كورونا و مأزق القيم المادية.

منذ 2020-04-08

الفلسفة الغربية وتجلياتها العملية منذ اليونان الأوائل و إلى اليوم لم تنفك عن تبجيل المادة و الإعلاء من شأنها حتى أضحت في الوعي الجمعي الغربي السر المقدس لهذا الكون


" المستبدون لا تهمهم الأخلاق إنما يهمهم المال ".
عبد الرحمن الكواكبي.
- أيهما مركز الكون: هل هو الإنسان أم المادة ؟
الفلسفة الغربية وتجلياتها العملية منذ اليونان الأوائل و إلى اليوم لم تنفك عن تبجيل المادة و الإعلاء من شأنها حتى أضحت في الوعي الجمعي الغربي السر المقدس لهذا الكون و مركزه، وجوهر العالم و لبه، أما القيم الفطرية و الإنسانية فقد تلاشت أمام ضراوة المادية المتوحشة. إذ النقطة الأساس التي تنطلق منها القيم الغربية هي الأشياء، و هي النقطة نفسها التي تعود إليها....، فالمادة عند الإنسان الغربي هي المبدأ و في نفس الآن هي المبتغى و المنتهى.
فالنتيجة الحتمية: حضارة عدمية تشيئية لا تقر إلا بمنطق السوق المرتكز على فلسفة الربح والخسارة و لغة المصالح و الأهداف القائمة على الأنانية.
و مع كل ذلك لا ننكر أن الغرب قد أصاب ما أصاب من النجاحات و الإنتصارات الكثيرة، و امتد تأثيره و أثره و اتسع سلطانه و سطوته في العديد من المجالات، لكن هذا لا يغطي البتة حالة الإفلاس في الجوانب الأخلاقية و الروحية...و لا حالة الشيزوفرينيا المتمثلة في مأزق الإنفصام بين منجزات الحضارة الغربية وضميرها... و التي تجثم على نفسية غالبية الغربيين...، فالتفريط في الدين كمعامل أساس في المعادلة الحضارية، أفقد الإنسانية مكانتها في العلاقات داخل المجتمع الغربي، وحول الإنسان في مقابل المادة من وضعية التمركز الطبيعية إلى الهامشية...، و من السيادة إلى العبودية...، ومن الفاعلية إلى الإنفعالية...
ومن الجلي أن أصل المأزق الأخلاقي الذي يطوق المادية الغرببة عائد في المرتبة الأولى إلى استبعاد الروح من تركيبة ابن آدم، و الإقتصار فقط على التفسير المادي لسلوكيات المرء و انفعالاته...، و اختزال الجواب عن الأسئلة المصيرية كالغاية من الوجود ومصير الناس عقب الموت في إجابات فيزيائية و بيولوجية.
فالغرب بفلسفته التشيئية هاته و قيمه المادية يظل أكبر تحدي للإنسان المعاصر .
- حرب الكِمامات...، و القرصنة في زمن العولمة !!!...
يذكر وول ديورانت في فصل رومة المحررة، أن: " رومة أرسلت في عام 230 م رجلين من أهلها إلى أشقودرة Scodra عاصمة اليريا Illyria - شمال ألبانيا - ليحتجا على هجوم القراصنة الإليريين على السفن الرومانية، فردت الملكة توتا Teuta، وكانت تقاسم القراصنة الأسلاب، على احتجاجهما بقولها " أن ليس من عادة الحكام الإليريين أن يمنعوا رعاياهم من الإستحواذ على الغنائم في البحار ". قصة الحضارة، ج 8/ ص 196.
و مع تفشي وباء كورونا صارت الكمامات المسلوبة إحدى الصور الجديدة لقرصنة" الأسلاب " وفق تعبير الحاكمة الألبانية " توتا "، أما ما يصدر اليوم من أخلاقيات السلب هاته فيمكن أن توسم بعولمة القرصنة أو القرصنة في زمن العولمة....، فجائحة كورونا قد عرت المنافسة الشرسة التي تشهدها حواضر الغرب للحصول على المعدات و الكوادر الطبية ولو كانت على حساب معاناة العالم أجمع.
فأمريكيون قد استولوا على شحنات من الأقنعة الواقية متجهة إلى فرنسا و ألمانيا بالمزايدة على سعرها، و تشيكيون يستولون على رزم من المعدات الصحية في طريقها الى إيطاليا، و الأخيرة تصادر كمامات متجهة إلى تونس...، وإغراء بالإقامة الدائمة بل وحتى التجنيس لجلب الأطباء و الممرضين من شتى البقاع للعمل في أمريكة... و الوقائع في هذا الصدد كثيرة.
إنها قرصنة لا ترحم المصابين، وسطو لا يشفق على الموبوئين. فهؤلاء القراصنة تسيطر عليهم ازدواجية المعايير، إذ لطالما تغنوا بمد يد العون للفقراء والمنكوببن، لكن وباء كورونا كشف عن و الوجه القبيح لأنانيتهم المقيتة و نزع القناع عن القيم اللإنسانية التي تحكم الحضارة الغربية..
لقد أضحى الفكر المادي فكرا متهالكا مع كورونا...، وتوارى رواده و أنصاره خلف جدران الصمت يتحسسون أفكارهم ويمسحوا الغبار عن آراءهم القديمة لعلهم يظفرون بتبريرات منطقية، وتفسيرات معقولة لهذا الواقع المضطرب !!!، و لربما - التفسيرات و التبريرات - تذيبان جليد الشك الذي بات يطبق على الوعي الغربي و تكشفان عجز أخلاق العولمة ومدى صلاحية قيمها المادية للإنسان المعاصر.
لذا فالمأزق الذي تعيشه القيم المادية الآن. لا يهم قفط زمن كورونا، بل يتعلق بالتحديات الوجودية التي تساءل الحضارة الغربية مرة أخرى، عن إمكانية و مقدرة الحضارة المادية لحل المشكلات التي تواجه البشرية في الحاضر و المستقبل؟!!!..

بنداود رضواني

حاصل على شهادة الدكتوراة في الفكر الإسلامي ومقارنة الأديان

  • 14
  • 0
  • 3,636

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً