مظاهر نور الطاعة في الدنيا والآخرة (1-3)
وقال العلامة السعدي رحمه الله: فلولا نوره تعالى لتراكمت الظلمات، ولهذا كل محل يفقد نوره فثمَّ الظلمة والحصر، وقال الشيخ أبو بكر جابر الجزائري: كل نور حسي، أو معنوي، الله خالقه، وموهبه، وهادٍ إليه."
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فالله جل جلاله نور، ورسوله صلى الله عليه وسلم نور، وكتابه النور، ودينه النور، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: الله سبحانه وتعالى سمى نفسه نوراً، وجعل كتابه نوراً، ورسوله صلى الله عليه وسلم نوراً، ودينه نوراً، واحتجب عن خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه نوراُ يتلألأ."
وقال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: النور جاء في القرآن منسوباً إلى الله جل وعلا وهو على قسمين:
أحدهما: نور يوصف به الرب سبحانه، وهذا من أسمائه وصفاته، فالله نور في ذاته، وفي أسمائه، وفي صفاته، وحجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه سبحانه وتعالى، فهذا النور من صفات الله تعالى وهو غير مخلوق.
الثاني: نور مخلوق مثل نور الشمس والقمر والمصابيح والنجوم وهو نوعان:
أحدهما: معنوي: وهو نور الإيمان في القلوب، وهو المذكور في قوله تعالى: ﴿ نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [النور:35]
الثاني: نور حسِّي: مثل نور الشمس، ونور القمر، والكواكب، والمصابيح، هذا كله مخلوق لله تعالى".
وقال العلامة السعدي رحمه الله: فلولا نوره تعالى لتراكمت الظلمات، ولهذا كل محل يفقد نوره فثمَّ الظلمة والحصر، وقال الشيخ أبو بكر جابر الجزائري: كل نور حسي، أو معنوي، الله خالقه، وموهبه، وهادٍ إليه."
ومن رحمة الله بعباده أن بعث إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه ليخرجهم من الظلمات إلى النور قال سبحانه وتعالى: ﴿ {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} ﴾ [إبراهيم:5] وقال عز وجل: ﴿ { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} ﴾ [المائدة:15-16] وقال عز وجل ﴿ {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } ﴾ [المائدة:44] وقال عز وجل: ﴿ {وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ } ﴾ [المائدة:46].
وقال سبحانه وتعالى: ﴿ { الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } ﴾ [إبراهيم:1] قال العلامة السعدي رحمه الله: يخبر تعالى أنه أنزل كتابه على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لنفع الخلق، ليخرج الناس من ظلمات الجهل والكفر والأخلاق السيئة، وأنواع المعاصي، إلى نور العلم والإيمان والأخلاق الحسنة.
ومن يعيش في ظلمات الكفر والشرك والجهل والمعاصي فهو في واقع حاله ميت، قال الله عز وجل: ﴿ {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } ﴾ [الأنعام:122] قال العلامة ابن القيم رحمه الله: يصف سبحانه هذا الضرب من الناس بأنهم أموات غير أحياء، وبأنهم في الظلمات لا يخرجون منها، ولهذا كانت الظلمة مستولية عليهم من جميع جهاتهم، فقلوبهم مظلمة ترى الحق في صورة باطل، والباطل في صورة الحق، وأعمالهم مظلمة، وأقوالهم مظلمة، وأحوالهم كلها مظلمة، وقبورهم ممتلئة عليهم ظلمة، وإذا قُسمت الأنوار دون الجسر للعبور عليه بقوا في الظلمات، ومدخلهم في النور مظلم...فالظلمة لازمة لهم في دورهم الثلاث."
ومن كان أعمى البصيرة في الدنيا، فإنه يوم القيامة أعمى البصر والبصيرة، قال الله عز وجل: ﴿ {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} ﴾ [الإسراء:72] وأعمى البصيرة في ظلمات وهو لا يشعر فقلبه مظلم ووجه مظلم وكلامه مظلم وحاله مظلم.
إن من يعيش في تلك الظلمات ليس كمن يعيش في نور التوحيد، والإيمان، والتقوى، والطاعة، والصلاح، فالظلمات لا تستوي مع النور أبداً، قال الله عز وجل: ﴿ {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} ﴾ [فاطر:20-21] ومن يعيش في تلك الظلمات فحياته قلق ورعب، وحزن وهم، وضيق وغم، وحيره وخوف، وتخبط وضياع، قال الله عز وجل: ﴿ {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} ﴾ [النور:40] أما من يعيش في نور الإيمان والطاعة فحياته فرح وسرور، وراحة نفسية، وطمأنينة قلبية، وانشراح الصدر، حياة لو ذاقها الملوك وأبناء الملوك لقاتلوهم عليها بالسيوف.
الظلمات متنوعة، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: الخارجون عن طاعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ومتابعتهم يتقلبون في عشر ظلمات: ظلمة الطبع، وظلمة الجهل، وظلمة الهوى، وظلمة القول، وظلمة العمل، وظلمة المدخل، وظلمة المخرج، وظلمة القبر، وظلمة القيامة، وظلمة دار القرار.
ومع كثرة وتنوع الظلمات، فإن لكل ظلمة نور يداويها، قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ: " الظلمات جاءت في القرآن على أنواع:
الظلمة الأولى: ظلمة الشرك...ونورها توحيد الله عز وجل
الظلمة الثانية: ظلمة الجهل، ونورها العلم بالله عز وجل
الظلمة الثالثة: ظلمة البدعة والخروج عن صراط النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به ونورها باتباع السنة
الظلمة الرابعة والأخيرة: ظلمة الهوى، والمعصية، والشهوة، ونورها بتقوى الله جل جلاله، والخوف من لقائه.
فهذه أنواع الظلمات في القرآن...ولهذا ما أعظم الحاجة إلى أن يتخلص الإنسان من الظلمات، ولا بدَّ لكل قلب من نوع من أنواع الظلمة قلت، أو كثرت."
ومن يعيش في ظلمات الكفر والشرك والبدعة، يعتقد بجهله أنه يستطيع إطفاء نور الله، وهو دينه، بكثرة الجدال، قال الله عز وجل: ﴿ {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} ﴾ [التوبة:32] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى يريد هؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب ﴿ { أن يطفئوا نور الله} ﴾ أي ما بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق بمجرد جدالهم وافترائهم فمثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس أو نور القمر بنفخه، وهذا لا سبيل إليه، فكذلك ما أرسل به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بدَّ أن يتمَّ ويظهر، قال العلامة السعدي رحمه الله: ﴿ { ويأبى الله إلا أن يتم نوره } ﴾ أنه النور الباهر، الذي لا يمكن لجميع الخلق لو اجتمعوا على إطفائه أن يطفئوه، والذي إنزاله جميع نواصي العباد بيده، وقد تكفل بحفظه من كل من يريده بسوء."
والمسلم عندما يتيقن هذه الحقيقة يطمئن قلبه وتهدأ نفسه، فمهما عمل وكاد الضالون فالله جل جلاله ناصر دينه، ولو كره الكافرون.
لنور الطاعة أسباب، تجمعها طاعة الله، ومن تلك الأسباب:
تحقيق أركان الإيمان وشعبه والمداومة على ذلك :
الإيمان اعتقاد بالقلب،وقول باللسان، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، له أركان ستة هي: (الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره ) كما جاء ذلك في حديث جبريل عليه السلام، والإيمان له بضع وسبعون شعبه فأفضلها: ( قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) كما جاء ذلك في الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري والإمام مسلم، رحمهما الله، فمن رام النور التام، فعليه بالإتيان بالإيمان اعتقاداً وقولاً وعملاً، مع تحقيق أركانه، وشعبه، والمداومة على ذلك، والاستمرار والثبات، نسأل الله الثبات.
قال الله عز وجل: ﴿ { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} ﴾ [البقرة:257] قال العلامة السعدي رحمه الله: أخبر تعالى أن الذين أمنوا بالله وصدقوا إيمانهم بالقيام بواجبات الإيمان، وترك كل ما ينافيه، أنه وليهم، يتولاهم بولايته الخاصة..فيخرجهم من ظلمات الجهل والكفر والمعاصي والغفلة والإعراض، إلى نور العلم واليقين والإيمان والطاعة والإقبال على ربهم، وينور قلوبهم، بما يقذفه فيها من نور الوحي والإيمان."
وكلما ازداد المؤمن إيماناُ كلما كمل نوره نسأل الكريم من فضله قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله : وكلما كمل الإيمان ازداد الإنسان نوراً، وقال الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ: اختلاف النور باختلاف الإيمان, واختلاف منزلة العبد في تحقيق الإيمان...فليس إيمان كل أحدٍ متساوياً...وتفاوتهم في الإيمان.هذا..بحسبه يكون اختلاف النور.
تقوى الله عز وجل والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم:
قال الله عز وجل: ﴿ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ﴾ [الحديد: 28]
قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ: التقوى في القرآن والسنة على ثلاث مراتب، وهي:
المرتبة الأولى: تقوى الله بالإسلام والتوحيد، والكفر بالطاغوت والشرك.
المرتبة الثانية: تقوى الله بامتثال الواجبات وترك المحرمات
المرتبة الثالثة: تقوى الله بامتثال المستحبات، وترك المكروهات، وترك ما يؤدي إلى المشتبهات، والمحرمات،
والإيمان المراد به: التصديق الجازم الذي لا شبهة فيه، الذي يقارنه القول والعمل بأن محمداً هو رسول الله، وخاتم الأنبياء، والمرسلين، وأن ما جاء به حق، وأن رسالته نسخت ما قبلها من الرسالات."
غضُّ البصر عما حرم الله:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: غضُّ البصر عن الصورة التي نُهي عن النظر إليها كالمرأة والأمرد الحسن يورث ذلك ثلاث فوائد جليلة القدر...الفائدة الثانية: يورث نور القلب والفراسة...والله تعالى يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله فغض بصره عما حرم يعوضه الله عليه من جنسه بما هو خير منه فيطلق نور بصيرته ويفتح عليه باب العلم والمعرفة والكشوف ونحو ذلك مما ينال ببصيرة القلب، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: في غضِّ البصر عدّة منافع....الرابع: أنه يكسب القلب نوراً.
- التصنيف: