تفاءلوا ولا تيأسوا.
قال ابن القيم -رحمه الله-: " فمن ظن بأنه لا ينصر رسوله، ولا يتم أمره، ولا يؤيده ويؤيد حزبه، ويعليهم ويظفرهم بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالًا لا يقوم بعده أبدًا، فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته، فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك،
بنداود رضواني
آلام وآمال.
الآلام والمشاق محاضن كونية للدعاة إلى الله، وتربة تتفتق فيها بذور شخصيتهم الرسالية، وإن لم يكن الأمر كذلك لوسعت هذه الدعوة الدهماء من الناس وضعاف النفوس، ممن تخور قواهم مع أول شوكة تصيبهم، أو قذى يلحق أعينهم.
و ساحة الدعوة الى الله لم تؤسس قط على العبثً واللهو، بل قواعدها مصنوعة من البأساء والضراء.
أما قوة النفس وعلوها فلا يبرزان إلا بين ركام الإبتلاءات والمحن، فحين يهدأ البحر ويسكن، تبدو الجمهرة ماهرة في السباحة، لكن حين تعلو الأمواج وتترادف، فمتقن العوم حقيقة هو من يثبت أمامها.
و هذا هو حال الداعية إلى الله، لا يعرف في زمن الدعة والرخاء، بل يشار لثباته إبان الشدائد وعظائم الأمور.
وأكيد أن تترصد حملة الرسالة، والمبشرون بنور السماء من الأنبياء والمرسلين، والدعاة المصلحين، المؤذيات، وتفتنهم الصوارف والمعوقات. مصداق هذه الحقيقة ما رواه مصْعب بن سَعد، عن أَبِيه، قَال: " قلْت : يَا رسُول الله، أَيُّ النّاسِ أَشَد بلاء ؟، قَالَ: " الأَنبِيَاء ثم الأَمثل فالأَمْثل، فيبْتلى الرجل على حَسب دِينِه، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينه رِقة ابتلِي عَلَى حسب دينه، فما يبرَح البَلَاء بِالعبد حتى يترُكه يمشِي عَلَى الأَرْض ما عَليْه خطِيئَة " صححه الألباني في صحيح الترمذي.
ومع ذلك، فمستبعد أن تنفث هذه المصاعب والمحن في نفوسهم سموم التشاؤم واليأس، بل يصيرون خلاف ذلك، أكثر ثقة في الله، وأوسع أملاً وتفاؤلاً واستبشاراً.
فنوح أوذي مئات السنين، وأما إبراهيم ويوسف وموسى وعيسى ...وغيرهم من رسل الله وأنبيائه عليهم السلام، فقد نالوا ألوان البلاء، و واجهوا صنوف الشدائد، ومع ذلك لم يزهدوا في التجمل بالتفاؤل و التحلي بالأمل، لأنهم يأملون أن ينتشل الله بهم الناس من براثن الكفر، وقيعان الشرك.
وأما نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، فقد حاز السبق في التفاؤل والثقة في الله، إذ لم يألو جهدا في بث الأمل في صحبه الكرام حين يستهدف التشاؤم ثقتهم في موعود الله، و يشرع اليأس في التسلل خفية إلى قلوبهم، فكلماته مصطبغة باستمرار بالتفاؤل، خصوصا في أشد المواقف وأصعبها، منها تلك التي أفضى بها للصديق في الغار، وهو مطارد خائف، " يا أبابكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما "، يا أبابكر " لا تحزن إن الله معنا ". ومنها عبارات التبشير لحظة حفر الخندق حول المدينة، بفتح مدائن كسرى وقيصر والحبشة وسيادة المسلمين عليها.
فمن أين استلهم رسول الله مشاعر الأمل والتفاؤل ومعاني الثقة في الله؟
مصدر إستلهامه هو القرآن الكريم، فلم يكل من تلاوة الآيات المنفرة من التشاؤم واليأس، و المرغبة في الإستبشار والتفاؤل والأمل، في جميع أحيانه وأحواله عليه الصلاة والسلام، ( {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} )، يوسف/87. ( { قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون} )، الحجر/56. ( {قل يا عبادي الذين أسرفوا علي أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعاً، إنه هو الغفور الرحيم} )، الزمر/53 ،( {ولئن أَذقنا الْأِنسان منا رحمة ثم نَزعناها منه إِنه ليؤوس كَفور} )، هود/9. ( { وإِذا أَنْعمنا على الْإِنسان أَعْرض وَنأَى بجانبه وَإِذا مَسه الشر كان يؤُوسا } )، الإسراء/83. ( {فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا } )، الشرح6/5.
التفاؤل والنهوض الحضاري للأمة.
أول ما بدأ التراجع الحضاري في الأمة بدأ نفسيا، قبل أن يكون ماديا، وجدانيا قبل أن يكون عسكريا. فالمسلمون في الشرق زمن التتار، وفي الغرب إبان حكم ملوك الطوائف للأندلس، سقطوا نفسيا قبل أن تسقط أراضيهم، وانهزموا شعوريا قبل دخول الغزاة عليهم بسنين عديدة. فقلوبهم قد استحكمها رغد العيش، وتملكها الإستغراق في الترف والرفه.
و النتيجة: نفوس محبطة، وقلوب متشائمة، ومشاعر آيسة من مغالبة العدو في أول مواجهة...، لدرجة أن الرجل البغدادي يضع السلاح بين يدي التتري للإجهاز عليه !!!! ، قد كبلته سلاسل الإحباط و طوقه اليأس والقنوط...
لسان حاله ماعبر عنه الشاعر المُحبَط حين قال:
دَعيني أَموُتُ فَصَخرُ رجائي تَحَطَّمهُ مَوجةُ الباطِلِ
دَعيني أَموُتُ فإنّي فَتیً تَحمّلتُ فَوقَ قُوَی الحامِلِ
دَعيني أَموُتُ فَحَظّي التَّعيسُ هَوَی معَ کَوکَبِه الآمِلِ.
- فالذي انطق هذا الشاعر بهذه الأبيات، هو سوء ظنه بالله، حتى أفضى به إلى ما أفضى من الإحباط والإكتئاب.... قال ابن القيم -رحمه الله-:
" فمن ظن بأنه لا ينصر رسوله، ولا يتم أمره، ولا يؤيده ويؤيد حزبه، ويعليهم ويظفرهم بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالًا لا يقوم بعده أبدًا، فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته، فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به، فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه ولا عرف صفاته وكماله "، 205/3
- ثانيا نظرته إلى الأحداث كانت بصورة سلبية ، وهو عامل ثان يعزز نفسية القلق في الفرد، ومشاعر اليأس والقنوط في الأمة
- وأما الأمر الثالث فهو الرضوخ لهيمنة المشاكل والعثرات على النفوس، مما يولد المزيد من الحزن والتشاؤم....
فهذه العوامل الثلاثة إذا ألمت بالمرء أردته قتيلا، وإذا استحكمت بأمة ذهب ريحها، وصارت أثرا بعد عين.
لغة التفاؤل في الخطاب الدعوي.
منذ فجر الإسلام، يظل أحوج الناس لخلق التفاؤل هم الدعاة إلى الله، و أولاهم إشاعة له هم حملة الرسالة المحمدية.
إنهم موقنون بإله رحيم قدير، جل جلاله، يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، ويمنح الجزيل، ويجعل بعد العسر يسرا، وبعد الهم فرجا، وبعد الضيق مخرجا....
وإشاعتهم لمعاني الثبات والأمل، هو من مقتضيات العقيدة الصحيحة اولا، وثانيا: لايعني أنهم في المقابل يغردون بعيدا عن واقع الناس، أو أن شراع سفينتهم منصوب عكس الرياح. أو أنه نوع من خطاب التخدير إلى الأمة، بل لأنهم مهمومون بما آلت إليه أحوال الناس ونفوسهم من اضطراب وشك في العدالة الالهية.
والتفاؤل لا يناقض الإهتمام بالمصاعب والشدائد وحمل هم الأحداث والمنغصات، يقول عمر ـ رضي الله عنه ـ : " فوالله ما أستطيع أن أصلي، وما أستطيع أن أرقد، وإني لأفتح السورة فما أدري في أولها أنا أو في آخرها … من همي بالناس منذ جاءني هذا الخبر "، (يريد أمر ولاية المسلمين).
فثقل الولاية، وخطورة الإمارة، جعلته مهموم النفس مشغول البال، ومع ذلك كان أمله كبيرا، وتفاؤله بنصر الله عظيما، و ثقته في عونه سبحانه أعظم.
فجزاه الله بما كان يأمل ويتفائل، بلاد الروم وأرض فارس...، فرضي الله عنه وأرضاه.
- التصنيف: