فوائد من رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه (1-2)
أين عقل من آثر لذة عاجلة منغصة منكدة – إنما هي كأضعاث أحلام, أو كطيف تمتع به زائره في المنام – على لذة هي من أعظم اللذات, وفرحة ومسرة هي من أعظم المسرات, دائمة لا تزول ولا تفنى ولا تنقطع
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين....أما بعد: فمن مصنفات العلامة ابن القيم رحمه الله الرسالة المسماة بـ " رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه " وهي رسالة أرسلها إلى أخ له يدعى " علاء الدين " حثّ فيها على تعليم الناس الخير حيث حلّ, والنصح لكل من اجتمع به, وأن ذلك من بركة الرجل, وأن من خلا من ذلك فقد خلا من البركة, ومُحقت بركة لقائه والاجتماع به.
وقد زخرت الرسالة بنفائس من الفوائد المتنوعة, وقد انتقيتُ منها ما يلي:
الفرح والسرور, وطيب العيش, والنعيم, إنما هو في معرفة الله وتوحيده:
اللذة التامة والفرح والسرور, وطيب العيش, والنعيم, إنما هو في معرفة الله, وتوحيده والأُنس به, والشوق إلى لقائه, واجتماع القلب والهمِّ عليه, فإن أنكد العيش عيش من قلبه مُشتت, وهمه مفرق....
فاحرص أن يكون همك واحداً, وأن يكون هو الله وحده, فهذا غاية سعادة العبد, وصاحب هذه الحال في جنة معجلة قبل جنة الآخرة وفي نعيم عاجل.
الحذر من مخالطة من تُضيع مخالطته الوقت, وتفسد القلب:
كل آفة تدخل على العبد فسببها ضياع الوقت, وفساد القلب, وتعود بضياع حظه من الله, ونقصان درجته ومنزلته عنده, ولهذا وصى بعض الشيوخ فقال: احذروا مخالطة من تُضيع مخالطته الوقت, وتفسد القلب, فإنه متى ضاع الوقت وفسد القلب انفرطت على العبد أموره كلها, وكان ممن قال الله فيه: {ولا تُطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمرُهُ فرطاً} [الكهف:28]
العبد مفتقر إلى الهداية في كل لحظةٍ ونفسٍ:
العبد مفتقر إلى الهداية في كل لحظة ونفس, في جميع ما يأتيه ويذره, فإنه بين أمور لا ينفك عنها:
أحدها أمور قد أتاها على غير وجه الهداية جهلاً, فهو محتاج إلى أن يطلب الهداية إلى الحق فيها.
أو يكون عارفاً بالهداية فيها, فأتاها على غير وجهها عمداً, فهو محتاج إلى التوبة منها.
أو أمور لم يعرف وجه الهداية فيها علماً ولا عملاً, ففاتته الهداية إلى علمها ومعرفتها, وإلى قصدها وإرادتها وعملها.
أو أمور قد هُدي إليها من وجه دون وجه, فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها.
أو أمور قد هُدي إلى أصلها دون تفاصيلها, فهو محتاج إلى هداية التفصيل.
وكذلك أيضاً ثمَّ أمور هو محتاج إلى أن يحصل له فيها من الهداية في المستقبل مثل ما حصل له في الماضي.
وأمور هو خال عن اعتقاد حق أو باطل فيها, فهو محتاج إلى هداية الصواب فيها.
وأمور يعتقد أنه فيها على هُدى وهو على ضلالة ولا يشعر, فهو محتاج إلى انتقاله عن ذلك الاعتقاد بهداية من الله.
وأمور قد فعلها على وجه الهداية, وهو محتاج إلى أن يهدي غيره إليها ويرشده وينصحه,...فهدايته للغير وتعليمه ونصحه يفتح له باب الهداية, فإن الجزاء من جنس العمل, فكلما هدى غيره وعلمه هداه الله وعلمه فيصير هادياً مهدياً.
مقايسة العاقل بين اللذة المنغصة المنكدة وبين اللذة التي لا تزول ولا تنقطع:
أين عقل من آثر لذة عاجلة منغصة منكدة – إنما هي كأضعاث أحلام, أو كطيف تمتع به زائره في المنام – على لذة هي من أعظم اللذات, وفرحة ومسرة هي من أعظم المسرات, دائمة لا تزول ولا تفنى ولا تنقطع, فباعها بهذه اللذة الفانية المضمحلة التي حُشيت بالآلام, وإنما حصلت بالآلام, وعاقبتها الآلام ؟ فلو قايس العاقل بين لذتها وألمها, ومضرتها ومنفعتها, لا ستحيا من نفسه وعقله, كيف يسعى في طلبها ! ويُضيع زمانه في اشتغاله بها! فضلاً عن إيثارها على ( « ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر » )
وقد اشترى سبحانه من المؤمنين أنفسهم وجعل ثمنها جنته, وأجرى هذا العقد على يد رسوله وخليله وخيرته من خلقه. فسلعة ربُّ السموات الأرض مشتريها, والتمتع بالنظر إلى وجهه الكريم وسماع كلامه منه في دار ثمنها, ومن جرى على يده العقد رسوله, كيف يليق بالعاقل أن يضيعها ويهملها ويبيعها بثمن بخس, في دار زائلة مضمحلة فانية ! وهل هذا إلا من أعظم الغبن ؟ وإنما يظهر له هذا الغبن الفاحش يوم التغابن, إذا ثقلت موازين المتقين وخفت موازين المبطلين.
أكثر الخلق ممن غفلت قلوبهم عن ذكر الله:
ومن تأمل حال هذا الخلق, وجدهم كلهم – إلا أقل القليل – ممن غفلت قلوبهم عن ذكر الله تعالى, واتبعوا أهواءهم, وصارت أمورهم ومصالحهم { فرطاً} أي: فرَّطوا فيما ينفعهم ويعود بصلاحهم, واشتغلوا بما لا ينفعهم, بل يعود بضررهم عاجلاً وآجلاً.
- التصنيف: