غربة الإسلام
الغرباء قسمان: أحدهما من يصلح نفسه عند فساد الناس والثاني من يصلح ما أفسد الناس من السنة وهو أعلى القسمين وهو أفضلهما.
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
خرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء» وخرجه الإمام أحمد وابن ماجه من حديث ابن مسعود بزيادة في آخره وهي قيل يا رسول الله: ومن الغرباء؟ قال: «النزاع من القبائل» وخرجه أبو بكر الآجري وعنده قيل ومن هم يا رسول الله؟ قال: «الذين يصلحون إذا فسد الناس» وخرجه غيره وعنده قال: «الذين يفرون بدينهم من الفتن» وخرجه الترمذي من حديث كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الدين بدأ غريبا وسيرجع غريبا فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي» وأخرجه الطبراني من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي حديثه قيل ومن هم يا رسول الله؟ قال: «الذين يصلحون حين فساد الناس» وخرجه أيضًا من حديث شريك بن سعد بنحوه، وخرجه الإمام أحمد من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي حديثه: «فطوبى يومئذ للغرباء إذا فسد الناس» وخرج الإمام أحمد والطبراني من حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «طوبى للغرباء» قلنا: ومن الغرباء؟ قال: «قوم قليل في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم» وروي عن عبد الله بن عمر مرفوعًا، وموقوفًا في هذا الحديث قيل ومن الغرباء؟ قال: «الفرارون بدينهم يبعثهم الله تعالى مع عيسى بن مريم عليه السلام».
وكان المسلمون إذ ذاك مستضعفين يشردون كل مشرد ويهربون بدينهم إلى البلاد النائية كما هاجروا إلى الحبشة مرتين ثم هاجروا إلى المدينة وكان منهم من يعذب في الله ومنهم من يقتل، فكان الداخلون في الإسلام حينئذ غرباء، ثم ظهر الإسلام بعد الهجرة إلى المدينة وعز، وصار أهله ظاهرين كل الظهور، ودخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجا، وأكمل الله لهم الدين وأتم عليهم النعمة، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، وأهل الإسلام على غاية من الاستقامة في دينهم، وهم متعاضدون متناصرون وكانوا على ذلك في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
ثم عمل الشيطان مكائده على المسلمين وألقى بأسهم بينهم وأفشى فيهم فتنة الشبهات والشهوات ولم تزل هاتان الفتنتان تتزايدان شيئا فشيئا حتى استحكمت مكيدة الشيطان، وأطاعه أكثر الخلق فمنهم من دخل في طاعته في فتنة الشبهات، ومنهم من دخل في فتنة الشهوات، ومنهم من جمع بينهما وكل ذلك مما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه فأما فتنة الشبهات فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أن أمته ستفترق على أزيد من سبعين فرقة على اختلاف الروايات في عدد الزيادات على السبعين وأن جميع تلك الفرق في النار إلا فرقة واحدة، وهي ما كانت على ما هو عليه وأصحابه صلى الله عليه وسلم وأما فتنة الشهوات ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كيف أنت إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم» قال عبد الرحمن بن عوف نقول كما أمرنا الله قال: «أو غير ذلك تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون».
وفي صحيح البخاري عن عمرو بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم» وفي الصحيحين من حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه أيضًا ولما فتحت كنوز كسرى على عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكى فقال: إن هذا لم يفتح على قوم قط إلا جعل الله بأسهم بينهم أو كما قال،و كان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى على أمته هاتين الفتنتين كما في مسند الإمام أحمد عن أبي برزة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أخشى عليكم الشهوات التي في بطونكم وفروجكم ومضلات الفتن».
وفي رواية «ومضلات الهوى» فلما دخل أكثر الناس في هاتين الفتنتين أو إحداهما أصبحوا متقاطعين متباغضين بعد أن كانوا إخوانا متحابين متواصلين، فإن فتنة الشهوات عمت غالب الخلق ففتنوا بالدنيا وزهوتها وصارت غاية قصدهم، لها يطلبون وبها يرضون ولها يغضبون ولها يوالون وعليها يعادون فقطعوا لذلك أرحامهم وسفكوا دماءهم وارتكبوا معاصي الله بسبب ذلك، وأما فتنة الشبهات والأهواء المضلة فبسببها تفرق أهل القبلة وصاروا شيعا وكفر بعضهم بعضا، وأصبحوا أعداء وفرقا وأحزابا بعد أن كانوا إخوانا قلوبهم على قلب رجل واحد فلم ينج من هذه الفرق كلها إلا الفرقة الواحدة الناجية وهم المذكورون في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» رواه البخاري ومسلم.
وهم في آخر الزمان الغرباء المذكورون في هذه الأحاديث الذين يصلحون إذا فسد الناس، وهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من السنة، وهم الذين يفرون بدينهم من الفتن، وهم النزاع من القبائل لأنهم قلوا فلا يوجد في كل قبيلة منهم إلا الواحد والاثنان وقد لا يوجد في بعض القبائل منهم أحد كما كان الداخلون في الإسلام في أول الأمر كذلك.
وبهذا فسر الأئمة هذا الحديث، ولهذا جاء في أحاديث متعددة مدح المتمسك بدينه في آخر الزمان وأنه كالقابض على الجمر وأن للعامل منهم أجر خمسين ممن قبلهم لأنهم لا يجدون أعوانا في الخير. وهؤلاء الغرباء قسمان: أحدهما من يصلح نفسه عند فساد الناس والثاني من يصلح ما أفسد الناس من السنة وهو أعلى القسمين وهو أفضلهما.
والله الهادي إلى سواء السبيل وصلى الله على محمد[1].
ــــــــــــــــــــــــ
[1] المصدر بهجة الناظرين فيما يصلح الدنيا والدين للشيخ عبد الله ن جار الله آل جار الله ـ رحمه الله ـ ص 448.