عفة القول .. درة الفضائل
فالاسترسال في الكلام دون روية مزلة قدم، وأنت محفوف فيه بين الغيبة، وحقوق الآدميين، والنفس ظلومة جهولة، والتجرد عزيز، والعاقبة وخيمة؛ فحذارِ حذارِ أن تريق حسناتك بفلتات لسانك
{بسم الله الرحمن الرحيم }
تعرف أخلاق المرء بلسانه، فطهارة الكلمة منوطة بطهارة القلب، والكامل يعف لسانه عن النطق بالهجر، وطالما حرص الفضلاء على انتقاء الكلمات كما ينتقي أحدهم جواهر الدرر، ولا تزال الأمة بخير إذا كانت العفة بينها سارية وعلى ألفاظها جارية.
وكلُّ تزيُّنٍ بالمرءِ زينٌ .. وأزينُه التزيُّنُ بالعفافِ
أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} [المائدة:6]
كنى جل ذكره بالملامسة عن الجماع، لأنه مما يستهجن التصريح به أو يستحي منه .. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: إن الله حيي كريم يعف ويكني، فعبر عن المباشرة بالملامسة .. وقال سيد قطب: والتعبير بالملامسة أرق وأحشم وأرقى - والملامسة قد تكون مقدمة للفعل أو تعبيراً عنه - وعلى أية حال فهو أدب يضربه الله للناس في الحديث عن مثل هذه الشؤون. عندما لا يكون هناك مقتض للتعبير المكشوف.
قال أهل العلم: اختلف المفسّرون في معنى اللمس والملامسة، فقال قوم: المجامعة، وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة، وقال سعيد بن جبير: ذكروا (اللمس) فقال ناس من الموالي: ليس بالجماع، وقال ناس من العرب: هو الجماع، فأتيت ابن عباس فذكرت له، فقال: من أيّ الفريقين كنت؟ قلت: من الموالي. قال: غُلب فريق الموالي، إنّ اللمس والمسّ والمباشرةَ الجماعُ، لكنّ الله يكنّي عمّا يشاء بما يشاء.
وعلى هذا القول إنّما كنّى عن اللمس بالجماع؛ لأنّ اللمس يوصَل إليه، كما يقال للسّحاب: سماء، وللمطر: سماء، وللكلأ سماء، لأنّ بالسحاب يوصل إلى المطر، وبالمطر يوصل إلى الكلأ .. قال الشاعر:
إذا سقط السّماء بأرض قوم .. رعيناه وإنْ كانوا غضابا
وقال -صلى الله عليه وسلم-:
- «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذي» [أحمد]
أي ذي الفحش في كلامه وفعاله، قال ابن العربي: والفحش الكلام بما يكره سماعه مما يتعلق بالدين (ولا البذي) أي الفاحش في منطقه، وإن كان الكلام صدقاً.
- ( «أثقل شيء في ميزان المؤمن خلق حسن، إن الله يبغض الفاحش المتفحش البذي» ) [صحيح الجامع:135]
- ( «إن الله تعالى لا يحب الفاحش المتفحش، ولا الصياح في الأسواق» ) [ابن أبي الدنيا]
قال القرطبي: "الفاحش: المجبول على الفحش، الذي يتكلم بما يكره سماعه مما يتعلق بالدين، أو الذي يرسل لسانه بما لا ينبغي، وهو الجفاء في الأقوال والأفعال، والمفتحش المتعاطي لذلك المستعمل له، وقيل الفاحش المتبلس بالفحش، والمتفحش المتظاهر به، لأنه تعالى طيب جميل فيبغض من لم يكن كذلك قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151]
التلميح لا التصريح
روى أن كَعْبُ بْنُ سُورٍ الأَزْدِيُّ كان جالسا عند عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فجاءت امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين: ما رأيت رجلا قط أفضل من زوجي، إنه ليبيت ليله قائما، ويظل نهاره صائما، في اليوم الحار ما يفطر، فاستغفر لها وأثنى عليها، وقال: مثلك أثنى بالخير، وقال: واستحيت المرأة فقامت راجعة.
فقال كعب يا أمير المؤمنين، هلا أعديت للمرأة على زوجها، إن جاءتك تستعيدك؟ قال: أو ذاك أرادت؟ قال: نعم.
قال عمر: ردوا علي المرأة، فردت، فقال عمر: لا بأس بالحق أن تقوليه، إن هذا زعم أنك جئت تشتكين زوجك، أنه يجتنب فراشك. قالت: أجـل، إني امـرأة شابة، وإني أتبع ما يتبع النساء.
فأرسل إلى زوجها فجاءه، فقـال لكعب: أقضي بينهمـا، فإنك فهمت مـن أمرها ما لم أفهمه، فقال كعب: أمير المؤمنين أحق أن يقضي بينهما، فقال: عـزمت عليك لتقضين بينهما.
قال: فإني أرى كأنها امرأة عليها ثلاث نسوة هي رابعتهن، فأقضي له بثلاثـة أيـام وليالهن يتعبد فيهن، ولها يوم وليلة ليس له فيها إلا أداء الفريضة، فقال عمر: والله ما رأيك الأول بأعجب من الآخر، اذهب فأنت قاض على أهل البصرة.
ومحبة الله للعبد قرينة بمن يكون عفيف الجنان، عفيف اللسان، عفيف الجوارح والأركان عن أهل الإسلام والإيمان، حينما يراه الله في صباحه ومسائه لا يؤذي المسلمين بلسانه، لا يسبّ، ولا يشتم، ولا يغتاب، يمسي ويصبح وليس في صحيفة عمله زلّة على مسلم، ولا أذيّة لمسلم، يمسي ويصبح يحب للمسلمين ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه.
قال أبو حاتم البستي: "أعظم المصائب: سوء الخلق، والمسألة من الناس، والهم بالسؤال نصف الهرم، فكيف المباشرة بالسؤال، ومن عزت عليه نفسه، صغرت الدنيا في عينيه، ولا ينبل الرجل حتى يعفَّ عما في أيدي الناس، ويتجاوز عما يكون منهم، والسؤال من الإخوان ملال، ومن غيرهم ضد النوال".
وقال الإمام البخاري -رحمه الله-: "ما اغتبت مسلما منذ أن سمعت الله ينهى عن الغيبة".
فإن استطعت أن تبقى فيما بقي من عمرك عفيف اللسان فافعل، فإن الله لا يحاسبك على نقد الناس وتفنيدهم، فضلا عن سبهم وشتمهم، ولكن إذا تناولتهم بجور أو سببتهم وشتمتهم فإنهم خصومك بين يدي الله، وبخاصة إذا كان ذلك ظلما وتعديا.
ومن عفة اللسان: صونه عن أذية المسلمين، والتقرب به بكثرة ذكر إله الأولين والآخرين، ولذلك قال العلماء: إن للسان خصلتين حبيبتين إلى الله، الخصلة الأولى: عفته عن أذية العباد، والخصلة الثانية: حرصه على ذكر رب العباد.
كما أن الناقد ينبغي أن يكون عفيف اللسان، يكسي ألفاظه بأحسن الأدب، ويختار أدلها على المقصود؛ بألطف عبارة، ويربأ بنفسه عن الفظاظة والغلظة ووضيع الكلام، فما كان رسول الله فاحشاً ولا متفحشاً ولا بالبذئ.
قال السخاوي: "وإذا أمكنه الجرح بالإشارة المفهمة، أو بأدنى تصريح، لا تجوز له الزيادة على ذلك، فالأمر المرخص فيه للحاجة لا يُرتقى فيه إلى زائد على ما يُحصل الغرض، وقد روينا عن المزني قال: سمعني الشافعي يوماً وأنا أقول: فلان كذاب، فقال لي: يا إبراهيم! اكس ألفاظك أحسنها، لا تقل كذاب! ولكن قُلْ: حديثه ليس بشيء.
ونحوه: أن البخاري لمزيد ورعه قلّ أن يقول في الراوي كذاب أو وضاع، أكثر ما يقول: سكتوا عنه، فيه نظر، تركوه .. ونحو هذا، نعم ربما يقول: كذّبه فلان، أو رماه فلان بالكذب"
فالاسترسال في الكلام دون روية مزلة قدم، وأنت محفوف فيه بين الغيبة، وحقوق الآدميين، والنفس ظلومة جهولة، والتجرد عزيز، والعاقبة وخيمة؛ فحذارِ حذارِ أن تريق حسناتك بفلتات لسانك؛ فإن الطالب شحيح، والشهود الأعضاء، والحَكَم العليم الخبير.
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: