ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه
فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان غائبا في بعض حاجته فقال: إن عندي من هذا علما, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه, وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرار منه» .
في رحاب آيات:
( {ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه} )
( {ولا تقتلوا أنفسكم} )
( {ولا تلقوا بأيديكم إلي التهلكة} )
أيها الإخوة الكرام:
من أسباب السعادة (القوة في الجسم والمعافاة في البدن).
ومن اعتدى على بدنه بأي نوع من الاعتداء فقد وقع في (ظلم البدن)
وقد تظافرت النصوص في الكتاب والسنة على تحريم الظلم بجميع صوره وأنواعه.
فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (( «الظلم ظلمات يوم القيامة» )). مُتَّفق عليه.
ومن أنواع الظلم غير المشهورة (ظلم الإنسان بدنه)
ولظلم البدن عدة صور، منها:
أولا: من ظلم البدن حلق بعض رَأس وترك البعض (القزعة).
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في ((تحفة المودود بأحكام المولود)):
((وَيتَعَلَّق بِالْحلقِ مَسْأَلَة القزع وَهِي حلق بعض رَأس الصَّبِي وَترك بعضه وَقَالَ أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث عبيد الله بن عمر عَن عمر بن نَافِع عَن أَبِيه عَن ابْن عمر قَالَ:
نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن القزع والقزع أَن يحلق بعض رَأس الصَّبِي ويدع بعضه..
قَالَ شَيخنَا: وَهَذَا من كَمَال محبَّة الله وَرَسُوله للعدل فَإِنَّهُ أَمر بِهِ حَتَّى فِي شَأْن الانسان مَعَ نَفسه فَنَهَاهُ أَن يحلق بعض رَأسه وَيتْرك بعضه لِأَنَّهُ ظلم للرأس حَيْثُ ترك بعضه كاسيا وَبَعضه عَارِيا)) .
ثانيا: من ظلم البدن الْجُلُوس بَين الشَّمْس والظل.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في ((تحفة المودود بأحكام المولود)):
((قَالَ شَيخنَا: ... وَنَظِير هَذَا أَنه نهى عَن الْجُلُوس بَين الشَّمْس والظل فَإِنَّهُ ظلم لبَعض بدنه)) اهـ.
ثالثا: من ظلم البدن المشي في نعل واحدة.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في ((تحفة المودود بأحكام المولود)): ((قَالَ شَيخنَا: ... وَنَظِيره نهى أَن يمشي الرجل فِي نعل وَاحِدَة بل إِمَّا أَن ينعلهما أَو يحفيهما)) اهـ.
رابعا: من ظلم البدن تناول ما يضر.
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في ((مجموع فتاواه ورسائله)): ((وإذا نظرنا إلى التدخين وجدنا أن الدخان فيه ضرر على البدن)) اهـ.
وقالت اللجنة الدائمة في ((فتاواها)): ((الشيشة والدخان من الخبائث، وهي محرمة؛ لما فيها من الأضرار على البدن والمال،
قال الله تعالى في وصف نبيه محمد صلى الله عليه وسلم : {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}
وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا ضرر ولا ضرار))
فلا يجوز استعمال هذه الأمور ولا بيعها ولا ترويجها، كما لا يجوز أيضا فتح هذه المقاهي، ولا حضور هذه المقاهي والمجالس التي تعرض فيها، إلا لمن قوي على النصيحة وتغيير المنكر؛ لقول الله تعالى:
{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ}
وقوله سبحانه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}
ويدخل في عموم الآيتين حضور مجالس المعاصي والفسوق التي يستهان فيها بأوامر الله ونواهيه، فمن حضر ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء)) اهـ.
وقس على ذلك كل ما كان ضرره أعظم وأخطر، مثل الخمر والمخدرات والسم وغيرها.
والسم من أخطرها وأسرعها فتكا بالبدن، والسم كان له أثرا في وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، فقد وضع له اليهود السم في الشاة يوم خيبر.
قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: ((يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم)). أخرجه البخاري.
خامسا: من ظلم البدن ترك الدواء الذي بسببه يتضرر البدن أو التداوي بمحرم.
قال الله تعالى: { {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} } [البقرة: 195].
وقال تعالى: { {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} } [النساء: 29].
وعن وائل الحضرمي، أن طارق بن سويد الجعفي، سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه أو كره أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء.
فقال: (( «إنه ليس بدواء، ولكنه داء» )). [أخرجه مسلم] .
سادسا: من ظلم البدن دخول المناطق التي بها وباء.
عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام.
قال ابن عباس: فقال عمر بن الخطاب: ادع إلى المهاجرين الأولين, فدعاهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا.
فقال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه.
وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء.
فقال عمر: ارتفعوا عني.
ثم قال: ادع لي الأنصار فدعاهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم.
فقال: ارتفعوا عني.
ثم قال: ادع لي من كان ههنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح, فدعوهم فلم يختلف عليه منهم رجلان.
فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء.
فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر, فأصبحوا عليه.
فقال أبو عبيدة: أفرارا من قدر الله؟
فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة, نعم. نفر من قدر الله إلى قدر الله. أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما مخصبة والأخرى جدبة, أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله, وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟
فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان غائبا في بعض حاجته فقال: إن عندي من هذا علما, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه, وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرار منه» .
قال: فحمد الله عمر ثم انصرف. متفق عليه.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحفظنا في ديننا ودنيانا وفي أنفسنا وأموالنا وأهلينا من كل سوء.... آمين.
- التصنيف: