تعقيبٌ مُوجَز على مقال: "حديثٌ صحيحٌ يُثبِتُ سماعَ الصحابةِ في أعراسِهم للمُوسيقى"
ما أعظمَ هذا الدِّينَ، وما أعظمَ اعتدالَه ووسطيتَه التي غفَل عنها كثيرٌ من الناسِ؛ فغَلَوْا أو جَفَوْا! فرغمَ تَحريمِ الدِّينِ للمعازفِ بجَميعِ أنواعِها، كما في الحديثِ الصحيحِ: (لَيَكونَنَّ مِن أُمَّتى أقوامٌ يَستَحِلُّونَ الحِرَ، والحَريرَ، والخَمرَ، والمعازِفَ))
الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على خاتَمِ الأنبياءِ والمُرسَلين، نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبِه أجمعين، ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين.
أما بعدُ:
فقد اطلعتُ على مقُالةٍ بعنوان "حديثٌ صحيحٌ يُثبِت سماعَ الصحابةِ في أعراسِهم للموسيقى"، ذَكرَ فيها الكاتبُ أنَّ المزاميرَ والطُّبولَ كانتْ تُستخدَمُ في الأعراسِ في عهدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويَحضرُها الصحابةُ الكرامُ رضِيَ اللهُ عنهم، مُستدِلًّا بـحديثٍ عن جابرِ بنِ عبدِاللهِ رضِيَ اللهُ عنهما، أنَّه قال: (فكان الجواري إذا نُكِحوا كانوا يمرُّون بالكَبَرِ [أي: الطَّبلَ] والمزاميرِ)، ثم قال: (لا أدري كيف تَغافَلَ المحرِّمون عن هذا الحديثِ الصحيحِ، الذي يدلُّ على أنَّ غِناءَ الأعراسِ لم يكُنْ يَقتصِرُ على الدُّفوفِ، وأنه كانتْ تُستعمَلُ فيها المزاميرُ والطبولُ مِن آلاتِ المعازِفِ؟! ولا أدري بماذا سوف يُجيب المعاصِرون من أصحابِ التَّشنيعِ والإنكارِ على المُبيحينَ؟! أقول لكم ماذا سوف يقولون: سيُحاولون تضعيفَ الحديثِ، بلا سَلفٍ ولا حُجَّةً، سيُحاولون ادِّعاءَ النَّسْخِ، بلا حُجَّةٍ ولا بُرهانِ، سيُحاولون تأويلَ المزاميرِ بالصوتِ الحَسنِ، والكَبَرِ بالدُّفِّ، وهو تأويلٌ باطلٌ، ما سبَقَهم إليه أحدٌ، ويُخالِفُ ظاهرَ النصِّ وفَهْمَ الطبريِّ وغيرِه.(
وهنا وقفتان قبل الشروع في التعْقِيب:
الأولى: لا يَنبغي لطالبِ العِلم الباحثِ عن الحقِّ استخدامُ أسلوبِ التعالي والتهكُّمِ والسُّخريةِ والاستفزازِ مع غيرِه مِن طَلبةِ العِلمِ؛ فكيف إذا كان المخالِفُ مِن كِبارِ الفُقهاءِ والعُلماءِ المتقدِّمين والمعاصِرين؟! فمِثلُ هذه العِباراتِ: (تغافَل المحرِّمون)، (أصحاب التَّشنيع والإنكار على المُبيحين)، (سيُحاولون تضعيفَ الحديث، وسيُحاولون ادِّعاء النَّسْخ، وسيُحاولون تأويلَ المزامير)، (بلا سلَفٍ ولا حُجَّة، بلا حُجَّةٍ ولا بُرهان، تأويل باطِل، ما سبَقهم إليه أحدٌ، ...)؛ مِثلُ هذه العباراتِ يجب أن يترفَّع عنها طالب العِلم.
الثانية: ما كان ينبغي للكاتِب -هداه الله- أن يجعل عنوان المقالِ: "حديثٌ صحيحٌ يُثبِتُ سماعَ الصحابةِ في أعراسِهم للموسيقى"، والحديثُ الذي استشهَدَ به ليس فيه إلَّا الطبلُ والمزمارُ، والكاتبُ وغيرُه يَعلمُ أنَّ لفْظ "الموسيقا" إذا أُطلِقَ اليومَ فيَعنُون به آلاتِ المعازِفِ بشتَّى أنواعِها، ومنها: العُود، والكَمان، والأكورديون، والبيانو، والناي، والقِيثارة، وغيرِها مِن آلاتِ العرَبِ والعَجمِ، وهي التي -للأسفِ- يَستعمِلُها اليومَ كثيرٌ من المسلِمين في أعراسِهم، كما أنَّ الموسيقا اليومَ أنواعٌ، فمنها: موسيقا الجاز، وموسيقا الرُّوك، وموسيقا الرَّاب، وغيرُها ممَّا اخترَعه شياطينُ الإنسِ؛ فكان بالإمكانِ -إن كان ولا بد- أنْ يكونَ عنوان المقال: "حديثٌ صحيحٌ يُثبِتُ سماعَ الصحابةِ في أعراسِهم للطَّبل والمِزمار".
أسألُ اللهَ سُبحانَه وتعالى أنْ يَهدِيَنا وإيَّاه للحقِّ واتِّباعِه.
وجوابًا على قولِه مُتكهِّنًا مُتهكِّمًا مُصادِرًا لرأيِ المخالِفِ قبْلَ سماعِه: (ولا أدري بماذا سوف يُجيب المعاصِرون من أصحابِ التَّشنيعِ والإنكارِ على المُبيحينَ؟! أقول لكم ماذا سوف يقولون: سيُحاولون تضعيفَ الحديثِ، بلا سَلفٍ ولا حُجَّةً، سيُحاولون ادِّعاءَ النَّسْخِ، بلا حُجَّةٍ ولا بُرهانِ، سيُحاولون تأويلَ المزاميرِ بالصوتِ الحَسنِ، والكَبَرِ بالدُّفِّ، وهو تأويلٌ باطلٌ، ما سبَقَهم إليه أحدٌ)- أقول له: على رِسْلِك! لن نُحاوِلَ تضعيفَ الحديثِ، ولا ادِّعاءَ نسْخِه، ولا تأويلَ المزاميرِ بالصوتِ الحسَنِ والكَبَرِ بالدُّفِّ، رغْمَ أنَّ كلَّ هذا قال به ثُلَّةٌ من العُلماءُ؛ لكنْ بيْننا وبيْنك عُلماءُ الإسلامِ وفُقهاؤُه على مرِّ العُصورِ ومُختلِفِ المذاهِبِ؛ فإنَّك إنْ بحثْتَ في كُتِب المذاهبِ الفِقهيَّةِ الأربعةِ فإنَّك لن تَجِدَ كِتابًا واحدًا مُعتمَدًا في أيِّ مذهَبٍ مِنها استشهَدَ بهذا الحَديثِ، ليس تغافُلًا منهم –حاشاهم!- بل لاعتباراتٍ أخرى، ولا يصحُّ أنْ يُقالَ: ربَّما لم يَطَّلعوا عليه؛ لأنَّه يَبعُدُ ألَّا يَطَّلِعَ عليه أحدٌ منهم وهم جَمٌّ غفيرٌ، خاصَّةً الأحنافَ؛ فالحديثُ رواه إمامٌ مِن أئمَّتِهم في الحديثِ، وهو الإمامُ أبو جعفرٍ الطَّحاويُّ في كِتابه "مُشكِل الآثار"؛ فجزمًا قد اطَّلعوا عليه، ومع ذلك لم يَستشهِدْ به أحدٌ منهم إلَّا جمالُ الدين المَلْطيُّ في كِتابه "المعتصَر من المختصَر"، وهو ليس كِتابَ فِقهٍ معتمد في المذهَب، بل إنْ نظَرت في كُتُبهم فستجِدُ أنَّهم يَنصُّون على أنَّ المباحَ هو الضَّربُ بالدُّفِّ وحْدَه للنِّساءِ والجواري في النِّكاحِ ومنهم من أجازه أيضًا في العِيدِ والخِتانِ.
قال ابنُ نُجَيمٍ في كِتابِه المُعتمَد في المذهَب الحَنفيِّ ((البحر الرائق)) (7/ 88): (الملاهي نوعان: مُحرَّمٌ، وهو الآلاتُ المُطرِبةُ من غيرِ الغِناءِ كالمِزمارِ، سواءٌ كان مِن عُودٍ أو قَصَبٍ كالشَّبَّابةِ أو غيرِه، كالعُودِ والطُّنبورِ؛ .... والنوع الثاني: مباحٌ، وهو الدُّفُّ في النِّكاحِ).
وقال العدويُّ في حاشيتِه المُعتمَدةِ في المذهب المالِكيِّ (2/ 566): (الآلةُ المُجرَّدةُ عن الغِناءِ تُحرَّمُ مُطلقًا في النِّكاحِ وغيرِه، ولا يجوزُ إلَّا الدُّفُّ وحْدَه في النِّكاحِ، ولا يجوزُ في غيرِه).
وقال النوويُّ -وهو عُمدةُ المذهَب الشافعيِّ- في كِتابه ((روضة الطالبين)) (11/ 228) في تحريمِ المزاميرِ: (المزمارُ العِراقيُّ وما يُضرَبُ به من الأوتارُ؛ حرامٌ بلا خِلافٍ. قلتُ: الأصحُّ أو الصحيحُ تحريمُ اليَراعِ، وهو هذه الزُّمارةُ التي يُقالُ لها الشَّبَّابةُ، وقد صنَّفَ الإمامُ أبو القاسمِ الدَّوْلَعيُّ كِتابًا في تحريمِ اليَراعِ، مُشتمِلًا على نفائسَ، وأطنَب في دَلائلِ تحريمِه، واللهُ أعلمُ. أمَّا الدُّفُّ: فضَرْبُه مباحٌ في العُرسِ والخِتانِ).
وقال الحجَّاوي في ((الإقناع)) (3/238) وهو مُعتمَدٌ في المذهَبِ الحنبليِّ: (ويُسَنُّ إعلانُ النِّكاحِ، والضربُ عليه بدُفٍّ لا حِلَقٌ فيه ولا صُنوجٌ للنِّساءِ، .... ويَحرُمُ كلُّ مَلهاةٍ سِوى الدُّفِّ، كمِزمارٍ وطُنبورٍ ورَبابِ وجِنْك ونايٍ، ومَعرِفةٍ وجِفَانةٍ وعُودٍ وزَمَّارةِ الراعي ونحوِها، سواءٌ استُعمِلتْ لحُزنٍ أو سُرورٍ))
فهذه النقولاتُ ليستْ لشيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ، ولا لإمامِ العَصرِ ابنِ بازِ، ولا لفَقيهِ العصرِ ابنِ عُثَيمين؛ فهؤلاءِ –عند البعضِ- مُتشدِّدون مُتنطِّعون؛ حَرَموا الناسَ البَسْمةَ، ومنَعوهم الفرحةَ، وسلَبوهم البهجةَ حتَّى في أعراسِهم؛ فحرَّموا عليهم آلاتِ المعازفِ والمُوسيقَا والطَّبْل والمزامير! لكنَّها مِن كلامِ فُقهاءِ المذاهبِ الأربعةِ المُعتمَدَةِ أقوالُهم في المذهبِ؛ فلا يصحُّ بعد ذلك اتِّهامُ العُلماءِ المعاصِرينَ المحرِّمينَ لآلاتِ العَزْفِ في الأعراسِ باستثناءِ الدُّفِّ، بأنَّهم يتغافَلون عمدًا عن حديثٍ صحيحٍ يدلُّ على الجوازِ، والـإيحاءُ للقارئِ العاميِّ أنَّه لم يقُلْ أحدٌ بالتحريمِ غيرُهم.
وعدَمُ استشهادِهم بهذا الحَديثِ دليلٌ على عِلَّةٍ في إسنادِه كما ذكر ذلك الدَّارقطنيُّ، أو على نَكارةِ متْنِه وشُذوذِه ومُخالفتِه للأحاديثِ الثابتةِ عن رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم في تحريمِ جميعِ أنواعِ المعازِفِ واستثناءِ الدُّفِّ في النِّكاحِ، ولهذا نظائرُ في الفِقهِ الإسلاميِّ.
وأخيرًا
بقِيَ أنْ أقولَ:
ما أعظمَ هذا الدِّينَ، وما أعظمَ اعتدالَه ووسطيتَه التي غفَل عنها كثيرٌ من الناسِ؛ فغَلَوْا أو جَفَوْا! فرغمَ تَحريمِ الدِّينِ للمعازفِ بجَميعِ أنواعِها، كما في الحديثِ الصحيحِ: (لَيَكونَنَّ مِن أُمَّتى أقوامٌ يَستَحِلُّونَ الحِرَ، والحَريرَ، والخَمرَ، والمعازِفَ))، وقدْ حَكَى كثيرٌ من العُلماءِ الإجماعَ على ذلك؛ رغمَ ذلك فإنَّه أباحَ لهم في الأعراسِ الفرحَ والسُّرورَ واللعِبَ، والضربَ بالدُّفِّ والإنشادَ والغِناءَ المنضبِطَ، والرَّقْصَ مِن غير تَكسُّرٍ وتَثنٍّ وإظهارٍ للعَوَراتِ، لكنْ يأبَى بعضُ الناسِ إلَّا الخروجَ عن هذه الوَسطيةِ بتحريمِ ما أباحَه الشرعُ، والتشديدِ على الناسِ، أو بالتساهُلِ والتفريطِ بإباحةِ ما حرَّمَه الشرعُ مِن استخدامِ المعازِفِ المحرَّمةِ وآلاتِ الموسيقَى المُطْربة!
واللهُ الهادي إلى سواءِ السبيل، والحمد لله ربِّ العالمين
- التصنيف:
- المصدر: