الموقف من الفلسفة
مما يؤسف له أن ترى من يجعل معيار التمكن في التخصص العقدي هو التمكن من الفلسفة.
مما يؤسف له أن ترى من يجعل معيار التمكن في التخصص العقدي هو التمكن من الفلسفة. وأصبح البعض يتكلف إقحام بعض المصطلحات الفلسفية في حديثه ليدل على تمكنه، ويستعرض بها، وكأنها موضة التخصص في هذا الوقت، فتجده مثلاً يعبر عن الغيبيات ب"الميتافيزيقا" وعن التأويل الباطني ب"الغنوصية"...الخ.
ولا بأس أن يعبر بهذين اللفظين وغيرهما مما شاكلهما في مواضعها، وعند الحاجة إليهما، وفي سياق التعريف بهما، فهما مصطلحان معروفان، بغض النظر عن صحة المصطلح ودقته، فالاعتراض إنما هو على التكلف في توظيف هذه المصطلحات أثناء الحديث، وإن لم تكن ثمة حاجة تدعو إلى ذلك.
وإن تعجب فاعجب من أقوام يتعمدون إيراد هذه المصطلحات عند من لا يحسنها! فأي حاجة إليها مع هؤلاء، أما إن سُئل عن معناها، أو قيل له: لا نفهمك فانزل إلينا بلغتك وخطابك، فلا تسل عن نشوته وتباهيه وغروره... والمؤسف كثيراً أن تجد بعض هؤلاء أشبه بالعوام في علم العقيدة المأثورِ عن الكتاب والسنة وسلف هذه الأمة!، فلا تجده مثلاً يعرف معاني بعض أسماء الله الحسنى، وضوابط الصفات وأحكامها، ولا يحسن كثيراً من مسائل الألوهية اليسيرة، فضلاً عن مسائل الإيمان والكفر، والقدر، والولاء والبراء... الخ ،واحتفاءه بجمل يتحفظها في الفلسفة أعظم من احتفاءه بنصوص الكتاب والسنة، والتي ربما هوَّن من درسها أو حفظها!.
واستعراضه بذكر أقوال أرسطو وأفلاطون وابن سينا والفرابي وابن رشد وغيرهم أعظم في نفسه من إيراد أقوال أعلام السلف كالإمام مالك والشافعي وأحمد والدارمي وابن خزيمة ونحوهم والمؤسف أكثر وأكثر حينما لا يشعر هذا المتفلسف بنقصه وقصور علمه في التأصيل العقدي، وكأنه قد تجاوز هذه المرحلة، فهي مرحلة البسطاء والمبتدئين!. وما أشبه لليلة بالبارحة فثمة أناس استعرضوا بالمنطق والفلسفة في أوائل ترجمتها وتباهوا بها وتوغلوا فيها، ثم لم يلبث بعضهم أن لفظها وتبرأ منها في آخر حياته، وبعضهم حاول ولم يستطع، أليس في هؤلاء أعظم عبرة؟.
ولكي تعتبر أكثر: تأمل كتب كثير من المتكلمين الذين تأثروا بالفلسفة فإنك لا تكاد تجد فيها آية أو حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!. والفلسفة في أعظم أحوالها تعد من فروع العلم، أو من وسائل تفهم بعضه، لا يحتاج إليها كل أحد، وليست شرطاً في إمامة العلم، وقد عرفنا علماء كثر في القديم والحديث شرقت أسماؤهم وغربت، وانتفع بهم خلق لا يحصون، ولم يعرفوا الفلسفة بل ينأون عنها، ويحذرون منها.
فإن قيل: هذا ابن تيمية تقحم الفلسفة ودرسها، وأفاد منها في الرد على أربابها، وكان لطرحه ونقاشه قبولاً، لأنه يخاطب القوم بلغتهم ومصطلحاتهم، أليس مسلكه في ذلك صواباً؟ قيل: وهل كان ابن تيمية جاهلاً بالأصل العقدي، أو الدليل النقلي، وهل غلّب الفلسفة عليهما، أو زاحمهما بها، أو تكلف الحديث بها عند العامة والخاصة، فها هي كتبه كثيرة متنوعة في العقائد وغيرها لا تجد في كثير منها أثراً للفلسفة، بل منها ما أكد أنه لا يستعمل فيها إلا ألفاظاً مأثورة كالواسطية مثلا، ناهيك عن كونه -مع إلمامه بالفلسفة- قد ذمها وحذر منها، فهو رحمه الله قد تعلمها لحاجته إليها في الرد على أصحابها والمتأثرين بها.
ولا اعتراض على هذا المسلك، فليس هو موضع النقد في هذه المقالة. وهنا لا بد من الإشادة ببعض الكبار، ممن عرف الفلسفة ودرسها، ومع ذلك يظنه من لا يعرفه جاهلاً بها، لكونه لم يتجاوز بها حدها، ولم يزاحم بها غيرها من العلوم الشرعية، وربما وجدته محذراً منها.
ولا ريب أن الحاجة قائمة إلى وجود متخصصين في الفلسفة وعلومها، لكن مع مراعاة أمرين:
الأول: ضرورة التأصل العقدي -لمن أراد أن يتخصص في ذلك- فهو قدرٌ واجب لكل تخصص دقيق له علاقة بالعقيدة.
والثاني: أن لا يكون ذلك لكل أحد، بل يُكتفى فيه بما يحصل به المقصود.
وأخيراً: وصيتي لكل دارس أو مقبل على التخصص في علم العقيدة أن يتأصل أولاً قبل أن يخوض في الفنون الأخرى، كالأديان والمذاهب والمنطق والفلسفة، فإن الحكم عليها -سلباً أو إيجاباً، تخطئةً أو تصويباً، نقداً أو تقويماً- لا بد أن يكون مبنياً على أصل يرجع إليه، وينطلق منه، وهو العلم بالأصل العقدي المستمد من الوحي الرباني.
فإن لم يكن هذا الأصل موجوداً لم يستطع أن يقف على موضع الخلل، فربما مرت عليه أخطاء كثيرة دون أن يتفطن لها أو يعلم أنها مخالفة... ومما يُعين على ذلك أن يحرص الدارس لعلوم العقيدة على أن تكون سالته في الماجستير في التأصيل العقدي، ثم إذا كان له ميل إلى فرع من فروع علم العقيدة أو فن من فنونها فليكن في مرحلة الدكتوراه. أ.د. سليمان بن محمد الدبيخي.
- التصنيف:
- المصدر: