أمور تعين على تهذيب النفوس وتزكيتها
{ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحداً أبداً ولكن الله يُزكي من يشاء والله سميع عليم } [النور:21]
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فمن رحمة الله عز وجل بعباده أن يسر لهم أسباب الهداية, فأرسل لهم رسول يتلو عليهم آياته ويزكيهم, قال سبحانه وتعالى: {كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} [البقرة:151] قال العلامة السعدي رحمه الله: ويزكيكم : أي: يطهر أخلاقكم ونفوسكم, بتربيتها على الأخلاق الجميلة, وتنزيهها عن الأخلاق الرذيلة..كتزكيتكم من الشرك إلى التوحيد, ومن الرياء إلى الإخلاص, ومن الكذب إلى الصدق, ومن الخيانة إلى الأمانة, ومن الكبر إلى التواضع, ومن سوء الخلق إلى حسن الخلق, ومن التباغض والتهاجر والتقاطع إلى التحابب والتواصل والتوادد, وغير ذلك من أنواع التزكية.
والمسلم بحاجة ماسة لتزكية نفسه, ومما يعينه على ذلك أمور, منها:
* الرغبة الصادقة في تزكية نفسه, ليقينه أنه لا يوجد إنسان يخلو من ذنوب وعيوب, ورذائل, وآفات, وأن السعيد من قلت فيه ودقَّت, ومتى علم العبد بنقصه فقد وضع رجله على سلم الكمال, ومتى جهل ذلك فقد أصيب بمصيبة, قال الإمام ابن حزم رحمه الله: من امتحن بالعُجب, فليفكر في عيوبه...فإن خفيت عليه عيوبه جملةً حتى يظن أنه لا عيب فيه, فليعلم أنها مصيبة الأبد, وأنه أتمُ الناس نقصاً, وأعظمهم عيوباً, وأضعفهم تميزاً, وأول ذلك أنه ضعيف العقل...لأن العاقل هو من ميَّز عيوب نفسه, فغالبها, وسعى في قمعها, والأحمق من يجهل عيوب نفسه, إما لقلة علمه وتميزه وضعف فكرته, وإما لأنه يُقدرُ أن عيوبه خصال, وهذا أشدُّ عيوب الأرض....فمن خفيت عليه عيوب نفسه فقد سقط...فليتدارك نفسه بالبحث عن عيوبه, والاشتغال بذلك عن الإعجاب بها....جعلنا الله ممن يُوفق لفعل الخير والعمل به, وممن يُبصرُ رشد نفسه, فما أحد إلا له عيوب.
* أن يدعو الله عز وجل, فعن زيد بن أرقم رضي الله عنه, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل, والهرم والجبن, والبخل, وعذاب القبر, اللهم آتِ نفوسنا تقواها, وزكها أنت خير من زكاها, أنت وليها ومولاها, اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع, ومن نفس لا تشبع, وعلم لا ينفع, ودعوة لا يستجاب لها» .) [أخرجه مسلم]
* النظر إلى من هو فوقه في الدين والعلم والفضائل والعمل الجاد على اللحاق بهم.
* أن يعلم أنه إذا زكى نفسه بالإيمان والعمل الصالح فإنما يعود نفع ذلك على نفسه, قال الله عز وجل: { ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه} [فاطر:18]
ومن ذلك النفع: الفوز والفلاح, قال الله عز وجل: {ونفس وما سواها * فألهما فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها} [الشمس:7-9]
وأعظم فلاح يناله العبد النجاة من النار ودخول الجنة قال سبحانه وتعالى: {جناتُ عدنٍ تجري من تحتها الأنهار وذلك جزاءُ من تزكى} [طه: 76]
* مجاهدة النفس لتزكو من عيوبها وآفاتها, قال الإمام ابن حزم رحمه الله: كانت في عيوب, فلم أزل بالرياضة واطلاعي على ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم, والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين في الأخلاق وفي آداب النفس, أُعاني مُداواتها, حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك بتوفيقه ومنه,....فمنها:
كلف في الرضا, وإفراط في الغضب, فلم أزل أُداوي ذلك...وتحملت من ذلك ثقلاً شديداً, وصبرت على مضض مؤلم كان ربما أمرضني.
ومنها: دعابة غالبة, فالذي قدرت عليه فيها إمساكي عمَّا يُغضب الممازح, وسامحت نفسي فيها, إذ رأيت تركها من الانغلاق ومضاهياً للكبر.
ومنها: عُجب شديد, فناظر عقلي نفسي بما يعرفه من عيوبها حتى ذهب كله, ولم يبق له والحمد لله أثر.
ومنها: حركات كانت تولدها غرارة الصبا [أي:حداثة السن]...فقسرت نفسي على تركها فذهبت.
ومنها: محبة في بُعد الصيت والغلبة, فالذي وقفت عليه من معاناة هذا الداء الإمساك فيه عما لا يحل في الديانة, والله المستعان على الباقي.
ومنها : إفراط في الأنفة.
ومنها: عيبان قد سترهما اللهُ تعالى, وأعان على مقاومتهما, وأعان بلطفه عليهما, فذهب أحدهما البتة ولله الحمد....وطاولني الثاني منهما...ثم يسَّر الله قدعهُ بضروبٍ من لطفه حتى أخلد.
ومنها: حقد مفرط, قدرتُ بعون الله تعالى على طيه وستره, وغلبتُهُ على إظهار جميع نتائجه, وأما قطعُهُ البتة فلم أقدر عليه.
* القراءة في الكتب التي تعينه على تزكية نفسه, وإن أعظم وأفضل كتاب يستقي منه المسلم ما يزكي به نفسه: القرآن الكريم, كلام رب العالمين, الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد, ثم ما صح من كتب السنة النبوية, ثم القراءة في السيرة النبوية, ثم ما كتبه أهل العلم في تزكية النفوس, و من العلماء الذين كان الذين كان لهم إسهام في الكتابة في ذلك: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله, فقد طبع المجلد العاشر من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله باسم: علم السلوك, حيث تكلم في فصل عن أعمال القلوب, وفي آخر عن أمراض القلوب وشفاؤها, وفي ثالث عن تزكية النفوس وكيف تزكو, فلتراجع ففيها كلام نفيس محرر.
ومنهم: تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية: العلامة ابن القيم رحمهما الله, حيث كان له نصيب وافر في الكتابة في هذا العلم, فقد حرَّر فيه تحريراً بالغاً, حتى لم يخل مؤلف له على الوجه الأغلب من بسطه, والحديث عنه, حسبما جاء عن الله ورسوله والصحابة والتابعين والسلف الصالح فعليه من الله الرحمة والرضوان, قال العلامة بكر بن عبدالله أبو زيد رحمه الله: إن من يقرأ مؤلفات ابن القيم رحمه الله تعالى...يخرج بدلالة واضحة: على ابن القيم رحمه الله تعالى كان لديه من عمارة قلبه: باليقين بالله والافتقار, والعبودية, والاضطرار والإنابة إلى الله, الثروة الطائلة والقدح المعلى في جو العلماء العاملين الذين هم أهل الله وخاصته, وأن لديه من الأشواق والمحبة التي أخذت بمجامع قلبه...ما عمر قلبه بالتعلق بالله في السِّرِّ والعلن ودوام ذكره, وأن العبادة حلَّت منه محل الدواء والمعالجة وترويض النفس, فلا عجب إذا رأيناه زاهداً في الدنيا مزدرياً بها قد تلاشت عند مظاهرها وتجلت حقيقتها: أنها فناء. فشمَّر سائراً إلى الله والدار الآخرة. {وما عند الله خير وأبقى} [القصص:60] {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان} [العنكبوت: 64]
فيحسن بالمسلم ألا تخلو مكتبته من كتبه, وأن يكثر من القراءة فيها, فسوف يستفيد فائدةً كبيرة.
ومنهم: تلميذ العلامة ابن القيم: الحافظ ابن رجب رحمهما الله, قال فضيلة الشيخ علي بن عبدالعزيز الشبل: كثر كلامه عن أحوال القلوب, ووجوب تزكية النفوس, وترقيقها لترقى إلى منزلة الصديقين وأولياء الله المقربين, وليبلغ العبد أعلى مراتب الإيمان وهي الإحسان بدرجته الأولى أن يعبد الله كأنه هو يرى الله...فجاءت أكثر مصنفاته الوعظية على هذا النهج.
وقال حفظه الله في خاتمة كتابه " منهج الحافظ ابن رجب الحنبلي في العقيدة " : إن أهم ما أؤكد عليه: العناية بقراءة ودراسة وتفهم وتعقل مؤلفات هذا الجهبذ: الحافظ ابن رجب, والإفادة منها علماً وزكاة للقلب.
وتزكية النفس تحتاج إلى مجاهدة وصبر ووقت, لكن عاقبتها حميدة, فمن تزكت نفسه فسوف يجد انشراحاً في صدره, واستنارةً في قلبه, وسيسهل عليه العمل الصالح, ويتيسر له, وسيمتلئ قلبه من معرفة الله وخشيته, واستشعار عظمته, ومحبته والشوق إليه, والعمل بما يرضيه, وعدم الاغترار بالعمل, والاهتمام بأعمال القلوب, , مع دوام محاسبة النفس للحد من طغيانها, مع الحرص على الثبات والاستقامة على أمر الله.
ومن تزكت نفسه فعليه أن يشكر الله على نعمته, فتزكية النفوس من فضل الله ورحمته, يُزكي من شاء من عباده, قال الله سبحانه وتعالى : {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحداً أبداً ولكن الله يُزكي من يشاء والله سميع عليم } [النور:21] اللهم إني نسألك من فضلك وجودك وكرمك وإحسانك أن تزكي نفوسنا, فأنت خير من زكاها, أنت وليها ومولاها.
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
- التصنيف: