فوائد من كتاب التبيان في أيمان القرآن (2-3)

منذ 2019-10-15

وليوازن بين لذة الإنابة والإقبال على الله تعالى, والتنعم بحبه, وذكره, وطاعته, ولذة الإقبال على الرذائل, والأنتان, والقبائح.

حكمة الشريعة في تحريم الأغذية الخبيثة:

جرت حكمته في شرعه وأمره, حيث حرم الأغذية الخبيثة على عباده, لأنهم إذا اغتذوا بها صارت جزءاً منهم, فصارت أجزاؤهم مشابهة لأغذيتهم, إذ الغاذي شبيه بالمغتذي, بل يستحيل إلى جوهره.

الاغتذاء بالدم ولحوم السباع يُورث المغتذي بها قوة شيطانية سبُعية عادية على الناس.....فمن محاسن الشريعة تحريم هذه الأغذية وأشباهها, إلا إذا عارضها مصلحة أرجح منها كحال الضرورة.

ولهذا أكلت النصارى لحوم الخنازير, فأورثها نوعاً من الغلظة والقسوة, وكذلك من أكل لحوم السباع والكلاب صار فيهم قوةً منها.

ولما كانت القوة الشيطانية عارضة في الإبل أمر بكسرها بالوضوء لمن أكل منها.

ولما كانت الطبيعة الحمارية لازمةً للحمار حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية.

ولما كان الدم مَركَبَ الشيطان ومجراه حرمه الله تعالى تحريماً لازماً.

الغذاء الإيماني:

ولما كان الكافر ليس في قلبه شيء من الإيمان والخير يتغذي به, انصرفت قواه ونهمته كلُّها إلى الغذاء الحيواني البهيمي...أما المؤمن فإنه إنما يأكل العلقة ليتقوي بها على ما أمر به, فهمتُه....فإذا أخذ ما يُغذيه ويقيم صُلبه استغنى قلبه ونفسه وروحه بالغذاء الإيماني عن الاستكثار من الغذاء الحيواني...فإذا قويت موادُّ الإيمان, ومعرفة الله وأسمائه وصفاته, ومحبته, ورجائه, والشوق إلى لقائه في القلب, استغنى بها العبد عن كثير من الغذاء, ووجد لها قوة تزيد على قوة الغذاء الحيواني...وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته : ( « إنِّي أظلُّ يطعمني ربي ويسقيني» ) وصدق الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه, فإن المقصود من الطعام والشراب التغذية المُمسكة, فإذا حصل له أعلى الغذاءين وأشرفهما وأنفعهما فكيف لا يغينه ذلك عن الغذاء المشترك...وإذا كنَّا نشاهد أن الغذاء الحيواني يغلب على الغذاء القلبي الروحي حتى يصير الحكم له, ويضمحلُّ غذاء القلب والروح بالكُلِّية, فكيف لا يضمحل غذاء البدن عن استيلاء غذاء القلب والروح ويصير الحكم له ؟

العين مرآة للقلب:

العينان...مرآتان للقلب, يظهر فيهما ما هو مُودع فيه من الحبِّ والبغضِ, والخيرِ والشرِّ, والبلادة والفطنة, والزيغ والاستقامة.

فيُستدل بأحوال العين على أحوال القلب, وهو أحد أنواع الفراسة الثلاثة, وهي: فراسة العين, وفراسة الأُذُن, وفراسة القلب.

فالعين مرآة للقلب...ولذلك يستدل بأحوال العين على أحوال القلب من رضاه, وغضبه, وحُبِّه, وبُغضِهِ, ونُفرتِه, وقثربِه.  

صرف القوى الموجودة في الإنسان فيما ينفعه في دينه ودنياه:

ما ابتلي بصفة من الصفات إلا وجُعل له مصرف ومحل يُنفذها فيه

فجعل لقوة الحسد فيه مصرف المنافسة في فعل الخير, والغبطة عليه, والمسابقة إليه.

ولقوة الكِبر التكبر على أعداء تعالى وإهانتهم.

وجعل لقوة الحرص مصرفاً, وهو الحرص على ما ينفع, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( « احرص على ما ينفعك » )

ولقوة الشهوة مصرفاً, وهو التزوج بأربع, والتسري بما شاء.

ولقوة حبِّ المال مصرفاً, وهو إنفاقه في مرضاته, والتزود منه لمعاده.

ولمحبة الجاه مصرفاً, وهو استعماله في تنفيذ أوامره, وإقامة دينه, ونصر المظلوم, وإغاثة الملهوف, وإعانة الضعيف, وقمع أعداء الله, فمحبة الرياسة والجاه على هذا الوجه عبادة.

وجعل لقوة اللعب واللهو مصرفاً, وهو لهوه مع امرأته, أو بقوسه وسهمه, أو تأديبه فرسه.

وجعل لقوة التحيل والمكر فيه مصرفاً, وهو التحيل على عدوه وعدو الله تعالى بأنواع الحيل حتى يراغمه ويرده خاسئاً.

وهكذا جميع القوى التي رُكبت فيه, فإنها لا تزول, ولا يطلب إعدامها, وقد ركبها الله فيه لمصالح اقتضتها حكمته, فلا يُطلب تعطيلها, وإنما تُصرفُ في مجاريها من محل إلى محل, ومن موضع إلى موضع, ومن تأمل هذا الموضع وتفقه فيه, عَلِمَ شدَّة الحاجة إليه, وعظم الانتفاع به.

حال القلب مع المَلَكِ والشيطان:

إذا تأملت حال القلب مع المَلَكِ والشيطان رأيت أعجب العجائب, فهذا يُلمُّ به مرةً, وهذا يُلمُّ به مرةً, فإذا ألمَّ به المَلَكُ حدث من لمَّته الانفساح, والانشراح, والنور, والرحمة, والإخلاص, والإنابة, ومحبة الله, وإيثاره على ما سواه, وقِصر الأمل, والتجافي عن دار البلاء والامتحان والغرور, فلو دامت له تلك الحالة لكان في أهنأ عيشٍ وألذِّه وأطيبه, ولكن تأتيه لمِّة الشيطان فتحدث له من الضيق, والظلمة, والهمِّ, والغمِّ, والخوف, والسخط على المقدور, والشك في الحق, والحرص على الدنيا وعاجلها, والغفلة عن الله ما هو من أعظم عذاب القلب.

ثمَّ للناس في هذه المحنة مراتب لا يحصيها إلا الله عز وجل:

فمنهم من تكون لمة الملك أغلب عليه من لمة الشيطان وأقوى, فإذا ألم به الشيطان وجد من الألم, والضيق, والحصر, وسوء الحال بحسب ما عنده من حياة القلب, فيبادرُ إلى محو تلك اللمِّة, ولا يدعها تستحكم فيصعب تداركها.

ومنهم من تكون لمة الشيطان أغلب عليه من لمة الملك وأقوى,...فيموت القلب فلا يحسُّ بما ناله الشيطان, مع أنه غاية العذاب, والألم, والضيق, والحصر, ولكن سُكر الشهوة والغفلة حجب عنه الإحساس بذلك المؤلم.

جماع الطرق التي يُصاب منها القلب وجنوده:

جماع الطرق والأبواب التي يُصاب منها القلب وجنوده أربعة, فمن ضبطها, وعدّلها, وأصلح مجاريها, وصرفها في محالها اللائقة بها ضُبطت وحُفظت جوارحه, ولم يشمت به عدوه, وهي: الحرص, والشهوة, والغضب, والحسد.

فهذه الأربعة هي أصول مجامع طرق الشر والخير, وكما هي طرق إلى العذاب السرمدي, فهي طريق إلى النعيم الأبدي

دفع مبادئ الداء أسهل بكثير من طلب الدواء:

أول ما يطرق القلب: الخطرة, فإن دفعها استراح مما بعدها, وإن لم يدفعها قويت فصارت وسوسة, فكان دفعها أصعب, فإن بادر ودفعها, وإلا قويت, فصارت: شهوة, فإن عالجها وإلا صارت إرادة, فإن عالجها, وإلا صارت: عزيمة.

ومتى وصلت إلى هذه الحال لم يمكنه دفعها, واقترن بها الفعل ولا بد, وما يقدر عليه من مقدماته, وحينئذ ينتقل العلاج من مقدماته إلى أقوى الأدوية, وهو الاستفرغ التام بالتوبة النصوح.

ولا ريب أن دفع مبادئ هذا الداء أولاً أسهل بكثير من طلب الدواء, وإذا وازن العبد بين دفع هذا الداء من أوله, وبين استفرغ بعد حصوله, وساعد القدر, وأعان التوفيق, رأى أن الدفع أولى به.

وإذا تألمت النفس بفارقة المحبوب فليوازن بين فوات هذا المحبوب الأخس المنقطع النكد, المشوب بالآلام والهموم, وبين فوات المحبوب الأعظم الدائم الذي لا نسبة لهذا المحبوب إليه ألبتة, لا في قدره, ولا في دوامه, وبقائه.

وليوازن بين لذة الإنابة والإقبال على الله تعالى, والتنعم بحبه, وذكره, وطاعته, ولذة الإقبال على الرذائل, والأنتان, والقبائح.

وليوازن بين لذة الذنب, ولذة العفة, ولذة الذنب, ولذة القوة وقهر الهوى, وبين لذة الذنب ولذة إرغام عدوه ورده خاسئاً ذليلاً, وبين لذة الذنب, ولذة الطاعة التي تحول بينه وبينه, وبين مرارة فوته, ومرارة فوت ثناء الله تعالى وملائكته عليه, وفوت حسن جزائه, وجزيل ثوابه, وبين فرحة إدراكه, وفرحة تركه لله تعالى عاجلاً, وفرحة ما يثيبه عليه في دنياه وآخرته.

  • 0
  • 1
  • 2,614

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً