رعاية الأقصى من سنن المرسلين والصالحين

منذ 2020-07-20

هي من شعائر الله المكانية التي جعل الله سبحانه تعظيمها وتقديسها ومحبتها والذبِّ عنها معياراً ومؤشراً للتقوى والفلاح، قال عز وجل: ( {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} ) [الحج:32]

 

الحمد لله ذي الجود والعطاء، باسطِ الأرض ورافع السماء، والصلاة والسلام على من أمَّ الأنبياء جميعًا ليلة الإسراء، وعلى آله الأتقياء وصحابته الأوفياء، ومن سار على نهجهم إلى يوم العرض والجزاء، وبعد:

         فإنّ الله سبحانه وتعالى جعل لرقيِّ ونُهوضِ الأمم سُننًا ومقدماتٍ وقوانينَ ومقومات، ومن أعظمِ خصائص السنن الإلهية أنها ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، وأنها لا تحابي أحدًا ولا تجامل أمةً ولا دولة، قال سبحانه:  {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا} [فاطر:43].

         المقدسات من المساجد والبقاع والمدن والأماكن، التي عظّمها الله سبحانه وتعالى وشرّفها واصطفاها وكرّمها على غيرها؛ هي من شعائر الله المكانية التي جعل الله سبحانه تعظيمها وتقديسها ومحبتها والذبِّ عنها معياراً ومؤشراً للتقوى والفلاح، قال عز وجل: ( {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} ) [الحج:32].

         والشعيرة هي ما أشعرنا الله سبحانه بأهميتها ومكانتها وفضلها، لتعظيمها والمحافظة على حرمتها والذبِّ عنها والعناية بها كما أراد الله سبحانه الذي اجتباها واختارها، والشعيرة هي المعلم الظاهر الواضح والعلامة التي تتميز بها الأمة، والشعيرة من الشعور ليشعر بها الرائي فتختلط محبتها في وجدانه وقلبه.

         يقول (محمد صديق خان) في تفسيره فتح البيان (9/47): "فشعائر الله أعلام دينه".

         ويقول (ابن عاشور) في التحرير والتنوير (17/256): "فَكُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ بِزِيَارَتِهِ أَوْ بِفِعْلٍ يُوقَعُ فِيهِ فَهُوَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، أَيْ مِمَّا أشعر الله النَّاس وَقَرَّرَهُ وَشَهَرَهُ".

         ويضيف قائلاً في بيان ضرورة غرس محبة الشعيرة في القلب وظهور أثر ذلك عملاً وتطبيقًا، فيقول في تفسيره (17/257): "وَإِضَافَةُ تَقْوَى إِلَى الْقُلُوبِ لأَنَّ تَعْظِيمَ الشَّعَائِرِ اعْتِقَادٌ قَلْبِيٌّ يَنْشَأُ عَنهُ الْعَمَل".

         لقد حظي المسجد الأقصى المبارك منذ تأسيسه في عهد آدم؛ بعناية ربانية فائقة ورعاية نبوية كبيرة، إذ ارتبط ارتباطًا متينًا بالمسجد الحرام تاريخيًا وعقديًا وإيمانيًا وتعبديًا، فهما كالعقدين الثمينين النفيسين، اللذين أصبحا رمزًا وعنوانًا لتوحيد الله عز وجل وتحقيق العبودية الخالصة لله.

         منذ وجوده على ثرى فلسطين صار المسجد الأقصى مهوى أفئدة الأنبياء وأتباعهم، ومركزًا ومحلاً لنشر التوحيد وتحقيق العبودية لله عز وجل، حتى صار عنوانًا لقوة الدِّين وبوصلةً للصراع بين الحق والباطل بمختلف الأزمنة والظروف والأحوال.

         الأرض المباركة التي قَلبُها بيت المقدس، هاجر إليها أبو الأنبياء وإمام الحنفاء وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، مع ابن أخيه لوط وزوجه سارة، وأسس مجتمعًا صالحًا مع ذريته، واعتنى بالمسجد الأقصى عمرانيًا وإيمانيًا.

         قال سبحانه: ( {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ . وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} ) [الأنبياء:71-73].

         يوسف الصديق الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم عليه السلام، الذي توفاه الله في مصر، ومع ذلك أوصى علماء بني إسرائيل بأن يحملوا جثمانه إلى الأرض المباركة، عند انتقالهم إليها، ليعطي درسًا بليغًا بأن بيت المقدس هي أرض الأنبياء في حياتهم وبعد مماتهم!

         رسخّ كليم الله موسى -عليه السلام- أهمية وجود المقدسات في حياة الأمة، كركيزة أساسية وقوة مركزية، لضمان الاستقرار والتماسك والرقي بمختلف المجالات، إذ كان يتطلع بعد نجاتهم من فرعون وجنده في آخر مراحل حياته لفتح بيت المقدس وتحريرها، من العمالقة الجبارين الوثنيين.

         سار موسى وبنو إسرائيل باتجاه الأرض المقدسة، لاستعادتها وتحقيق العبودية الخالصة لله عز وجل فيها، بعد وعد من الله سبحانه أنهم بمجرد الدخول والصبر والثبات والاستجابة لأمر موسى؛ تكون لهم الغلبة والتمكين، إلا أنهم خذلوا موسى عليه السلام فعاقبهم الله -عز وجل- بالتيه أربعين سنة وحرمها عليهم!

فالقوم الذين يعتادون الراحة والدعة حتى تصبح المقدسات من آخر أولوياتهم؛ فإن مآلهم الخذلان والانتكاس والذُّل، وبالتالي يعيشون في تيه وحيرة، فالأمة التي لا تحافظ على الأرض المباركة تعاقب بنقيض قصدها وبجنس اختيارها من عدم الاستقرار والأمن والأمان.

وهنا توجيه عظيم وإشارة مهمة إلى أن الأمم من بعدهم إذا لم يحفظوا المقدسات ويحافظوا على المسجد الأقصى، فإن الله سيعاقبهم بتيه من نوع آخر هو تيه معنوي؛ يأخذ عدة أشكال وصور، تيه فيه الضلال والفرقة والتخبط حتى تصبح الأمة ضعيفة وفي آخر الركب.

فكل من تخلى عن مسؤولياته وتنصل عن الواجب تجاه المقدسات، سيناله حظٌ من التيه المعنوي الذي هو أخطر من التيه الحسي الذي وقع على بني إسرائيل وهو مؤقت بمدَّة سينتهي بزوال الجيل المُخذِّل بعد أربعين سنة، أما التيه المعنوي فالاستبدال مرتبط بسنن شرعية وأخرى كونية، والتيه قد يكون تيه في التصور وتيه في السلوك وتيه في العقيدة وتيه في العلم وتيه في الإصلاح وتيه في الأهداف والتخطيط وتيه في المخرجات والثمار، حتى يشمل جميع جوانب الحياة كالإدارة والاقتصاد والسياسة والتنمية والإعلام وهكذا.

فبِقَدْرِ تَشَبُّع الأمة بمظاهر التيه فإن عَدّاد المنافسة مع الأمم الأخرى يتوقف، حتى تصبح فترة التيه عبئاً ووبالاً ومنقصةً للدول والمجتمعات، لأنها فترات مشطوبة لا قيمة لها!

إن عناية سليمان -عليه السلام- وتجديده بناء بيت المقدس؛ يرسخ هذا الأصل والمفهوم، ففي ظل تسخير الجن والإنس والريح والمعجزات التي أعطيها، وأنه قاد أعظم مملكة عبر التاريخ، تكون له تلك الرعاية العمرانية والتعبدية للمسجد الأقصى، للتدليل على العلاقة المطردة بين المحافظة والعناية بالمقدسات، ورقي وازدهار ورفعة الأمة وديمومة وتمكين الملك.

بعد وفاة سليمان -عليه السلام- عمّ الفساد وضعف الدِّين، وانقسمت مملكته إلى دولتين متعاديتين، مملكة (يهودا) وعاصمتها القدس ومملكة (السامرة) وعاصمتها نابلس، حتى تسلط عليهم (نبوخذ نصر ) أو (بختنصر) سنة 586 ق.م. وسباهم بما بات يعرف بالسبي البابلي الثاني.

فُتحت القدس في عهد عمر -رضي الله عنه- وهي المدينة الوحيدة التي تسلم مفاتيحها، في الوقت الذي فتحت في عهده العديد من المدن والقرى والأقاليم والأمصار، لكن لخصوصيتها وتمكنها من وجدانهم وقيمتها في قلوبهم، كان لها عناية ورعاية منقطعة النظير، وشغف في ضمها لحياض المسلمين، لإدراكهم أن الأمة بلا أقصى لا قيمة لها!

وخاض بالوحل فقال له أبو عبيدة: "لَقَدْ صَنَعْتَ الْيَوْمَ صَنِيعًا عَظِيمًا عِنْدَ أَهْلِ الأَرْضِ"! فقال له الفاروق: "لو غيرك قالها أبا عبيدة وضربه على صدره"، ثم قال مقولته المشهورة: "يَا أَبَا عُبَيْدَةَ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ أَذَلَّ النَّاسِ وَأَقَلَّ النَّاسِ وَأَحْقَرَ النَّاسِ فَأَعَزَّكَمُ اللَّهُ بِالإِسْلَامِ فَمَهْمَا تَطْلُبُوا الْعِزَّ بِغَيْرِهِ يُذِلَّكُمُ اللَّهُ"1.

أدرك وأيقن الصحابة -رضوان الله عليهم- أن عزهم وسؤددهم ورفعتهم مرتبطة بالمحافظة على مقدساتهم لا سيما المسجد الأقصى المبارك، ولنتأمل هذا الموقف الذي أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (1/146) عن أبي ذر الغفاري –رضي الله عنه- قوله: أتاني نبي الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا نائم في مسجد المدينة فضربني برجله، وقال: "ألا أراك نائما فيه؟ قال: قلت يا نبي الله غلبتني عيني، قال: كيف تصنع إذا أخرجت منه؟ قال: قلت آتي الشام الأرض المقدسة، قال: فكيف تصنع إذا أخرجت من الشام قال: أعوذ بالله ....".

ومن أعجب العجب العجاب أن الأعداء يدركون حقيقة أن الأقصى إذا حازه المسلمون تكون لهم القوَّة والغلبة والرفعة والتمكين، فيبذلون جهدهم ويمكرون مكر الليل والنهار ويحرصون ويسعون لإبعادنا عنه، إلا أننا أضعنا البوصلة الحقيقية لاستعادة المجد والمكانة الحقيقية لها. 

ومن المواقف التاريخية التي تؤكد وتُرسِّخ مفهوماً مُهماً في نفوس المسلمين، أن الأمة بأسرها بلا مسرى الحبيب -صلى الله عليه وسلم– لا وجود لها ولا مكانة بين الأمم؛ ما سطرته كتب التاريخ من إقدام وشجاعة أمير الموصل مودود، وتحريضه الأمراء والقادة وشحذ هممهم لاسترجاع بيت المقدس.

ففي سنة (505هـ) بعث السلطان (غياث الدِّين) جيشًا كثيفًا، صحبة الأمير (مودود بن زنكي) صاحب الموصل، في جملة أمراء ونواب، منهم (سكمان القطبي)، صاحب تبريز، و(أحمد يل) صاحب مراغة، والأمير (إيلغازي) صاحب ماردين، وعلى الْجَمِيعِ الْأَمِيرُ (مَوْدُودٌ) صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، لِقِتَالِ الْفِرِنْجِ بِالشَّامِ، فَانْتَزَعُوا مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ حُصُونًا كَثِيرَةً، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً ولله الحمد، وَلَمَّا دَخَلُوا دِمَشْقَ دَخَلَ الْأَمِيرُ (مَوْدُودٌ) إِلَى جَامِعِهَا لِيُصَلِّيَ فِيهِ فَجَاءَهُ بَاطِنِيٌّ فِي زِيِّ سائل فطلب منه شيئاً فأعطاه، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهُ ضَرَبَهُ فِي فُؤَادِهِ فَمَاتَ من ساعته2.

يقول ابن الأثير عن الأمير مودود رحمه الله: "وَكَانَ خَيِّرًا، عَادِلا، كَثِيرَ الْخَيْرِ. حَدَّثَنِي وَالِدِي قَالَ: كَتَبَ مَلِكُ الْفِرِنْجِ إِلَى طُغْتِكِينَ، بَعْدَ قَتْلِ مَوْدُودٍ، كِتَابًا مِنْ فُصُولِهِ: أَنَّ أُمَّةً قَتَلَتْ عَمِيدَهَا. يَوْمَ عِيدِهَا. فِي بَيْتِ مَعْبُودِهَا. لَحَقِيقٌ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُبِيدَهَا"3.

حَرِصَ العلماء والقادة والعظماء على خَلْقِ وعيٍ وصناعة جيلٍ تعيش معه قضية الأقصى في جميع أحوالهم وظروفهم، وأن تتصدر همومهم وأولوياتهم ومسؤولياتهم علمًا وعملاً تنظيرًا وتطبيقًا.

ذكر (أبو شامة المقدسي) في كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين": "أنه جاء إلى نور الدِّين ذات يوم جماعة من العلماء فقالوا: جئنا نروي عنك بسند متصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا مسلسلاً قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبتسم، فتبسم نروه عنك. فالتفت إليهم نور الدين والهمُ يَعصر فؤاده وهو يقول: "كيف ابتسم والمسجد الأقصى راسف في قيود الذُّل والهوان، تحت سنابك خيل الأعداء"4؟!.

هذه الحقيقة راسخة في وجدان ذلك القائد الهمام، لذلك كان يقول: "إِذا كَانَ معي ألف فَارس فَلَا أُبَالِي بهم –أي الأعداء- قلوا أَو كَثُرُوا، وَوَاللَّه لا أستظل بجدار حَتَّى اخذ بثأر الإِسْلام وثأري"5.

ويذكر (أبو شامة المقدسي) البيت المقدس بوصف جميل، ما جعل القائد الهمام صلاح الدين مستنفرًا حريصًا أشد الحرص على استعادته وتحريره من الاحتلال الصليبي، فيقول: "فَمَا أَجَلَّهُ وأعظمه، وأشرفه وأفخمه، وَأَعلاهُ وَأَجْلاهُ، وأسماه وأسناه، وأيمن بركاته وأبرك ميامنه، وَأحسن حالاته وَأحلى محاسنه، وأزين مباهجه وأبهج مزاينه، وَقد أظهر الله طُوله وَطَوْله بقوله: (الَّذِي باركنا حوله) وَكم فِيهِ من الآيَات الَّتِي أَرَاهَا الله نَبيه، وَجعل مسموعنا من فضائله مرئية"، وَوصف للسُّلْطَان من خَصَائِصه ومزاياه، مَا وثق على استعادة آلائه مواثيقَه وألاياه، وَأقسم لا يبرح حَتَّى يبر قَسمُه، وَيُرْفَع بأعلاه عَلَمُه، وتخطو إِلَى زِيَارَة مَوضِع الْقدَم النَّبَوِيَّة قدمُه6، ويصغي إِلَى صرخة الصَّخْرَة، وَسَار واثقًا بِكَمَال النُّصْرَة7.

تشير مكاتبات ورسائل وبشارات العلماء الأفذاذ في وصف الفتح الصلاحي لبيت المقدس سنة 583هـ، إلى تلك المحبة المتجذرة والحرص العظيم والفرح الشديد باستعادة المسجد الأقصى إلى حياض الأمة، ما اعتبروه فتحًا عظيمًا ونقطةً فارقةً في تاريخ ومجد الأمة الإسلامية.

يقول العلامة الإمام (خليفة القاضي الفاضل الهمام، عماد الدين القرشي الأصبهاني) واصفًا تحرير المسجد الأقصى المبارك: "الْحَمدُ لله الَّذِي أنْجز لِعِبَادِهِ الصَّالِحين وعد الاسْتِخْلاف، وقهر بِأَهْل التَّوْحِيد أهل الشّرك وَالْخلاف، وَخَصَّ سُلْطَان الدِّيوَان الْعَزِيز بِهَذِهِ الْخلافَة، وَمكَّن دينه المُرتضى، وَبَدَّل الأَمْن من المخافة، وَذخر هَذَا الْفَتْح الأَسْنَى والنصر الأهنى للعصر الإمامي النَّبَوِيّ الناصري على يَد الْخَادِم؛ أخْلص أوليائه، وأخصِّ مَنِ اعتزازُه باعتزائه إِلَيْهِ وانتمائه. وَهَذَا الْفَتْح الْعَظِيم والنُّجح الْكَرِيم قد انقرض من الْمُلُوك الْمَاضِيَة، والقرون الخالية على حسرةِ تمنِّيه، وحيرة ترجيه، ووحشة الْيَأْس من تسنِّيه، وتقاصرت عَنهُ طوال الهِمَم، وتخاذلت عَن الِانْتِصَار لَهُ أَمْلَاكُ الأُمَم، فَالْحَمْد لله الَّذِي أعَاد الْقُدُس إِلَى الْقُدْس، وأعاذه من الرِّجس، وحقَّق من فَتْحه مَا كَانَ فِي النَّفس، وَبدَّل وَحْشَة الْكُفْر فِيهِ من الإِسْلَام بالأُنس، وَجعل عِزَّ يَوْمه ماحياً ذُلَّ الأمس، وَأَسْكَنَهُ الْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء بعد الْجُهَّال والضُّلال من البطرك والقَسّ، وَعَبدَة الصَّلِيب ومستقبلي الشَّمْس، وَقد أظهر الله على الْمُشْركين الضَّالّين جُنُودَه الْمُؤمنِينَ الْعَالمين، وَقطع دابر الْقَوْم الظَّالِمين، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين، فَكَأَن الله شَرَّف هَذِه الْأمة، وَقَالَ لَهُم اعزموا على اقتناء هَذِه الْفَضِيلَة الَّتِي بهَا فَضَّلكُمْ، وحقق فِي حَقهم امْتِثَال أمره فِي قَوْله الْكَرِيم: (ادخُلُوا الأَرْض المقدسة الَّتِي كتب الله لكم)"8.

إن الموقف التاريخي للسلطان (عبد الحميد الثاني) يجسد هذا المعنى ويرسخ هذا المفهوم بأن فلسطين جزءًا مهمًا في كيان الأمة لا يمكن التنازل عنه، لما طلب منه (هرتزل) بتسهيل الإجراءات والسماح لليهود بالهجرة لفلسطين، فردَّ عليه السلطان العثماني قائلاً: "لا أستطيع بيع حتى ولو شبر واحد من هذه الأرض؛ لأن هذه الأرض ليس مُلكاً لشخصي بل هي ملكٌ للدولة العثمانية، نـحن ما أخذنا هذه الأراضي إلا بسكب الدماء والقوة ولن نسلمها لأحد إلا بسكب الدماء والقوة، والله لئن قطعتم جسدي قطعة قطعة لن أتخلى عن شبرٍ واحد من فلسطين".

لقد عرض (هرتزل) على السلطان (عبد الحميد) مناصرة اليهود له، وسداد ديون الدولة العثمانية مقابل السماح لليهود بإقامة دولة خاصة بهم في فلسطين، فأبى كل الإباء، بل وعمل على منع توطين اليهود في تلك الديار، فما كان من اليهود إلا أن ثلوا عرشه، وأزالوا ملكه، وحققوا مرادهم الذي خططوا له9.

تبقى قضية الأقصى المبارك قضية أمة بأكملها، وهي عنوان ولب ومحور الصراع بين الحق والباطل إلى قيام الساعة، يقول عليه الصلاة والسلام: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال"10.

وأخيرًا: هذه شذرات ووقفات وإشارات تقودنا لحقيقةٍ مهمةٍ، يُراد تغييبها وطمسها واختزالها؛ وهي أن الأمة لن تقوم لها قائمة ولن تستعيد مكانتها وقوتها ورفعتها وسؤددها ورقيها ونهضتها وتقدمها وازدهارها، إلا إذا استعادت المقدسات وطهرتها من دنس الغاصبين وحافظت عليها وعملت على رعايتها وعمرانها حسيًا ومعنويًا.

 

سلسلة بيت المقدس للدراسات- العدد 27

ذو القعدة 1441هـ - يوليو 2020م

----------

الهوامش:

1- أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/47)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/100).

2- البداية والنهاية (12/213).

3- الكامل في التاريخ (8/596).

4- تذكير النفس بحديث القدس، د. سيد العفاني (1/281).

5- الروضتين في أخبار الدولتين، لأبي شامة المقدسي (1/398).

6- لا يجوز تتبع آثار النبي عليه الصلاة والسلام وتعظيمها وقصدها بالزيارة فيما لو ثبتت، فكيف والحال أنه لا دليل على تحديد بقعة بعينها أنه صلى الله عليه وسلم عرج به منها.

7- الروضتين في أخبار الدولتين (3/338).

8- الروضتين في أخبار الدولتين، لأبي شامة المقدسي (3/346-347).

9- وليتبروا ما علوا تتبيرا، للشيخ عمر الأشقر، ص13.

10- صحيح الجامع برقم (2526).

أيمن الشعبان

داعية إسلامي، ومدير جمعية بيت المقدس، وخطيب واعظ في إدارة الأوقاف السنية بمملكة البحرين.

  • 7
  • 3
  • 3,691

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً