حكم العقيقة "قول ودليل" - مناقشة وترجيح

منذ 2019-07-05

بعد إجالة النظر والفكر في أدلة العلماء في هذه المسألة يتضح لي رجحان قول جمهور أهل العلم بأن العقيقة سنة مؤكدة، وليست فرضاً واجباً كما قال الظاهرية، ولا مكروهة ولا منسوخة، كما قال بعض الحنفية.

بعد إجالة النظر والفكر في أدلة العلماء في هذه المسألة يتضح لي رجحان قول جمهور أهل العلم بأن العقيقة سنة مؤكدة، وليست فرضاً واجباً كما قال الظاهرية، ولا مكروهة ولا منسوخة، كما قال بعض الحنفية.
__________
قال الإمام الشافعي: أفرط فيها - أي في العقيقة - رجلان قال أحدهما: هي بدعة، والآخر قال: واجبة.
والعقيقة كانت معروفةً عند سلف الأمة ويعملون بها ويحافظون على هذه السنة النبوية قال الإمام مالك: وليست العقيقة بواجبة ولكنها يستحب العمل بها وهي من الأمر الذي لم يزل عليه الناس عندنا.
وقال الإمام أحمد: إنها من الأمر الذي لم يزل عليه أمر الناس عندنا.
وقال أبو الزناد: العقيقة من أمر المسلمين الذي كانوا يكرهون تركه.
وقال يحيى الأنصاري: أدركت الناس لا يدعون العقيقة عن الغلام وعن الجارية.
وقال الثوري: ليست العقيقة بواجبة وإن صنعت فحسن.
وقال ابن المنذر: وهو - أي أمر العقيقة - معمول به بالحجاز قديماً وحديثاً ... قال: وانتشر عمل ذلك في عامة بلدان المسلمين متبعين في ذلك ما سنَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: وإذا كان كذلك لم يضر السنة من خالفها وعدل عنها.

وقال ابن رشد الجد: إن من تركها تهاوناً بها من غير عذر فإنه يأثم كسائر السنن.


ومما يؤكد لنا هذا الترجيح:
إن الأدلة التي ساقها الظاهرية ومن وافقهم على وجوب العقيقة مصروفة عن ظاهرها بالنص وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فلينسك» فعلق ذلك على المحبة والاختيار فهذه قرينة منصوصة، صرفت الأمر من الوجوب إلى الندب، وأحاديثهم محمولة على تأكيد الاستحباب، جمعاً بين الأخبار.


وأما أدلة الحنفية على كراهيتها أو نسخها فالجواب عنهما بما يأتي:
1. إن الحديث الذي احتج به الحنفية أولاً: «نسخت الأضحية كل دم كان قبلها ...» حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به، وقد روي هذا الحديث من عدة طرق ذكرها الدارقطني في سننه وبين ضعفها كما يلي:
أ. حدثنا أبي أن محمد بن حرب نا أبو كامل نا الحارث بن نبهان نا عتبة بن يقظان عن الشعبي عن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «محا ذبح الأضاحي كل ذبح قبله ...» هذا الحديث فيه عتبة بن يقظان وهو متروك كما قال الدارقطني، وقال الحافظ في التقريب: ضعيف.
ب. نا محمد بن يوسف بن سليمان الخلال نا الهيثم بن سهل نا المسيب بن شريك نا عبيد المكتب عن عامر عن مسروق عن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «نسخ الأضحى كل ذبح ... » ) هذه الرواية فيها المسيب بن شريك قال فيه يحيى بن معين: [ليس بشيء. وقال أحمد: ترك الناس حديثه. وقال مسلم: متروك] . وضعفه الزيلعي أيضاً.


جـ. ان محمد بن عبد الله الشافعي ان محمد بن تمام بن صالح النهراني بحمص ان المسيب بن واضح ان المسيب بن شريك عن عتبة بن يقظان عن الشعبي عن مسروق عن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن ونسخ صوم رمضان كل صوم ونسخ غسل الجنابة كل غسل ونسخت الأضاحي كل ذبح» ، وفيه أيضاً المسيب بن شريك وعتبة بن يقظان وعرفت ما قيل فيهما فلا يحتج بهما. وقال صاحب التعليق المغني على الدارقطني: حديث علي مروي من طرق وكلها ضعاف لا يصح الاحتجاج بها] ، وقال النووي: [اتفق الحفاظ على ضعفه] .


وقال الألباني عن هذا الحديث: [ضعيف جداً. رواه الدارقطني في سننه ص543 من طريق الهيثم بن سهل المسبب بن شريك: نا عبيد المكتب عن عامر عن مسروق عن علي مرفوعاً. وقال: خالفه المسيب بن واضح عن المسيب - هو ابن شريك - وكلاهما ضعيفان، والمسيب ابن شريك متروك. ثم ساقه من طريق ابن واضح نا المسيب بن شريك عن عتبة بن يقظان عن الشعبي عن مسروق به. وقال: عتبة بن يقظان متروك أيضا ً. ورواه البيهقي 9/ 261 - 262 عن
__________

ابن شريك بالوجهين. ونقل عن الدارقطني ما سبق من التضعيف الشديد وأقره عليه.
ومن آثار هذا الحديث السيئة أنه صرف جماً غفيراً من هذه الأمة. عن سنة صحيحة مشهورة، ألا وهي العقيقة، وهي الذبح عن المولود في اليوم السابع، عن الغلام شاتين وعن الأنثى شاةً واحدةً، وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة تراجع في كتاب تحفة الودود في أحكام المولود للعلامة ابن القيم، اجتزئ هنا بإيراد واحد منها وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دماً» (رواه البخاري 9/ 486). وغيره من حديث سلمان بن عامر الضبي مرفوعاً. لقد ترك العمل بهذا الحديث الصحيح وغيره مما في الباب حتى لا تكاد تسمع في هذه البلاد وغيرها أن أحداً من أهل العلم والفضل - دع غيرهم - يقوم بهذه السنة! ولو أنهم تركوها إهمالاً كما أهملوا كثيراً من السنن الأخرى لربما هانت المصيبة، ولكن بعضهم تركها إنكاراً لمشروعيتها! لا لشيء إلا لهذا الحديث الواهي! فقد استدل به بعض الحنفية على نسخ مشروعية العقيقة! فإلى الله المشتكى من غفلة الناس عن الأحاديث الصحيحة، وتمسكهم بالأحاديث الواهية الضعيفة].
وأجاب ابن حزم عن احتجاجهم بنسخ الأضحى كل ذبح قبله بقوله: [واحتج من لم يرها واجبة برواية واهية عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين:

(نسخ الأضحى كل ذبح كان قبله) وهذا لا حجة فيه لأنه قول محمد بن علي، ولا يصح دعوى النسخ إلا بنص مسند إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
وقال الإمام أحمد في الأحاديث المعارضة لأحاديث العقيقة: [ليست بشيء ولا يعبأ بها].
وادعاء الحنفية بأن الأضحية نسخت العقيقة باطل لأن الأضحية شرعت في السنة الثانية للهجرة وعق النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن والحسين في السنتين الثالثة والرابعة، وحديث أم كرز في العقيقة كان عام الحديبية وهي في السنة السادسة للهجرة والعقيقة عن إبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت سنة ثمان للهجرة، فكيف ينسخ المتقدم المتأخر وهذا باطل.
وقال الحافظ ابن عبد البر: ليس ذبح الأضحى بناسخ للعقيقة عند جمهور العلماء ولا جاء في الآثار المرفوعة ولا عن السلف ما يدل على ما قال محمد بن الحسن ولا أصل لقوله في ذلك].
وأما احتجاج الحنفية بحديث: (لا يحب الله العقوق) فلا دلالة فيه على كراهة العقيقة لأن بقية الحديث تثبتها وهي: (من ولد له فأحب أن ينسك عن ولده فلينسك).

 

قال البغوي: [وليس هذا الحديث عند العامة على توهين أمر العقيقة ولكنه - صلى الله عليه وسلم - كره تسميتها بهذا الاسم على مذهبه في تغيير الاسم القبيح إلى ما هو أحسن منه فأحب أن يسميها بأحسن منها من نسيكة أو ذبيحة أو نحوها] .
وأما الجواب عن احتجاجهم بحديث: (لا تعقي)، فما قاله الحافظ العراقي في شرح الترمذي يحمل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان عق عنه ثم استأذنته فاطمة أن تعق هي عنه أيضاً فمنعها.
وقال الحافظ ابن حجر: [ويحتمل أن يكون منعها لضيق ما عندهم حينئذ فأرشدها إلى نوع من الصدقة أخف، ثم تيسر له عن قرب ما عق به عنه].
وقال ابن القيم: [ولو صح قوله (لا تعقي) عنه لم يدل ذلك على كراهية العقيقة لأنه عليه الصلاة والسلام أحب أن يتحمل عنها العقيقة فقال لها: (لا تعقي) وعق هو عليه الصلاة والسلام عنهما وكفاهما المؤنة].
وقال الشوكاني: [قوله: (لا تعقي) قيل يحمل هذا على أنه قد كان - صلى الله عليه وسلم - عق عنه، وهذا متعين].
هذا هو الظاهر لأن الأحاديث قد ثبتت ثبوتاً لا مجال للشك فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين فحصل أصل السنة بعق الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنهما ولا داع لأن تعق فاطمة عنهما مرة ثانية. والله أعلم.

ولا بد أن أذكر أن بعض علماء الحنفية لم يتعصب لمذهبه بل خالف المذهب اعتماداً على ما صح من الأحاديث والآثار في إثبات مشروعية العقيقة ومن هؤلاء المنصفين العلامة أبو الحسنات اللكنوي حيث قال معلقاً على قول محمد بن الحسن بنسخ العقيقة (وإن أريد أنها كانت في الجاهلية مستحبة أو مشروعة، فلما جاء الإسلام رفض استحبابها وشرعيتها فهو غير مسلم، فهذه كتب الحديث مملوءة من أحاديث شرعية العقيقة واستحبابها ... ).
وأما ما احتج به أصحاب القول الرابع فلا حجة فيه لأنه جمود على ظاهر النصوص التي جعلت العقيقة في اليوم السابع فقط.
وأما ما احتج به أصحاب القول الخامس على عدم مشروعية العقيقة عن الأنثى فترده الأحاديث الثابتة في ذلك كحديث أم كرز وعائشة وأسماء، ولعل هذه الأحاديث لم تبلغهم. والله أعلم.

حسام الدين عفانه

دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.

  • 6
  • 0
  • 8,041
المقال السابق
القول الخامس
 

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً