فوائد من الرسالة التبوكية للعلامة ابن القيم (1-2)
وقد زخرت الرسالة بنفائس من الفوائد المتنوعة, وقد انتقيتُ ما يسّر الله الكريم من هذه الفوائد, أسأل الله ن ينفع بها, ويبارك فيها.
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين....أما بعد:
فمن مصنفات العلامة ابن القيم رحمه الله: " الرسالة التبوكية " سُميت بذلك لأنه كتبها بتبوك سنة 733 هجرية, وهي رسالة أرسلها إلى أصحابه في بلاد الشام, فسّر فيها قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب} [المائدة:2] ذكر فيها أن أعظم التعاون على البر والتقوى التعاون على سفر الهجرة إلى الله ورسوله.
وقد زخرت الرسالة بنفائس من الفوائد المتنوعة, وقد انتقيتُ ما يسّر الله الكريم من هذه الفوائد, أسأل الله ن ينفع بها, ويبارك فيها.
الهجرة إلى الله ورسوله:
الهجرة إلى الله ورسوله, فرض عين على كل أحدٍ في كلِّ وقت, ولا انفكاك لأحدٍ من وجوبها, وهي مطلوب الله ومراده من العباد, إذ الهجرة هجرتان:
هجرة بالجسم من بلد إلى بلد, وهذه أحكامها معلومة, وليس المراد الكلام فيها.
والهجرة الثانية هجرة بالقلب إلى الله ورسوله, وهذه هي المقصودة هنا. وهذه هي الهجرة الحقيقية, وهي الأصل, وهجرة الجسد تابعة لها, وهي هجرة تتضمن ( من ) و ( إلى ) فيهاجرُ بقلبه من محبة غير الله إلى محبته.
ومن عبودية غيره إلى عبوديته.
ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه.
ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذُّلِّ له والاستكانة له إلى دعاء ربه وسؤاله والخضوع له والذلِّ والاستكانة له.
وهذا هو بعينه معنى الفرار إليه, قال تعالى:{ففروا إلى الله} [الذاريات:50] فالتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه.
وهذه الهجرة تقوى وتضعف بحسب قوة داعي المحبة وضعفه, فكلما كان داعي المحبة في قلب العبد أقوى كانت هذه الهجرة أقوى وأتمّ وأكمل, وإذا ضعُف الداعي ضعُفت الهجرة, حتى إنه لا يكاد يشعر بها علماً, ولا يتحرك بها إرادة.
وعن هاتين الهجرتين يُسأل كلُّ عبد يوم القيامة وفي البرزخ, ويُطالب بهما في الدنيا, فهو مطالب بهما في الدور الثلاثة: دار الدنيا, ودار البرزخ. ودار القرار.
وجوب الانقياد والتسليم لحكم الرسول في جميع مسائل النزاع:
قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويُسلموا تسليماً }[النساء:65] فأقسم سبحانه بأجلِّ مُقسم به – وهو نفسه عز وجل – على أنهم لا يثبتُ لهم الإيمانُ, ولا يكونون من أهله, حتى يُحكموا رسوله في جميع موارد النزاع, وهو كل ما شجر بينهم من مسائل النزاع في جميع أبواب الدين, فإن لفظة ( ما) من صيغ العموم, فإنها موصلة تقتضي نفي الإيمان إذا لم يوجد تحكيمه في جميع ما شجر بينهم.
ولم يقتصر على هذا حتى ضمَّ إليه انشراح الصدر بحكمه, حيث لا يجدوا في أنفسهم حرجاً – وهو الضِّيقُ والحرج – من حُكمه, بل يتلقوا حُكمه بالانشراح, ويقابلوه بالقبول, لا أنهم يأخذونه على إغماض, ويشربونه على أقذاءٍ, فإن هذا مناف للإيمان, بل لا بدَّ أن يكون أخذه بقبول ورضى وانشراح صدر.
ومتى أراد العبدُ أن يعلَمَ منزلته من هذا فلينظر في حاله, وليُطالع قلبه عند ورود حُكمه على خلاف هواه وغرضه, أو خلاف ما قلَّد أسلافه من المسائل الكبار وما دونها, { بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره } [القيامة:14-15]
ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضمََّ إليه قوله: {ويُسلموا تسليماً} فذكر الفعل مُؤكداً له بمصدره القائم مقام ذكره مرتين, وهو الخضوع له, والانقياد لما حكم به طوعاً ورضى, وتسليماً لا قهر ومصابرةً, كما يُسلمُ المقهور لمن قهره كرهاً, بل تسليم عبد محب مطيع لمولاه وسيده الذي هو أحبُّ شيء إليه, يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليمه إليه, ويعلم أنه أولى به من نفسه, وأبرُّ به منها, وأرحمُ به منها, وأنصحُ له منها, وأعلم بمصالحه منها, وأقدرُ على تحصيلها.
أولى الأمر هم العلماء والأمراء:
قال تعالى: { {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} } [النساء:59] فأمر سبحانه بطاعته وطاعة رسوله...
وأما أولو الأمر فلا تجب طاعة أحدهم إلا إذا اندرجت تحت طاعة الرسول, لا طاعة مفردة مستقلة, كما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( « على المرء السمع والطاعة فيما أحب كره, ما لم يؤمر بمعصية الله, فإن أُمِرَ بمعصية الله, فلا سمع ولا طاعة » )
وقد اختلفت الرواية عن الإمام أحمد في أولي الأمر, فعنه فيه روايتان:
إحداهما: أنهم العلماء.
والثانية: أنهم الأمراء.
والقولان ثابتان عن الصحابة في تفسير الآية, والصحيح أنها متناولة للصنفين جميعاً, فإن العلماء والأمراء هم ولاة الأمر الذي بعث الله به رسوله.
فالعلماء ولاتُه حفظاً وبياناً, وبلاغاً, وذباً عنه, ورداً على من ألحد فيه وزاغ عنه, وقد وكلهم الله بذلك, فقال تعالى: {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكفرين }[ [الأنعام:809] فيا لها من وكالة أوجبت طاعتهم والانتهاء إلى أمرهم, وكون الناس تبعاً لهم.
والأمراءُ وُلاتهُ قياماً, ورعايةً, وجهاداً, وإلزاماً للناس به, وأخذهم على يد من خرج عنه.
وهذان الصنفان هم الناس, وسائر النوع الإنساني تبع لهم ورعية.
طاعة الله ورسوله, وتحكيم الله ورسوله, هو سبب السعادة عاجلاً وآجلاً:
ثم قال تعالى: {ذلك خير وأحسنُ تأويلاً} أي هذا الذي أمرتكم به من طاعتي وطاعة رسولي وأولي الأمر, وردِّ ما تنازعتم فيه إليَّ وإلى رسولي, خير لكم في معاشكم ومعادكم, وهو سعادتكم في الدارين, فهو خير لكم وأحسن عاقبة.
فدلَّ هذا على أن طاعة الله ورسوله, وتحكيم الله ورسوله, هو سبب السعادة عاجلاً وآجلاً.
الشرور العامة, والشَّر والألم والغمِّ الذي يُصيبُ العبد فبسبب مخالفة الرسول:
ومن تدبر العالم والشرور الواقعة فيه علم أن كل شرٍّ في العالم فسببه مخالفة الرسول والخروج عن طاعته, وكل خير في العالم فإنما هو بسبب طاعة الرسول, وكذلك شرور الآخرة وآلامها وعذابها إنما موجباتُ مخالفة الرسول وما يترتب عليه, فلو أن الناس أطاعوا الرسول حق طاعته لم يكن في الأرض شر قط.
وهذا كما أنه معلوم في الشرور العامة والمصائب الواقعة في الأرض, فكذلك هو في الشَّر والألم والغمِّ الذي يُصيبُ العبد في نفسه, فإنما هو بسبب مخالفة الرسول, وإلا فطاعته هي الحصن الذي من دخله فهو من الآمنين, والكهف الذي من لجأ إليه فهو من الناجين.
فلا نجاة للعبد ولا سعادة إلا باجتهاده في معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علماً, والقيام به عملاً.
وكمال هذه السعادة بأمرين آخرين:
أحدهما: دعوةُ الخلق إليه.
والثاني: صبره وجهاده على تلك الدعوة.
- التصنيف: