خطورة الجرأة على الفتوى
وعن عبد الرازق قال: سأل رجل عمرو بن دينار عن مسألة فلم يجبه فقال الرجل إن في نفسي منها شيئا فأجبني، فقال: إن يكن في نفسك منها مثل أبي قبيس أحب إلى أن يكون في نفسي منها مثل الشعرة.
{بسم الله الرحمن الرحيم }
«الفتيا» .. أمرها عظيم، وشأنها جليل، وهي من الدين بمنزلة الرأس من الجسد، فالفقية يدل الناس على كيفية عبادة الله تعالى على النحو الذي يرتضيه .. ولذلك كان السلف رحمهم الله تعالى يخشون الفتيا، ويشددون فيها، ويتدافعون عنها، فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسئل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول. وفي رواية: ما منهم من يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.
وقال ابن عباس: إذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله، وقال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إمام المسلمين وسيد العالمين يسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء.
وعن على بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: من علم الرجل أن يقول لما لا يعلم «الله أعلم» لأن الله عز وجل قال لرسوله: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]
وعن ابن مسعود قال: من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون.
وقال الشعبي: لا أدري نصف العلم. وقال سفيان: من فتنة الرجل إذا كان فقيها أن يكون الكلام أحب إليه من السكوت. وقال سحنون بن سعيد: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه.
وقال أبو حصين عثمان بن عاصم التابعي: إن أحدكم يفتي في المسألة ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر.
وأما السلف فكانوا يتركون ذلك خوفا ولعل غيره يكفيه، وقد يكون أدنى لوجود من هو أولى منه، قال ابن معين: الذي يحدث بالبلدة وبها من هو أولى منه بالحديث فهو أحمق.
وقال مالك: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك.
وقال سحنون يوما: إنا لله ما أشقى المفتي والحاكم، ثم قال ها أنا ذا يتعلم مني ما تضرب به الرقاب وتوطأ به الفروج وتؤخذ به الحقوق، أما كنت عن هذا غنيا.
وقال أيضا: إني لأحفظ مسائل منها ما فيه ثمانية أقوال من ثمانية أئمة من العلماء، فكيف ينبغي أن أعجل بالجواب قبل الخبر، فلم ألام على حبس الجواب.
وقال بعض العلماء لبعض المفتين: إذا سئلت عن مسألة فلا يكن همك تخليص السائل، ولكن ليكن همك تخليص نفسك.
وقال عمرو بن دينار: لما جلس قتادة للفتيا قال لنفسه: تدري في أي عمل وقعت ؟ وقعت يا قتادة بين الله وبين خلقه ! وقلت هذا يصلح وهذا لا يصلح.
وكان النخعي يسأل فتظهر عليه الكراهة ويقول: ما وجدت أحدا تسأله غيري.
وقال أيضا: قد تكلمت ولو وجدت بدا ما تكلمت، وإن زمانا أكون فيه فقيه أهل الكوفة لزمان سوء.
الإمام أحمد إمام أهل السنة
كان يسوغ استفتاء فقهاء الحديث، أصحاب مالك ويدل عليهم، ومنع من استفتاء من يعرض عن الحديث ولا يبني مذهبه عليه ولا يسوغ العمل بفتواه، قال ابن هانئ سألت أبا عبد الله عن حديث «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار»، قال أبو عبد الله: يفتي بما لم يسمع، قال وسألته عمن أفتى بفتيا يعي فيها، قال: فإثمها على من أفتاها، قلت على أي وجه يفتي حتى يعلم ما فيها، قال يفتي بالبحث لا يدري أيش أصلها.
ومن أقواله: لا ينبغي للرجل أن يعرض نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:
(أولها): أن تكون له نية، وهي أن يخلص لله تعالى، ولا يقصد رياسة ولا نحوها، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور.
(الثانية): أن يكون له حلم ووقار وسكينة، وإلا لم يتمكن من فعل ما تصدى له من بيان الأحكام الشرعية.
(الثالثة): أن يكون قويا على ما هو فيه وعلى معرفته، وإلا فقد عرض نفسه لخطر عظيم.
(الرابعة): الكفاية، وإلا أبغضه الناس، لأنه أحتاج إلى الناس وإلى الأخذ مما في أيديهم، فيتضررون منه.
(الخامسة): معرفة الناس، بأن يكون بصيرا بمكرهم وخداعهم، ليكون حذرا منهم لئلا يوقعوه في المكروه.
وقال عبد الله: كنت أسمع أبي كثيرا يسأل عن المسائل، فيقول: لا أدري، ويقف إذا كانت مسألة فيها اختلاف، وكثيرا ما كان يقول سل غيري، فإن قيل له من نسأل، قال سلوا العلماء ولا يكاد يسمي رجلا بعينه.
ومن أقوالة عليه رحمة الله: وددت أنه لا يسألني أحد عن مسألة، ما شيء أشد علي من أن أسأل عن هذه المسائل، البلاء يخرجه الرجل عن عنقه ويقلدك.
ونقل المروذي أن رجلا تكلم بكلام أنكره عليه أبو عبد الله قال: هذا من حبه الدنيا يسأل عن الشيء الذي لا يحسن فيحمل نفسه على الجواب.
الإمام مالك إمام دار الهجرة
كان الإمام مالك رحمة الله عليه إذا سئل عن المسألة كأنه واقف بين الجنة والنار، وقال أحمد في رواية المروذي: كان مالك يسئل عن الشيء فيقدم ويؤخر ويتثبت، وهؤلاء يقيسون على قوله ويقولون: قال مالك.
وصح عن مالك أنه قال: «ذل وإهانة للعالم أن يجيب كل من سأله». «من فقه العالم أن يقول لا أعلم فإنه عسى أن يهيأ له الخير». «العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخرق».
وقال عبد الرحمن ابن مهدي: سأل رجل من أهل الغرب مالك بن أنس عن مسألة، فقال: لا أدري، فقال: يا أبا عبد الله تقول لا أدري، قال: نعم، فأبلغ من وراءك أني لا أدري، وعنه أيضا أنه سأل رجل مالك بن أنس عن مسألة فطال ترداده إليه فيه ولح عليه فقال: ما شاء الله يا هذا إني لا أتكلم إلا فيما أحتسب فيه الخير، ولست أحسن مسألتك هذه
من مواقف العلماء الربانيين
عن الزهري: أن أبا بكر الصديق –رضي الله عنه- حدث رجلا بحديث فاستفهمه الرجل، فقال الصديق: هو كما حدثتك أي أرض تقلني إذا قلت بما لا أعلم.
وعن معاوية بن أبي عياش أنه كان جالسا عند عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر، فجاءهما محمد بن إياس ابن البكير، فقال إن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا، فماذا تريان؟ فقال عبد الله بن الزبير: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول، فاذهب إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم ائتنا فأخبرنا، فذهبت فسألتهما فقال ابن عباس لأبي هريرة أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة، فقال أبو هريرة الواحدة تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره.
وعن خالد بن أسلم قال: كنا مع ابن عمر فسأله أعرابي أترث العمة؟ فقال لا أدري، قال أنت لا تدري قال نعم اذهب إلى العلماء فسألهم، فلما أدبر الرجل قبل ابن عمر يده فقال: نعم ما قال أبو عبد الرحمن سئل عما لا يدري فقال لا أدري.
وعن عبد الرازق قال: سأل رجل عمرو بن دينار عن مسألة فلم يجبه فقال الرجل إن في نفسي منها شيئا فأجبني، فقال: إن يكن في نفسك منها مثل أبي قبيس أحب إلى أن يكون في نفسي منها مثل الشعرة.
المصادر
- إعلام الموقعين عن رب العالمين ابن القيم الجوزية ــ دار ابن الجوزي / السعودية
- موارد الظمآن لدروس الزمان عبد العزيز السلمان ج1 / السعودية
- التصنيف:
REDHA BENDRIDI
منذ