الرسول المربي والأطفال

منذ 2020-11-01

الطفل إنسان بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، ولكن، إنسان صغير! فيه كل ما في الإنسان الكبير من خير وشر، واستعداد للصلاح والسوء، فيه دوافع إيجابيه، وفيه دوافع سلبية، بعضها ظاهر وبعضها كامن، فليس هو شريراً، ولا هو خيِّراً، بل هو يجمع النقيضين، ويحوي الاستعدادين،

الرسول المربي والأطفال

الأطفال هم بهجةُ الحياة وزينتُها، وجمالُها وفتنتها، وهم تلك البراعم الناضرة التي تطل على الحياة لتعلن استمرارها، والزهرات المتفتحة التي تستقبل الوجود لتشِيع فيه الأمل والسعادة والحبور، فهم جيل الغد، وأمل الأمة، وعُدّةُ المستقبل وعماد النهضة، ولذلك كانوا محط اهتمام المربين، وموضع عناية الموجهين والمصلحين.


وقد اختلف المفكرون قديماً وحديثاً في طبيعة الطفل ونفسيته؛ فذهب بعضهم إلى أنه خيِّرٌ بطبعه، بريء بفطرته، بعيد عن كل نزعة شريرة، أو ميل عدواني، فهو مَضربُ المثل في البراءة والسذاجة والطيبة، ولذلك قال شاعرهم:

وَبَرَاءَةُ الأَطْفَالِ فِي عَيْنَيْهِ


وفسّر هؤلاء ما يصدر عنه من تصرفات مخالفة لذلك أنها من تأثير البيئةِ؛ بيئةِ الكبار حولَه، من الأسرة والمدرسة والمجتمع.


وذهب آخرون إلى عكس ذلك، فادعوا أن الطفل شرير بطبعه، عدواني بفطرته، لا هم له إلا تحقيق رغباته، والحصول على حاجاته، وقضاء لذَّاته، فهو يصرف وقته في اللهو والعبث، ولا يبالي من أجل ذلك بتحطيم كل ثمين، وتدمير كل نفيس، وصديقُه من يجيبه إلى أهوائه، ويسكت عن شذوذه واعتداءاته، ومن يقف أمامها أو ينصحه أو يزجره فهو عدو له لدود، ولو كان أباه أو أمه أو أخاه أو صديقه!!


والحق كما هي العادة في غالب الأمور التي يختلف عليها الناس - هي بين الطرفين أو المذهبين، الحق هو الوسط بين أطراف الغلو، وفي الاعتدال بين الإفراط والتفريط، ففي كل من المذاهب شيء من الحق وشيء من الباطل، والغالب أن يكون الحق متفرقاً ومجموعاً لدى جميع الأطراف.


وفي موضوعنا هذا، فالصواب أن الطفل إنسان بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، ولكن، إنسان صغير! فيه كل ما في الإنسان الكبير من خير وشر، واستعداد للصلاح والسوء، فيه دوافع إيجابيه، وفيه دوافع سلبية، بعضها ظاهر وبعضها كامن، فليس هو شريراً، ولا هو خيِّراً، بل هو يجمع النقيضين، ويحوي الاستعدادين، ونفسه كنفوس الكبار التي قال الله تعالى فيها:  {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7 - 8]، وقال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10].


ويُخطِئُ من يظن أنه لا يمكن إصلاحُه أو إفسادُه، وتغييرُ سلوكه، كما يخطئ من يعتقد أنه يقبل أي تأثير، وأنه كالعجينة المرنة التي يشكلها المربي كما يشاء، كما ذهب إلى ذلك بعض المربين، كالإمام الغزالي وغيره، فهذا قول خاطئ!


إن الطفل إنسان فيه من التعقيد والتركيب واختلاف الميول والاستعدادات ما في الكبار، ولكن بشكل مصغر، وله إراداته الذاتية التي يستقل بها، هذه الإرادة وهذه النفسية والطباع والميول التي ورثها من أبويه وأصولهما، كما أن هناك مساحة معينة من نفسيتِه وميولِه وإرادتِه وطباعِه وَصَلَتْهُ من بيئته الخاصة والعامة التي أحاطت به..


فهو نتاج هذين العاملين الكبيرين: الوراثة والبيئة، خلافاً لكل من المدرستين الفكريتين الكبيرتين، والمذهبين الشائعين: مذهب الوراثة الذي تدعمه وتمثله الفلسفة الرأسمالية الديمقراطية، ومذهب البيئة الذي تدعمه وتمثله الفلسفة الشيوعية الاشتراكية، وكل منهما مصيب في جانب ومبطل في جانب آخر، والحق وسط بينهما كما تقدم، وهو الذي يقوله الإسلام العظيم.


فالوراثة لها تأثير أي تأثير على شخصية إنسان، كما أن للبيئة والمجتمع تأثيراً كبيراً لا يقل عن تأثير الوراثة؛ به تقوم التربيةُ بتعديل الطباع وإصلاح السلوك، ويَنْفُذُ المربون والمصلحون لتوجيه الإنسان وإصلاحه، ومع ذلك فيبقى للإنسان نفسه تقرير طريقه واختيار سبيله.


فهذا ولد نبي الله نوح عليه السلام الذي عاش برعاية والده النبي الكريم من أولي العزم، الذي قدم له أحسن توجيه وأفضل نصح، بأحسن أسلوب وأفضل طريقة، مع الحرص الشديد، والجهد الكبير، والإقناع القائم على أقوى الأدلة والبينات، ومع ذلك كله أعرض الولد عن جميع ذلك، وآثر اتباع طريق الكفر والضلال، وأبى الركوب مع أبيه والمؤمنين في السفينة، فغرق مع الغارقين.


وقُلْ مثلَ ذلك في عمّ النبي صلى الله عليه وسلم أبي طالب، الذي حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هدايته، وعمل حثيثاً أن يدفعه إلى الإيمان، فأبى ذلك كله، وهلك وخسر الخسران المبين.


فدور الأنبياء والمصلحين والوالدَين والمربين إنما هو في الدعوة والبيان والنصح والإقناع، والوعظ والتذكير، بالأسلوب الحسن، واللطف والحكمة، كما قال الله تعالى للنبي المصطفى المختار عليه الصلاة والسلام: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21 - 22]، وقال: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:40].


وليس معنى ذلك أن دور البيت والمدرسة والمؤسسات التربوية تافه وضئيل، كلا ثم كلا، بل هو عظيم وكبير، وتأثيره خطير، جد خطير، ويكفي في بيانه قوله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ؛ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» } [1].


ومن هنا فعلى المربين وعلى المؤسسات التربويةِ التخطيطُ والعمل الجاد بإخلاص؛ لتوجيه الأجيال، وتربيتها على الفضائل والإيمان والتقوى والبر والإحسان، وإرشادها - بأفضل الأساليب وأرقاها - لسلوك طريق الاستقامة، والتخلص من كل خلق ذميم وسلوك منحرف، وللتحلي بكل خلق فاضل وسلوك صحيح.


ولنا في رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم الأسوةُ الحسنة، والقدوة المثلى، فهو المربي الكامل الموفق المسدَّدُ، كما وصفه ربه تبارك وتعالى فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، ويكفيه فخراً أنه رَبَّى أفضل جيل رأته البشرية في تاريخها الطويل، وشهد بذلك الخالق العظيم فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].


والحديث عن التربية النبوية طويل طويل، ولكن حسبنا في هذه العجالة أن نستعرض طرفاً من تربيته صلى الله عليه وسلم للأطفال وعنايتِه بهم..


لقد كان عليه الصلاة والسلام يهتم بالأطفال، ويرعاهم، ويقدر نفسياتهم وحاجاتهم، ويحوطهم بالمحبة والحنان، ويشجعهم على كريم الفعال وحميد الخصال، ويتجاوز عن كثير من أخطائهم، ويُشركُهم في مجالسه مع الكبار، فيحضرون الجمع والجماعات، ويستمعون الخطب والتوجيهات، ولا يعزلهم أو يحتقرهم، أو يتجاهلهم وينساهم!!


ولنستمعْ إلى شهادة الأطفال أنفسهم في معاملته صلى الله عليه وسلم لهم..


فهذا الصحابي الصغير النجيب أنس بن مالك، خادم النبي صلى الله عليه وسلم من حين هجرته إلى المدينة إلى وفاته صلى الله عليه وسلم يقول:

(خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ! وَلاَ: لِمَ صَنَعْتَ؟ وَلاَ: أَلاَ صَنَعْتَ؟ وَلاَ عَابَ عَلَيَّ شَيْئاً قَطُّ، وَأَنَا غُلاَمٌ، وَلَيْسَ أَمْرِي كَمَا يَشْتَهِي صَاحِبِي أَنْ أَكُونَ عَلَيْهِ)[2].


وقال أيضاً: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقاً، فَأَرْسَلَنِي يَوْماً لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لاَ أَذْهَبُ! وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ، فَإِذَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: «يَا أُنَيْسُ! أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ»؟؛ قُلْتُ: نَعَمْ! أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِِ)[3].


وقال أنس: (كَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو عُمَيْرٍ، كَانَ فَطِيماً، فَكَانَ إِذَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَآهُ قَالَ: «أَبَا عُمَيْرٍ! مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ»؟[4].


وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عُصْفُورٌ يَلْعَبُ بِهِ فِي قَفَصٍ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرّ بِهِ بَيْنَ الحِينِ وَالآخَرِ، وَيُمَازِحُهُ، وَيَسْأَلُهُ عَنْ عُصْفُورِهِ، فَلَمَّا مَاتَ العُصْفُورُ عَزَّاهُ بِهِ وَوَاسَاهُ).


وعن عائشة رضي الله عنها: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ، فَيُبَرِّكُ عَلَيْهِمْ، وَيُحَنِّكُهُمْ)[5].


والتبريك: الدعاء لهم بالبركة، والتحنيك: أن يمضغ أبو المولود أو الرجل الصالح تمرةً أو نحوها، ثم يضعها في فم الصبي ليمصها، وهذه سنة إسلامية عقب ولادة المولود.


وقد روت رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حنَّك عبد الله بن الزبير، قالت أسماءُ: (ثُمَّ مَسَحَهُ، وَصَلَى عَلَيْهِ - أي: دعا له - وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللهِ، ثُمَّ جَاءَهُ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانٍ لِيُبَايِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُ مُقْبِلاً إِلَيْهِ، وَبَايَعَهُ)[6].


ومن لطف النبي صلى الله عليه وسلم بالأطفال خاصة، وبالكبار عامة، وحرصاً على مشاعرهم؛ كان يغيّر الأسماء القبيحة التي سُمُّوا بها، ويسميهم بأسماء حسنة بدلاً منها، فمن ذلك: أنه كانت لعُمرَ ابنةٌ اسمها "عاصية"، فسماها صلى الله عليه وسلم "جميلة"[7]، وسمّى جدَّ سعيد بن المسيب بن حزن، "سهلاً" بدلاً من "حَزْنٍ"، وإحدى صديقاتِ خديجةَ أمِّ المؤمنين "جَثَّامَة المُزَنِيَّةَ"، فجعله "حَسَّانة المزنية"، بل تعدى ذلك إلى الجمادات، فمر صلى الله عليه وسلم على قرية اسمها "عَفِرة"، فسماها "خَضِرة"، وهكذا[8]..


وقال أنس: (مَا رَأيت أحداً أرحم من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعيال - أي: الأطفال - كان إِبْرَاهِيمُ - ولدُه، صلى الله عليه وسلم، من ماريَّةَ القِبطية - مُسْتَرْضِعاً لَهُ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ - أي: في قرية قرب المدينة - فَكَانَ يَنْطَلِقُ، وَنَحْنُ معه، فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ، وَإِنَّهُ لَيُدَّخَنُ، وَكَانَ ظِئْرُهُ - أي: زوجُ مرضعة إبراهيم - قَيْناً - أي: حدّاداً - فَيَأْخُذُهُ - أي: يأخذُ إبراهيم - فَيُقَبِّلُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ).


وفي رواية: (أَنَّهُ سَمَّاهُ بِاسْمِ أَبِيهِ نبي الله إبراهيم ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى أُمِّ سَيْفٍ، امْرَأَةِ قَيْنٍ يُقَالُ لَهُ: أبو سَيْفٍ، فَانْطَلَقَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِيهِ، وَاتَّبَعْتُهُ، فَانْتَهَيْنَا إلى أَبِي سَيْفٍ وَهُوَ يَنْفُخُ بِكِيرِهِ، قَدِ امْتَلأَ الْبَيْتُ دُخَاناً، فَأَسْرَعْتُ الْمَشْيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا أَبَا سَيْفٍ! أَمْسِكْ! جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ!! فَأَمْسَكَ، فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبِيِّ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ).


قال أَنَسٌ: (لَقَدْ رَأَيْتُهُ وَهُوَ يَكِيدُ بِنَفْسِهِ أي: يُحتَضَر بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «تَدْمَعُ الْعَيْنُ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَاللهِ يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ» [9].


ومن ذلك قولُه صلوات الله وسلامه عليه: (إِنِّي أَدْخُلُ في الصَّلاَةِ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطِيلَهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي - أي: أخفِّفها وأعجل فيها - مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ)، وفي رواية: (كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ على أُمِّهِ)، و(مَخَافَةَ أَنْ تُفْتَنَ أُمُّهُ)... في رواية أخرى[10].


وقال عليه الصلاة والسلام عن الحسن والحسين: «هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا» [11].


ولم تقتصر رعاية النبي صلى الله عليه وسلم للأطفال على إظهار عواطفه نحوهم والاهتمام بهم؛ بل كانت تتعدى ذلك إلى تعليمهم، وتربيتهم، والدعاء لهم..

 

فقد أردفَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عبدَ الله ابن عباس رضي الله عنهما يوماً خلفَه، وقال له: «يَا غُلاَمُ! إِنِّي مُعَلِّمُكُ كَلِمَاتٍ، فَاحْفَظْهُنَّ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ لِمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ لَمْ يَضُرُّوكَ إلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» [12].


ونتيجة لاحتفائه صلى الله عليه وسلم بالأطفالِ وتقريبه إياهم في مجالسه، واهتمامه بتعليمهم؛ انطلقوا يتسابقون إلى فعل الخير..

فهذا ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي - وهي مَيْمُونَةَ أم المؤمنين - فَقَامَ النَّبِيُّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَقُمْتُ أُصَلِّي مَعَهُ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِرَأْسِي فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ).


وفي رواية قال: (بِتُّ في بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ النَّبِيٌّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهَا في لَيْلَتِهَا، فَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ ثُمَّ قَامَ، ثُمَّ قَالَ: نَامَ الْغُلَيِّمُ؟ ثُمَّ قَامَ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إلى الصَّلاةِ)[13].


وتأمل معي هذا المنظرَ المؤثِّرَ، الذي يرويه ابن عباس أيضاً فيقول: (ضَمَّنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَدْرِهِ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ»، وفي روايةٍ: (الكِتَابَ)، وفي أخرى: «اللَّهُمَّ فَقِّهُّ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» [14]. أي: تفسير القرآن، فأجاب الله تعالى دعاءه، فكان كما وُصِفَ؛ حبرَ الأمة، وبحر العلم، وترجمان القرآن.


وكان يَحضُرُ في مجالسه صلوات الله وسلامه عليه الأطفالُ، ويأكلون معه، فيعلمهم ويؤدبهم..

 

قال عمرُ بن أبي سلمة[15]، ربيبُ النبي صلى الله عليه وسلم: (كُنْتُ غُلاماً فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا غُلامُ! سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ». قَالَ: فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ).

 

وكان صلوات الله وسلامه عليه يشجع الأطفال على حفظ القرآن، والتفقه في الدين..

 

فها هو يختار الطفل عمرَو بنَ سلمة الجَرْمي، وهو غلامٌ صغيرٌ؛ إماماً على قومه، مع أنه أصغرُهم سنّاً، وذلك لأنه أكثرهم قرآناً، قال عَمرو بن سلمة في هذا:

(كُنّا عَلَى حَاضِرٍ، فَكَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا رَاجِعِينَ من عِنْدِ رسول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَدْنُو مِنْهُم، فَأَسْمَعُ، حَتّى حَفِظْتُ قُرْآناً، وَكَانَ النَّاسُ يَنْتَظِرُونَ بِإِسْلاَمِهِمْ فَتْحَ مَكَّةَ، فلما فُتِحَتْ جَعَلَ الرَّجُلُ يَأْتِيهِ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَا وَافِدُ بَنِي فُلاَنٍ، وَجِئْتُكَ بِإِسْلاَمِهِمْ.. فَانْطَلَقَ أَبِي بِإِسْلاَمِ قَوْمِهِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدِّمُوا أَكْثَرَكُمْ قُرْآناً"، قال: فَنَظَرُوا، وَأَنَا لَعَلَى حِوَاءٍ عَظِيمٍ - أي: بيوت مجتمعة من الناس على ماء - فَمَا وَجَدُوا فِيهِمْ أَحَداً أَكْثَرَ قُرْآناً مِنِّي، فَقَدَّمُونِي، وَأَنَا غُلاَمٌ..

 

فَصَلَّيْتُ بِهِمْ وَعَلَيَّ بُرْدَةٌ، وَكُنْتُ إِذَا رَكَعْتُ أَوْ سَجَدْتُ قَلَصَتْ فَتَبْدُوَ عَوْرَتِي! فَلَمَّا صَلَّيْنَا، تَقُولُ عَجُوزٌ لَنَا دَهْرِيَّةٌ - أي مُسِنَّة -: غَطُّوا عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ!! قَالَ: فَقَطَعُوا لي قَمِيصاً، فَذَكَرَ أَنَّهُ فَرِحَ بِهِ فَرَحاً شَدِيداً)[16].


وقد اقتدى الصحابةُ رضوان الله عليهم بنبيهم صلوات الله وسلامه عليه في هذه الرعاية والاهتمام بالأطفال..

 

فهذا الصديق أبو بكر رضي الله عنه يحمل الحسنَ بن علي وهو يقول:

بَأَبِي شَبِيهٌ بِالنَّبِيّ لَيْسَ شَبِيهاً بِعَلِيّ

وعلي يضحك[17].


ومن ذلك ما ذكره عبدُ الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

«إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مِثْلُ الْمُسْلِمِ، فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ؟» فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ).

وفي رواية: (وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لا يَتَكَلَّمَانِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ).

 

وفي رواية: (فَجَعَلْتُ أُرِيدُ أَنْ أَقُولَهَا، فإذا أَسْنَانُ الْقَوْمِ - أي: كبارهم وشيوخهم - فَأَهَابُ، فَلَمَّا لَمْ يَقُولُوا شَيْئاً؛ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (هِيَ النَّخْلَةُ!).

 

فَلَمَّا قُمْنَا قُلْتُ لِعُمَرَ: يا أَبَتَاهُ! وَاللهِ لَقَدْ كَانَ وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَكَلَّمَ؟ قَالَ: لَمْ أَرَكُمْ تَكَلَّمُونَ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ أَوْ أَقُولَ شَيْئاً. قَالَ عُمَرُ: لأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِليَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا)[18].


ففي هذا الحديث نرى النبي صلى الله عليه وسلم يعلمُ أصحابه بعض المعلومات بطريقة المسابقات العلمية، التي تحثهم على التفكير، يشاركُهم أطفالُهم، كما ترى في هذا الحديث؛ إذ يسألُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ويعرف ابنُ عمرَ الجوابَ، ويخجل من الكلام لرؤيته الكبار لا يجيبون، وتفوتُ الفرصة، ويخبر أباه بما وقع في نفسه، فما يكون من أبيه عمر إلا أن يشجعه على المشاركة، ويدفعه إلى الجرأة الأدبية، والانطلاق في الحديث، فيفخر به وبسرعة بديهته، ويعبر له بأن لو فعل هذا لكان عنده أفضل من الأموال والمتاع وحظوظ الدنيا.


هذا غيض من فيض من أخباره عليه أفضل الصلاة والتسليم مع الأطفال، وهو يبين بجلاء مكانتَهم عنده، وفي تعاليم الإسلام، ووجوب حُسن رعايتهم والحفاوة بهم، والحرص على أن يكتسبوا العلم النافع والعمل الصالح، ليكونوا صالحين مصلِحين، وبررةً مُتَّقين، وطلاب علم عاملين.


فأين هذا من سلوك بعض الجهال والقُساة المنفِّرين، الذين إذا رأى أحدهم طفلاً في المسجد طردَه! وأنكر على أهله وذويه دخولَه المسجدَ؛ محتجاً بحديث: «جَنِّبُوا مَساجِدَكُم صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ» [19]!! جاهلاً أنه حديث ساقط، وسنده ضعيف جدّاً، فيه ثلاثة علل:

الحارث بن نبهان، قال الحافظ القسطلاني: (متروك)، وفيه عتبة بن يقظان: ضعيف، وفيه أبو سعيد الشامي: مجهول، وأما متنُهُ فمنكرٌ، وتخالفه الأحاديثُ الكثيرة الصحيحة، التي مر بعضها، وبعضها الآخر مثبوت في أكثر كتب السنة.


وقد أدى إهمال الخَلَفِ للأطفال، وتركهمُ السنةَ، وعملهم بمثل ذاك الحديث الساقط؛ إلى نفور الكثير من الأطفال - في كثير من البلاد الإسلامية - عن المساجد، وإعراضهم عن العلم الشرعي، وجهلهم بالدين، وانتشار البدع والخرافات بينهم، أو اتباعهم طريق الشيطان، ونشوء الأفكارِ المنحرفة والأخلاقِ السيئة فيهم، واحتضانِ الأشرار وأهل السوء لهم، فكان لذلك كله أكبر الأثر في هذا الانحطاط الذي وصل إليه المسلمون، والتأخر والضعف والذلِّ الذي نزل بساحتهم.


لقد كان للسياسة النبوية الحكيمة، مع الأطفال خاصة، والكبار عامة؛ أثرُها العظيم في ذلك المستوى الرفيع الذي وصل إليه سلفنا الصالح، فضربوا أروع الأمثلة في الإيمان والإخلاص والعلم والفضيلة، والاستقامة والبذل والصدق..


فكان من آثار ذلك تلك الفتوحاتُ المباركة، الواسعة المذهلة، في مشارق الأرض ومغاربها، التي تميزت بأنها فتحت القلوب قبل فتح البلدان، فكانت خيراً وبركة على البشرية جمعاء، ودخل الناس في دين الله أفواجاً..


كما كان من آثارها تلك الحضارةُ الإسلاميةُ الزاهيةُ، في شتى ميادين الحياة، التي استفاد منها الغرب، فبنوا حضارتهم عليها، ثم زادوا وأكملوا!


ولكن! شتان شتان بين الحضارتين!!


فحضارتهم التي تفوقوا فيها، في ميادين المادة والصناعة والاختراع، ولكن تخلفوا تخلفاً ذريعاً، وسقطوا سقوطاً فظيعاً، في ميادين الروح والقيم والأخلاق والمثل، فكانت حضارة عرجاء شوهاء، الروح والقلب فيها ضامران سقيمان، والجسم فيها متفتح منتفش متجبر، فكانت القوة الجسمية والعسكرية في خدمة السيطرة والاستعلاء، والتكبر والاستيلاء، والظلم والطغيان، فصارت مصدر تعس وشقاء وبؤس وفناء.


فهل آن لنا أن نعي حقائق الإسلام، ونفهمها من ينابيعه الصافية، ومنهله العذب النقي؛ من كتاب الله، وسنة رسوله، وهدي السلف الصالح، ومن سار على دربهم، واقتفى أثرهم؟!!


أرجو ذلك!


{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].

 


[1] رواه البخاري عن أبي هريرة (الجنائز 80 و93/ 2/ 98 و104 و6/ 20), ومسلم (القدر 6/ ص 2047 و2048/ رقم 2658), وأحمد (2/ 213 و275 و393).

[2] رواه البخاري (7/ 3082, 8/ الأدب 39), ومسلم (ص 1805/ الفضائل 13/ رقم 231), وأبو داود (4773 و4774).

[3] رواه مسلم (ص 1805), وأبو داود (4774).

[4] رواه الجماعة أي أصحاب الكتب الستة, وأحمد إلا النسائي. والنُّغر: طائر نحو العصفور.

[5] رواه مسلم (ص 1691).

[6] رواه مسلم (ص 1691).

[7] رواه مسلم (ص 1686 و1687) عن ابن عمر.

[8] انظر "السلسلة الصحيحة" للألباني (1/ 417 - 427 الأحاديث رقم 207 - 216).

[9] رواه مسلم (ص 1807 و1808).

[10] رواه أحمد (3/ 205), والبخاري (1/ 174 الأذان 65), وأبو داود (رقم 789) عن أنس, واللفظ للبخاري.

[11] رواه البخاري (الأصحاب 4/ 217).

[12] رواه أحمد (1/ 293 و303 و307), والترمذي (القيامة 59/ 2516) وغيرهما, وصححه الترمذي والألباني.

[13] رواه البخاري (العلم 41/ 1/ 37).

[14] رواه أحمد (1/ 266 و314 و328 و335), والبخاري (4/ 217/ الأصحاب/ 24), ومسلم (فضائل الصحابة 30/ ص 1927) وغيرهما.

[15] رواه البخاري (6/ 196/ الأطعمة), ومسلم (ص 1599/ الأشربة 130), وأحمد (4/ 26).

[16] رواه أحمد (5/ 30/ 20333) وإسناده ثلاثي صحيح, كما رواه البخاري (المغازي 54/ 4302), وأبو داود (585) وغيرهم.

[17] رواه البخاري (4/ 217), وفي الأصل (ليس شبيه) ولعله خطأ من الناسخ أو الطابع أو بعض الرواة.

[18] رواه البخاري (التفسير 14/ 5/ 220 و7/ 106), ومسلم (ص 2165 و2166/ المنافقين 1), والترمذي (2867/ الأدب 79).

[19] رواه ابن ماجه (1/ 247/ المساجد/ رقم 750/ عن واثلة بن الأسقع مرفوعاً, وضعفه الحافظ البوصيري في الزوائد والعلامة الألباني في ضعيف الجامع الصغير وغيرهما, وهو كما قالوا بل وأكثر, وضعيف جدّاً كما سبق بيانه.

__________________________________________

الكاتب: محمد عيد العباسي

  • 1
  • 0
  • 3,439

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً