذ لنفسه خباء في المسجد وذلك مبالغة منه في البعد عن الناس والخلوة بربه.
لهذا أصبح الاعتكاف سنة لسائر المسلمين يعيشون فيه حياة مملؤها الإيمان واليقين مما يعينهم على الثبات والاستمرار في عمل الصالحات، ويصبح الاعتكاف للمسلم بمثابة بوصلة التصحيح التي تصوب له سيره تجاه هدفه، فلا يغيب عنه ولا يضل.
وفوائد الاعتكاف كثيرة منها ما ذكرنا، ومنها: زيادة الصلة الإيمانية بالله، والإكثار من أنواع العبادات التي تزكي النفس، وتجعل المرء أكثر قدرة على مواجهة فتن الحياة، ولهذا كان مقصود الاعتكاف وروحه كما يقول ابن القيم رحمه الله: " عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبه، والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهم كله به، والخطرات كلها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يُفرح به سواه، فهذا هو مقصود الاعتكاف الأعظم " أهـ.
فينبغي للمعتكف أن يراعي في اعتكافه تحصيل هذه الغايات العظيمة، وألا يخرج من معتكفه خالي الوفاض، كحال من يجعل المساجد مهجعا للنوم وعنوانا للتزاور وتجاذب أطراف الحديث والضحك وفضول الكلام؟
وينبغي للمعتكف أن يعتني بأمور، منها: المحافظة على ذكر الله، وخاصة المأثور منها كأذكار الصباح والمساء والنوم والاستيقاظ، ومن أعظم الذكر قراءة القرآن، فليحرص المعتكف على قراءته قراءة تدبر وخشوع وفهم.
وينبغي للمعتكف أن يتجنب فضول الأكل، فإن قلة الطعام توجب رقة القلب وانكسار النفس، كما أنها تطلق المرء من قيود الكسل والدعة والخمول، والمعتكف بحاجة إلى ترك كل ما يقعده عن الطاعة، ومن ذلك كثرة الأكل، قال عمر رضي الله عنه: "من كثر أكله لم يجد لذكر الله لذة"، كما أنه فرصة للمرء ليُربي نفسه على التقلل والتزهد، ويجاهدها على الاستغناء عن كثير مما اعتادته.
وينبغي للمعتكف كذلك أن يحرص على تجنب فضول المخالطة، فإن كثرة الخلطة تقصر همة العبد، وتفقده لذة المناجاة، و هي مظنة كثرة المزاح والتقليل من هيبة المكان والزمان، وقد تجر إلى بعض الآثام كالغيبة والكذب وغير ذلك.
فاحرص أخي الصائم على إحياء هذه السنة العظيمة، والاقتداء فيها بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة الصالحين، وتوجه بقلبك وجوارحك إلى الله عز وجل في ذل وخضوع وانكسار، حتى تخرج منها وقد ازددت إيماناً وتقوى وقرباً من ربك جل وعلا، لتلحق بركب المقبولين الفائزين، قبل أن تطوى الصحف وتوضع الموازين، نسأل المولى عز وجل أن يجعلنا من الفائزين المقبولين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
- التصنيف: