احتكار الإنسانية
تقدر المفوضية السامية لشئون اللاجئين عدد من يسمونهم (البدون) في العالم بـ(10) ملايين إنسان، وشملت الدول العربية أكثر نسبة للـ(بدون) في العالم؛ فسوريا (160) ألفًا، والعراق (120) ألفًا، والكويت (93) ألفًا، والسعودية (70) ألفًا.
نَشَأت فكرة الدولة القومية في أوروبا في أعقاب معاهدة (وستفاليا) عام (1648م)، بعد انهيار النظام الإقطاعي، وبعد انتهاء الحروب الدينية في القارة الأوروبية والتحرر من السلطان الكَنَسي؛ ومِنْ ثَمَّ انطلقت الفكرة الجديدة في تاريخ العلاقات الدولية -وهي الفكرة المسيطرة على العالم إلى الآن-؛ وتستند على ثلاث ركائز؛ وهي: (السيادة القومية داخل حدودها السياسية – عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى – الولاء القومي).
وعلى الرغم من أن فكرة الدولة القومية وتخطيط الحدود السياسية كانت ناجحة في أوروبا وأنهت أغلب خلافات القارة العجوز؛ فإنها استُخْدِمت بشكل آخر في منطقة الشرق الأوسط وباقي مناطق العالم؛ فقبل سقوط الدولة العثمانية بعدة أعوام؛ قامت (فرنسا، وبريطانيا) في عام (1916م) بتقسيم الدول العربية –الواقعة داخل حدود الدولة العثمانية- إلى مناطق نفوذ تابعة لها، وكل ذلك تم بمفاوضات سرية بين الدبلوماسي الفرنسي (فرانسوا جورج بيكو) والبريطاني (مارك سايكس)، وكانت على صورة تبادل وثائق تفاهم بين وزارات خارجية (فرنسا، وبريطانيا، وروسيا القيصرية آنذاك)، وبقيت تلك الحدود حتى بعد إنهاء الاحتلال الأوروبي لتلك الدول، والدخول في عهد الاحتلال بالإنابة.
أما في إفريقيا؛ فقد قُسمت في مؤتمر لندن عام (1884م) على يد المحتل الأوروبي، وتم توزيعها على الدول ذات النفوذ؛ مثل (ألمانيا، وبلجيكا، والبرتغال، وبريطانيا، وإيطاليا، وفرنسا)، وتم هذا التقسيم دون مراعاة أي بُعد اجتماعي أو سياسي أو ديني.
ويعد شكل الدولة القومية هو آخر ما توصلت إليه البشرية، والتي يُعتقد أنها أسمى النظريات في العلاقات الدولية التي بسببها سيعم السلام للعالم، وبلا شك أنها أضفت كثيرًا من الانتظام والهدوء على العلاقات الدولية، ولكن في هذا المقال سنحاول نقد تلك النظرية من منظور إنساني واجتماعي؛ لما تسببت فيه من ضرر وقطع للأواصر؛ عسى أن يكون هذا المقال حَجَرًا في ماء راكد، ولا سيما أن في أواخر التسعينيات ظهرت آراء وأصوات نادت بأن شكل العالم سيصيبه التغير على أساس الأيديولوجية والحضارات؛ مثل (صمويل هنتجتون، وإيمنويل، ويرلستين).
التقسيم الحالي للعالم -بحسب الحدود السياسية المتوهمة- خلق العديد من المشكلات؛ منها:
ما أسوأ أن تفوتك الحياة بسبب موقعك الجغرافي
بعد ترسيم الحدود السياسية الفاصلة بين الدول؛ انقسم العالم إلى عالم متحضر، يحق لمواطنيه أن يجوبوا العالم بأسْره دون أي قيود، لأي غرض تعليمي أو سياحي أو صحي، وعالم متخلف لا يحق لمواطنيه التنقل من دولة لأخرى إلا بتأشيرة يحصل عليها بِشِقِّ الأنفس -إن حصل عليها-!؛ فأصبحنا نعيش في الـ(يوتوبيا) التي كتبها الروائي المبدع (أحمد خالد توفيق) ولكن بشكل عالمي، وإن صح شبهناه بنظام الاحتكار الاقتصادي، ولكن في هذه الحالة سيكون احتكارًا للإنسانية؛ بمنح شعوب حق الآدمية كاملاً ومنح آخرين الربع؛ لأنهم لم يحالفهم الحظ وولدوا في منطقة فقيرة!
وبالتأمل -من منظور إنساني- في تلك الحِسْبة غير السوية للحدود السياسية؛ تجد أن أجيالاً كاملة عاشت وماتت وقد حُرمت من حقها الطبيعي في التنقل في أرض الله؛ لمجرد أن حظه السيئ قاده ليكون من مواطني دولة فقيرة، قد توفرت عنده كل الدوافع مثلما توفرت عند مواطن الدولة الثرية القوية، لكنه لم يحظَ بالسفر للتعلم أو اكتشاف أرض الله أو السياحة أو العلاج أو الهجرة من الظلم!
استوقفتني مقولة ذات مرة: (ماذا لو كان علاج السرطان محصورًا في عقل شخص لا يستطيع الحصول على تعليم جيد؟!)؛ تأمُّلك تلك المقولة يجعلك تتفكر في كمية الاكتشافات والاختراعات التي حُصرت في عقول العديد من البشر من سكان الدول المتخلفة، وفاتت البشرية جمعاء؛ بسبب فرض قيود متوهمة على بشر دون بشر، وحرمانهم من أبسط حقوقهم في التنقل والتعلم؛ ومن المعروف أن أغلب أهل العلم -سواء الشرعي أو الدنيوي- لم يكتسبوا خبرة علمهم إلا بعد تنقلهم بين الدول والأسفار المتعددة؛ لغرض تراكم الخبرة وتحصيل العلم.
وعلى الرغم من أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان -التابع للأمم المتحدة- يزعم كفالة حرية التنقل لكل إنسان، ويزعم أيضًا أن جميع الناس يولدون أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق؛ فإن هذه القوانين (المزاعم) ستظل حِبرًا على ورق، طالما فرضوا تلك التأشيرات اللعينة التي تسجن إنسانًا داخل حدود متوهمة تفوته فيها الحياة!
أزمة اللاجئين
قديمًا؛ حينما تشتعل الحروب، أو عند حلول الكوارث الطبيعية؛ يخرج أهل البلد فارين إلى بلد مجاور لالتماس السلامة لهم ولأهلهم، فكان بمجرد وصولهم إلى البلد الجديد؛ يبدأون حياتهم بشكل طبيعي مثلهم مثل مواطني البلد الجديد، وذلك الفارق يذوب أكثر مع الأجيال الجديدة من ذرية (المهاجر) الأول.
وأما في عصرنا الحالي؛ فقد تم تغيير لقب (المهاجر بسبب الكوارث) إلى مصطلح (لاجئ)، وهو المواطن الذي وقعت في دولته كارثة أو ظروف سياسية؛ فلجأ إلى دولة جوار أو غيرها. في أوروبا -وبعض الدول المتقدمة- يتم قبول اللجوء الإنساني وأحيانًا يتم بشروط! أما في دول العالم المتخلف يظل اللاجئ فيه مسلوبًا من أبسط حقوق الحياة، هو وأربعة أجيال بعده من ذريته! فعلى سبيل المثال؛ يعيش إخواننا الفلسطينيون وضعًا مأساويًّا طويلَ الأمد بعد تهجيرهم من وطنهم الأصلي وحصولهم على وثائق سفر؛ منها ما يكفل العيش داخل بعض البلدان كالأردن وسوريا ولبنان، ومنها ما لا يكفل كمِصْر (أم الدنيا)؛ فيصبح -حرفيًّا- بلا أي وطن! وعلى المستوى الشخصي؛ أعرف عائلات فلسطينية وصلت للجيل الثالث، ولا يزالون يعيشون بالوثائق اللعينة التي تجعلك خارج حدود الآدمية!
ظهرت تلك السلبية بشكل فَج في التعامل مع إخواننا السوريين بعد أزمة ثورتهم الأخيرة، فبدلاً من أن يقف معهم العالم لمساندة ثورتهم ضد المستبد؛ وقف ضدهم وكأنه يعاقبهم! والمتتبع للأخبار يكفيه ما يعرف من الحال، فما يلاقيه (اللاجئ) السوري من مهانة وألم نفسي وبدني في رحلة اللجوء؛ أجبر الكثير على الرجوع إلى وطنه مفضلاً نار الحرب على نار اللجوء وانتقاص كرامته، فأصبح كالمستجير من الرمضاء بالنار!
كارثة البدون
تقدر المفوضية السامية لشئون اللاجئين عدد من يسمونهم (البدون) في العالم بـ(10) ملايين إنسان، وشملت الدول العربية أكثر نسبة للـ(بدون) في العالم؛ فسوريا (160) ألفًا، والعراق (120) ألفًا، والكويت (93) ألفًا، والسعودية (70) ألفًا.
و(البدون) يعيش في وضع مأساوي أكثر من (اللاجئ)؛ حيث يعيش في دولة لا تعترف بوجوده من الأساس! فهو فرد بلا جنسية وبلا حقوق داخل الدولة! وتختلف سبب أزمتهم من بلد لآخر، ولكنهم مشتركون في المصير المحتوم؛ وهو أن يعيشوا -حرفيًّا- على هامش الحياة؛ بسبب أن دولتهم لا تريد الاعتراف بهم!
(البدون) يعانون الحرمان من حق السفر؛ حيث لا يُسمح لهم باقتناء وثيقة سفر، إلا في حالات نادرة تقتضيها (المصلحة)، ولا يُسمح لهم بالتوظيف في القطاع الخاص فضلاً عن القطاع الحكومي، كما أنهم محرومون من حق التعليم؛ حيث لا يُسمح لأبنائهم بالدراسة في المدارس الحكومية؛ ما أدى إلى تفشي الأمية بين عشرات الآلاف من أبنائهم، كما أن (البدون) لا يملك حق التملك؛ فلا تُسجل بأسمائهم العقارات ولا الشركات ولا السيارات ولا غيرها من الممتلكات التي تتطلب وثائق إثبات الهُوية، كما يعاني (البدون) الحرمان من حق توثيق الزواج والطلاق الشرعيَّيْن، فلا توثق المحاكم عقود زواجهم، وإذا تزوج أحدهم من دون توثيق في المحكمة؛ يحاكَم كمرتكب جريمة (زنا)، كما أن طلاقه لا يُوثق!
(البدون) هو ضحية نظرية الدولة القومية الحديثة وترسيم الحدود السياسية؛ التي بسببها عاش أكثر من (10) مليون إنسان في العالم على هامش الحياة، عاشوا داخل سجن كبير بحدود متوهمة تُسمى (الدولة القومية)، محرومين من أداء أبسط حقوقهم كالزواج والسفر والتعليم.
العبودية المقننة
من النتائج السلبية لنظرية الدولة القومية وترسيم الحدود؛ ما ظهر في دول الخليج بنظام (الكفالة)، وهو ما سماه البعض (العبودية المقننة) أو (العبودية الحديثة) الذي يجعل مصير من رضي بالعمل في الخليج العربي في أيدي المواطنين والشركات؛ إذ يعطي الكُفلاء صلاحية قانونية للتحكم في مصير العامل؛ فبدون إذن الكفيل؛ لا يستطيع العامل تجديد أوراقه، أو تغيير وظيفته، أو الاستقالة منها، أو ترك البلاد من الأساس!
وقد نشأت فكرة (الكفالة) عن طريق تجارة صيد اللؤلؤ التي كانت تُمثِّل الأساس الاقتصادي في منطقة الخليج قبل اكتشاف النفط؛ فكان أصحاب السفن يقومون بـ(كفالة) الغواصين في كل موسم عن طريق استخدامهم في الغوص مقابل تغطية مصروفات عائلاتهم، ومع أن النظام في حد ذاته مقصده سليم؛ لكنه بعد ذلك تم استخدامه أداةً تعسّفية للاضطهاد والاستغلال.
ويبرز الجانب غير الإنساني في نظام (الكفالة) في الاضطهاد والاستغلال الذي يلاقيه العامل داخل الدولة؛ بدايةً من مُصادرة الكفيل وثيقة سفر العامل ومساومته على حقوقه في بعض الأحيان، وحتى تبليغ الكفيل بهروب العامل في أي وقت؛ مما يُدخِل العامل في دوامة الحبس ثم الترحيل عن البلاد؛ بسبب عدم شرعية بقائه بلا إقامة.
وجانب آخر غير إنساني يحدث في دول الخليج؛ وهو انعدام وجود قانون للتجنيس داخل الدولة إلا في حالات محدودة جدًّا، فيعيش الإنسان داخل الدولة الخليجية ما يفوق النصف قرن ولا يحصل فيها على حق التجنيس أو الحصول على وضع خاص مقابل الأعوام التي فنت من عمره داخل البلد الذي كانت فيه صِباه وشبابه وشبيبته، فلو كان في بلد غربي؛ لَحَصَل على جنسيتها في بضع سنين من إقامته، ولكن في دول الخليج يتساوى مَن أقام فيها (60) سنةً بمَن وطأها بالأمس! فما أصعب أن تنتمي لمكان غير معترف بك ويعاملك أهله أنك (أجنبي) طيلة حياتك
- التصنيف: