عند الله أنت غال

منذ 2019-09-16

عن أبي هريرة قال :" « كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب و لا يدري أيهم هو حتى يسأل» " رواه الشيخ الألباني

 

إن محمدا صلى الله عليه و سلم هو قدوتنا في عظمته الاجتماعية و أسوتنا في أناقته الأخلاقية.

تأملت مداعبته و ملاطفته لأصحابه و نظرت إلى عميق إحساسه بظروفهم، فازددت إعجابا به وحبا له بأبي هو و أمي٠

عن أنس رضي الله عنه أن رجلا من أهل البادية يدعى زاهرا، و كان يُهدي إلى النبي الهدية فيجهزه رسول الله إذا أراد أن يخرج، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم:

" « إن زاهرا باديتُنا و نحن حاضروه» " ، « و كان النبي يحبه و كان دميما٠ فأتى النبي صلى الله عليه و سلم يوما و هو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه و هو لا يبصره، فقال : أرسلني من هذا؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه و سلم، فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي حين عرفه، و جعل النبي يقول : " من يشتري هذا العبد؟" فقال يا رسول الله إذا تجدني كاسدا٠ فقال النبي صلى الله عليه و سلم: " لكنك عند الله لست بكاسد" أو قال: " عند الله أنت غال» "٠

ضرب صلى الله عليه و سلم أسمى الأمثلة لحسن المعشر والتواضع و خفض الجناح لصحابته، يمازحهم و يجلس معهم كواحد منهم، عن أبي هريرة قال :" « كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب و لا يدري أيهم هو حتى يسأل» " رواه الشيخ الألباني رحمه الله٠

كان ودودا لطيفا شديد الإحساس بهمومهم ، كثير الاهتمام بدقائق أحوالهم٠

و هذا جليبيب رضي الله عنه رجل من صحابته الكرام، كان في وجهه دمامة، و كان فقيرا و يكثر الجلوس عند النبي صلى الله عليه و سلم، فقال له النبي ذات يوم فيما يرويه أنس رضي الله عنه : «" يا جليبيب ألا تتزوج يا جليبيب ؟ فقال : يا رسول الله و من يزوجني يا رسول الله؟ فقال : أنا أزوجك يا جليبيب فالتفت جليبيب إلى الرسول فقال : إذا تجدني كاسدا يا رسول الله٠ فقال له الرسول صلى الله عليه و سلم:" غير أنك عند الله غير كاسد٠" فزوجه رسول الله فتاة من الأنصار٠ و لم تمض أيام على زواجه حتى خرج مع رسول الله في غزوة استشهد فيها رضي الله عنه٠ فلما انتهى القتال، اجتمع الناس و بدأوا يتفقدون بعضهم بعضا، فسألهم النبي و قال : " هل تفقدون من أحد؟ قالوا نعم يا رسول الله نفقد فلانا و فلان، فقال صلى الله عليه و سلم:" و لكنني أفقد جليبيبا٠ فقوموا نلتمس خبره "، ثم قاموا و بحثوا عنه في ساحة القتال٠٠٠ فوجدوه شهيدا بجانبه سبعة من قتلى المشركين، فقال النبي صلى الله عليه و سلم:" قتلتهم ثم قتلوك أنت مني و أنا منك، أنت مني و أنا منك٠" فتربع جالسا بجانب الجسد، ثم حمله على ساعديه حتى حفروا قبره، قال أنس رضي الله عنه:" فمكثنا و الله نحفر القبر و جليبيب ماله فراش غير ساعد النبي صلى الله عليه و سلم» ٠"

هاتان لقطتان مؤثرتان لرسول الله صلى الله عليه و سلم مع صحابيين جليلين زاهر و جليبيب رضي الله عنهما٠

كلاهما فقير، لا مال لهما٠٠٠

لا يملكان شيئا من متاع الدنيا٠٠٠

و لا جمال يزينهما٠٠٠

لكن كليهما في نظر الرسول صلى الله عليه و سلم " عند الله غال"٠

" عند الله أنت غال " تبرز أن قيمة الإنسان ليس بما يملك من حطام زائل، أو يكنز من متاع فانٍ، بل قيمته فيما يحمل من قِيَم و مبادئ، و ما انطوت عليه سريرته من صدق و حب لهذا الدين

" عند الله أنت غال" تصرف انتباهنا إلى أن أهم ما يجب الحرص عليه في هذه الدنيا هو مقامنا عند الله لا عند الناس٠ فرضا الله يسير بلوغه أما رضا الناس فغاية لا تدرك٠

" عند الله أنت غال" تصحح معاييرنا التي نزِنُ بها الناس، هذه الأخيرة قد يصيبها التطفيف، بل قد تصيبها عدوى مما يروج في المجتمع من مقاييس زائفة، فنحتاج أن نقوِّمَ الناس بميزان الشرع لا ميزان الهوى٠

" عند الله أنت غال " توضح أن أساس نجاح أية دعوة إصلاحية هو الاهتمام بالإنسان قبل العمران٠

ما كانت دعوات الأنبياء - و هم من هم المؤيدون من الله - لتنتصر و تنتشر دون تثمين للرأسمال الأهم في هذا الكون : الإنسان٠

ما كانت جهودهم لتثمر ، و لا لمسيرتهم أن تستمر لولا إشراكهم للشباب في همومهم الدعوية ٠

هذا ما كشفت عنه سيرة رسول الله مع الشباب، و ما جلَّته بوضوح قصتا الصحابيين زاهر و جليبيب رضي الله عنهما

إذا كان سيد المربين صلى الله عليه و سلم يمزح مع زاهر رضي الله عنه ، يضُمُّه و يُعَبِّر له عن حبه و حب الله له، فما الذي نتوقع من زاهر عندما يستشعر هذا الكم من الحب والتقدير؟

أكيد سيبادل رسول الله حبا بحب، و سيزيد تعلقه بهذا الدين الذي يعلي من شأنه و يحفظ كرامته٠

و كيف سيحس جليبيب رضي الله عنه الفقير الذي لا أسرة له و لا مسكن، و رسول الله صلى الله عليه و سلم يعرض عليه الزواج؟

و يعده أنه سيزوجه إحدى فتيات الأنصار٠

و يفي بوعده صلى الله عليه و سلم، و يجعل له بيتا يؤويه، و زوجا يسكن إليها، بل و يدعو رسول الله لزوجته الصالحة التي استجابت لطلب رسول الله و استيقنت أنه لن يضيعها، قال لها داعيا:" اللهم صُبَّ عليها الخير صبّا صبّا، و لا تجعل عيشها كدّا كدّا"، و قد كان فعلا٠

لقد بادل جليبيب رسول الله صلى الله عليه و سلم عطفا بعطف، لقد استجاب لدعوى النفير و هو عريس لا زال في أيام عرسه الأولى، و استشهد في غزوته تلك ٠

" عند الله أنت غال" ترسم لنا المنهج الأمثل في التعامل مع الشباب

إنه منهج الاحتضان العاطفي و النأي عن محاكمتهم انطلاقا من المظهر

إنه تربية بالحب ، و تزكية بالاحتضان

إنه منهج فريد لتجسير العلاقة بيننا و بينهم، عسى أن تردم الهوة و تبعث الثقة بيننا من جديد٠

 

خديجة رابعة

  • 27
  • 0
  • 40,705

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً