نحو تجديد العقل المسلم - (6) أجيالنا القادمة

منذ 2019-06-29

لا يمكن لدولة تريد التقدم أن تترك عقول أبنائها بين يدي المستثمرين والتجار والشطار ورجال الأعمال، ولو فعلت فإنما تضع مستقبل البلاد كله في مهب الريح.

في يوليو ٢٠٠٧ أقيمت المناظرة الرابعة بين ٨ مرشحين طامحين لنيل تذكرة ترشح الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام ٢٠٠٨، كان منهم باراك أوباما وهيلاري كلينتون وجو بايدن (نائب الرئيس أوباما فيما بعد والمرشح الحالي لانتخابات ٢٠٢٠)

شاهدت آنذاك تلك المناظرة المثيرة التي نظمتها شبكة سي إن إن بالاشتراك مع موقع يوتيوب الذي كان جديدا في ذلك الوقت (وقبل استحواذ جوجل عليه)، بحيث تلقى المرشحون أسئلة من إعلامي السي إن إن (أندرسون كوبر) ومن مجموعة مواطنين بالفيديو من موقع يوتيوب. كانت أسئلة المواطنين أهم وأقرب للواقع.

فاجأ أحد المواطنين المرشحين بالسؤال التالي:
أريد أن أعرف هل يرسل المرشحون الثمانية أولادهم للمدارس الحكومية أم المدارس الخاصة؟
ضجت قاعة المناظرة فورا بتصفيق حاد لأهمية السؤال غير المتوقع!
أخطأ الإعلامي كوبر عندما تسرع ووجه السؤال أولا لهيلاري كلينتون (ربما لثرائها الواسع) وقال: طبعا سيناتور كلينتون كنت ترسلين ابنتك إلى المدارس الخاصة؟


سارعت كلينتون بنفي “التهمة” عنها وقالت: لا .. غير صحيح .. ابنتي تشيلسي أرسلناها لمدرسة حكومية من الحضانة وحتى الصف الثامن، لكن بعد أن أصبح زوجي رئيسا وانتقلنا للعيش في البيت الأبيض، تلقينا نصائح بضرورة وضعها في مدرسة خاصة لإبعادها عن الضغط الإعلامي.


تدخل السيناتور جون إدواردز وقال: عندي أربعة أبناء كلهم درسوا بالمدارس الحكومية.
استجوب كوبر باقي المرشحين الذين قالوا إن أبناءهم درسوا بالمدارس الحكومية ما عدا أوباما وبايدن، وقد برر كل منهما موقفه كالتالي:


قال أوباما: كنت أستاذا في جامعة شيكاغو مما اضطرني لإلحاق ابنتي الاثنتين بمدرسة تابعة للجامعة لسهولة توصيلهما من وإلى المدرسة.
وقال بايدن: توفيت زوجتي وابنتي في حادث سيارة، وساعدتني أختي في تربية ولدين لي، وحيث إنني مسيحي كاثوليكي ملتزم فكان لزاما علي أن ألحقهما بمدرسة كاثوليكية، وهذه بطبيعة الحال مدرسة خاصة.

نخبة المجتمع هناك يتفاخرون بإلحاق أولادهم بالمدارس الحكومية، ومن لم يفعل اضطر للدفاع عن نفسه!
في الدول القومية المعاصرة، أصبحت قوة الدولة تعتمد على استثمارها في تنمية أبنائها، وأصبح التعليم الحكومي مؤشرا لا يخيب لمدى تقدم الدولة أو تراجعها.

لا يمكن لدولة تريد التقدم أن تترك عقول أبنائها بين يدي المستثمرين والتجار والشطار ورجال الأعمال، ولو فعلت فإنما تضع مستقبل البلاد كله في مهب الريح. إذا عرفت مستوى التعليم الحكومي في المدارس والجامعات، ستعرف بدقة مدى قوة البلد ووضعها في المستقبل.


أعددت العام الماضي دراسة عن وضع الجامعات العربية لعام ٢٠١٨، وكانت المؤشرات بائسة ومتخلفة للغاية في كل البلاد العربية بلا استثناء.

إن العقل المسلم الناشئ يتشكل أول ما يتشكل داخل البيت ثم داخل محاضن الدراسة الأولى، ومن الواضح أن استهداف اللغة العربية منذ عدة عقود بدأ يؤتي ثماره المرة، من عزوف أبنائنا عن القراءة والمعرفة بلغتهم الأم، وأقيمت حواجز حقيقية بينهم وبين دينهم وتراثهم المعرفي بسبب هذا الضعف اللغوي.

ثم شنت عليهم غارة شاملة لإضعافهم علميا في سائر العلوم والمعارف، وأصبح الطلاب - حتى المتفوقون منهم - يجيدون حل الامتحانات وتحقيق الدرجات العليا فيها دون فهم للمادة المدروسة، اللهم إلا فلتات فردية هنا وهناك.
محاضن تشكيل العقل المسلم الأولى لا غنى عن استعادتها والنهوض بها إن كان لنا أن ننقذ أجيالنا القادمة، وإن فرطت فيها الحكومات القائمة فلا يصح لنا – نحن المسلمين – أن نستسلم أمام هذه الجريمة، بل أن ننهض بها أفرادا ومؤسسات 
... يتبع

محمد هشام راغب

كاتب وداعية إسلامي

  • 4
  • 3
  • 4,539
المقال السابق
(5) الأسرة والمدرسة
المقال التالي
التربية والتعليم (7)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً