لبنان نموذجا..

منذ 2020-08-12

قبل مغادرة سلطات الاحتلال الفرنسية قامت بفرض دستور يترك لها الباب مفتوحا على مصراعيه: إذ نص ذلك الدستور على أن يترأس الدولة رئيسا مسيحيا وأن يكون رئيس الوزراء مسلما.

ما من إنسان إلا وتابع انفجار ميناء بيروت بصورة أو بأخرى. ذلك الانفجار الناسف لكثير من الأقنعة والذي دوّى يوم الثلثاء 4/8/ 2020 بنصف طاقة قنبلة ذرية، وقبل الاحتفال بالذكري 75 لضرب هيروشيما بيومين. إلا أن توالي الأحداث يشير بوضوح إلى أن هناك يقينا أيادي خفية وخيوط متداخلة وأغراض بعينها تدير اللعبة.. فأول تصريح صدر ليختفي ولا يتكرر كان من جانب الصهاينة المغتصبين لأرض فلسطين، ينفون فيه أية صلة لهم بالحادث. كما أعلن حسن نصر الله نفي أية علاقة لحزبه بهذا التفجير..

ومن الغريب أن نطالع وسط الهتافات وتدفق الجرحى، وتراكم الموتى، ورفع الأشلاء والأنقاض بينما الدماء تسيل من الحيّ والميت، لشعب يعاني من أكثر من مشكلة، خاصة وان 45 % من تعداده يعيشون تحت حزام الفقر، فالمظاهرات ضد الحكم الفاسد شبه يومية، ومؤامرات العلن والخفاء لا تتوقف منذ عقود.. وعلي الفور ارتفعت الأصوات، منها من تردد: "الشعيب يريد تغيير النظام"، وغيرها تطالب بالتحقيق في عدة مجالات على وجه السرعة ومنها، أو خاصة: "إجراء تحقيق دولي".. وعلي الرغم من وضوح الرؤية، وأن هناك يقينا فعل فاعل له سلطان علي الصعيد الدولي كما ان له نفوذ وعدة مداخل في لبنان، إلا أن الرئيس ميشيل عون قد فاجأ الجميع، ومن يدركون خبايا المسرح، برفضه القاطع للتحقيق الدولي!! وذلك في تصريح له مع جريدة "لوريان لچور" الصادرة في بيروت بالفرنسية. وهو ما كان ماكرون قد اقره.. أما عون فقد برر رفضه للتحقيق الدولي بزعم "أنه سوف يذيب الحقيقة"!

وقد حضر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم الخميس 6/8، قبل مرور ثمان وأربعون ساعة على الحدث المدوّي. وهنا يتفجر مشهدا له مغزاه ومعانيه، بشحنة عاطفية غير مسبوقة: لبنانية ترتمي علي صدر الرئيس الفرنسي لترجوه إنقاذ لبنان بإعادة احتلاله!! وذلك بعد أن صاحت باكية شاكية بأعلى صوت لها، غير عابئة بكرونا ولا حتي بالأمن الذي راح يتفرج على ما يدور وكأنه يحرسها لاستكمال المشهد، بينما عدسات المصورين تقوم بتصوير ما يحدث..

وماكرون ليس بأول رئيس فرنسي يزور لبنان. ففي أكتوبر 1983 سافر فرانسوا ميتران لتحية ذكري رجال المظلات الذين قتلوا في إحدى المعارك؛ وفي فبراير 2005 ذهب جاك شيراك لحضور جناز رفيق الحريري، وكان الرئيس الوحيد الذي حضر.. ولو تأملنا بعض التواريخ في عجالة لربما أدركنا شيئا ما:
لقد تم إنشاء "لبنان" سنة 1520 كحماية فرنسية، وأولي العلاقات الدولية تم نسجها أيام ملك فرنسا فرانسوا الأول: الذي تسلم أو انتزع آنذاك من السلطان التركي مسؤولية حماية مسيحيو الشرق. وازدادت الروابط سنة 1920 عندما أصبح لبنان حماية فرنسية. وسنة 1943 حصل لبنان على استقلاله، إلا أن الوجود الفرنسي ظل قويا خاصة من خلال التعليم وما يبثه من ترسيخ. غير أن الاستقلال لم يمثل أي شرخ في العلاقات بين البلدين. فقبل مغادرتها، قامت سلطات الاحتلال الفرنسية بفرض دستور يترك لها الباب مفتوحا على مصراعيه: إذ نص ذلك الدستور على أن يترأس الدولة رئيسا مسيحيا وأن يكون رئيس الوزراء مسلما.

وقد يبدو الأمر طبيعيا في دولة متعددة الأطياف والعقائد والملل السياسية والدينية. لكن، لو علمنا أن المسلمين يمثلون 67,5 % من التعداد وأن الباقي منه يضم كل مختلف الطوائف الأخرى لأدركنا اللعبة الاستعمارية من جهة، وأدركنا الدور الذي تقوم به الأقليات المسيحية لصالح الغرب الصليبي وصالحها.. وهنا أيضا ندرك معني أن يتقدم ست وثلاثون ألفا من اللبنانيين في هذه الأيام تحديدا بينما الموت لا يزال يحصد من يحصده، فور الانفجار المدمر، ويوقعون علي عريضة تطالب بعودة الاحتلال الفرنسي!

وما نخرج به من هذا العرض الشديد الإيجاز هو: أهمية الدور الذي تقوم به الأقليات المسيحية في البلدان المسلمة بالشرق الأوسط من ناحية، ومن ناحية أخري الدور التدميري الذي يقوم به الغرب لاقتلاع الإسلام بفضل مساعدتهم. فقرار تنصير العالم صادر عن مجمع الفاتيكان الثاني وكل بابا ترأس الفاتيكان من بعد سنة 1965 يؤكد "أنه قرار لا نقاش فيه ولا رجعة فيه". وهو ما يطرح على المسيحيين في جميع البلدان المسلمة قضية الولاء: هل يكون ولاءهم للفاتيكان من خلال كنيستهم، أم يكون الولاء للبلد الذي ولدوا به ويعيشون فيه كمواطنين أمناء؟

وهو الوضع الذي ينقلنا الي قضية اخري، أو إن شئنا التحديد: الي مصيبة أخري هي في الطريق وتتم تحت نفس المسمى الشهير: "حماية مسيحيو الشرق الأوسط". فمن أهم الكتب التي صدرت في إبريل سنة 2016، كتاب بعنوان "مسيحيو الشرق"، وعنوانه الفرعي: "لنقاوم على أرضنا"، بهذا الوضوح وبهذه القحة فالكاتب قس مسيحي وما يترأسه مؤسسة تمثل جزء من ترتيب اقتلاع الإسلام. فالكتاب بقلم مونسنيور بسكال جولنيش، رئيس مؤسسة "عمل الشرق" بفرنسا. ونطالع على الغلاف الخلفي توضيحا يقول: أن "مؤسسة "عمل الشرق" مهمتها مساعدة الكنائس التي تقف في خط الدفاع الأول لإقامة جسور بينها وبين فرنسا، للعمل من خلال الصحة والعمل الاجتماعي والثقافة ونقل العقيدة.. وعبارة "خط الدفاع الأول هي عبارة حربية دارجة. موضحا أن مستقبل هذه المنطقة المتآكلة لن يتم بدون مسيحيّيها".. وحين يصل ما يستوجب التلميح الي مثل هذا الوضوح، فذلك يشير الي مدي تمكنهم من اللعبة.

وقبل تناول محتوى هذا الكتاب، ألفت النظر الي عبارة شبيهة تناولها الغرب الصليبي أيام تصديه للمد الإسلام والإمبراطورية العثمانية. وقد كانت العبارة التي يستخدمونها فيما بينهم وفي مراسلاتهم هي "مسألة الشرق"، حتى أتوا عليها بتنصيب كمال أتاتورك واقتلاع اللغة العربية وغيرها، والباقي معروف.. والآن تتم إعادة نفس المخطط وقد تضافر الغرب الصليبي لتنفيذ النظام العالمي الجديد وإعادة تنظيم الشرق الأوسط بفضل الأقليات المسيحية التي يحمونها ويفرضون عليها عدم الولاء للأوطان التي يعيشون فيها.

وأول ما يوضحه الكاتب: خوفهم من انتصار الإسلام وأن يمتد الي شطآنهم مرة أخري خاصة في وقت تداعا فيه وجود المسيحية، واعتمادا على عبارة جورج بوش الابن "ان هذه الحرب الصليبية ستكون طويلة المدي"! ولو تذكرنا كم البلاد المسلمة التي تم تدميرها بعد ذلك التاريخ المدعو 9/11، لأدركنا أننا في قلب مخطط يتم تنفيذه بإصرار في خط متواصل يمتد بين بلدان الشرق الأوسط لإعادة ترسيمه إن لم يكن اقتلاعه، وكل ذلك كلام معلن وليس بخفيّ على أحد.. ويؤكد جولنيش على ان أهمية بقاء مسيحيو الشرق في أماكنهم يرجع الي أمرين: إن وجودهم في الغرب يغيّر من تشكيل وتكوين بلدانهم حضاريا، فهم قادمون الشرق المتخلف، كما أن وجودهم حيث هم "حماية لنقاء حضارة الغرب"، وأنهم هناك "بعيدا عنا هم في مكان نشأة المسيحية أي في مكانهم". ولا يسع المجال لتناول كل ما في الكتاب من مغالطات لتمرير ما به من مآخذ صريحة مغرضة. لكن الرؤية شديدة الوضوح، بل معلنة بصريح العبارة، ويتم تنفيذها خطوة خطوة والمسلمون نيام.

  • 6
  • 1
  • 2,056

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً