أطفال الطلاق عالم من الآلام

منذ 2020-11-24

إذا كان الطلاق في بعض الأحيان حلاً لخلافاتٍ زوجيةٍ لا يمكن علاجها إلا به، فهو في أحيان كثيرة فتنة ينبغي أن نستشعر أضرارها اللاحقة بضحايا لا ذنب لهم في هذه القضية وهم الأبناء الذين يمثلون رمز وحدة الأسرة ومستقبل نهضة الأمة.

إذا كان الطلاق في بعض الأحيان حلاً لخلافاتٍ زوجيةٍ لا يمكن علاجها إلا به، فهو في أحيان كثيرة فتنة ينبغي أن نستشعر أضرارها اللاحقة بضحايا لا ذنب لهم في هذه القضية وهم الأبناء الذين يمثلون رمز وحدة الأسرة ومستقبل نهضة الأمة.

في دراسة بعنوان (الحرمان العاطفي وعلاقته بالاضطرابات النفسية العضوية لدى أطفال الطلاق) أعدها الباحث "رضي الحمراني" أخصائي نفسي ودبلوم دراسات عليا في علم النفس الإكلينيكي أوضح سبق القرآن والسنة في التنبيه على خطورة هذه المعضلة الاجتماعية وتركيز القرآن الكريم في مواضعَ كثيرةٍ على السبب الرئيسي الذي أهلك الأمم والشعوب السابقة، ألا وهو الشقاق والفرقة، والحكمة في ذلك أن الله - عز وجل - أراد لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم- أن تستخلص العبرة من هذه الآفة حتى لا تقع فيها، قال - سبحانه وتعالى-:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: من الآية103]، لقد أمر رب العالمين في هذه الآية عباده المسلمين بالتزام الجماعة ومن مظاهرها الزواج، ونهاهم عن الفرقة ومن تجلياتها الطلاق.

إن موضوع هذه الدراسة، يتناول الاضطرابات النفسية العضوية التي تصيب أطفال الطلاق، كالاضطرابات الغذائية والجلدية واضطرابات النوم إلى غيرها من الأعراض الأخرى، سواء كانت مؤقتة أم مزمنة. 

ولقد اعتمدت هذه الدراسة على المنهج الإكلينيكي الذي ينبني على التحليل المعمق لشخصية الفرد، وذلك من خلال المقابلة النصف موجهة والملاحظة الإكلينيكية والاختبارات الإسقاطية، أما فيما يخص عينة البحث، فتكونت من ثلاثة أطفال تتراوح أعمارهم ما بين سن السادسة والثالثة عشر، تمت دراسة حالاتهم خلال سنة كاملة، وبالموازاة مع الدراسة التشخيصية والتحليلية لمشكلاتهم النفسية، اعتمدت برنامجاً علاجياً، استخدمت من خلاله عدة وسائل علاجية كالتعبير عن المعاناة النفسية بوسائل شفوية كالحوار ورمزية كالرسم، وأشركت أُسَرَ الحالات في المشروع العلاجي، بالإضافة إلى التعاون مع فريق متعدد الاختصاصات من: مربين، أخصائيين اجتماعيين ونفسيين ومدرسين لتتبع تطور الأطفال خلال فترة الدراسة.

وتتناول هذه الدراسة نوعاً محدداً من أثر السلبية للحرمان العاطفي على أطفال الطلاق وهي الاضطرابات النفسية العضوية، ولا يَدَّعي البحث بذلك أن هذه الأعراض هي رد الفعل الوحيد لكل طفل يعاني من مشكلة الفراق بين والديه، بل تتنوع ردود أفعال الأطفال حسب طبيعة شخصياتهم، وتبعاً لنوعية الصراعات التي يعيشونها داخل محيطهم الأسري.

والسؤال الذي سعت الدراسة للإجابة عليه هو: كيف يولد الحرمان مثل هذه الاضطرابات لدى الطفل في حالة فراق والديه؟

وفي إطار الإجابة عرف الباحث الحرمان العاطفي بأنه : معاناة الإنسان الناتجة عن غياب الأسباب الضرورية لتلبية حاجاته ورغباته النفسية، والمقصود بالحرمان العاطفي في هذه الدراسة فقدان الطفل رعايةَ وحمايةَ والديه بعد الطلاق.  

أما الاضطرابات النفسية العضوية فهي أعراض مرضية تلحق بعض أعضاء الجسم، وليس السببُ في نشأتها عضوياً، بل مصدره صراعات ومشكلات نفسية، فشل المصاب في التعبير عنها لغوياً، فلجأ إلى تفريغ هذه الانفعالات في شكل اضطرابات جسدية.

* دراسة حالة
أ.م: طفل يبلغ من العمر ثلاثة عشر سنة انفصل والداه وهو ابن سنتين، والسبب في ذلك راجع إلى إهمال أبيه لمسؤولياته العائلية بعد أن طُرِدَ من عمله لإدمانه شرب الخمر.

بعد الطلاق استقرت الأم برفقة ابنها في منزل والديها واضطرت للعمل خارج البيت حتى توفر ضروريات الحياة، لكنها لم تتمكن من الاستمرار في رعاية طفلها لذلك تركته في بيت جَدَّيْه وعمره آنذاك عشر سنوات، لتتزوج برجل مسن يملك ثروة لا بأس بها.

بعد مرور سنة على زواج الأم، ظهرت على الطفل اضطرابات جلدية (Eczema) في عدة مناطق من جسمه ولم يتماثل هذا العَرَضُ المرضيُّ للشفاء على الرغم من خضوع الحالة للعلاج بالأدوية لمدة تجاوزت ستة أشهر وقد لاحظ المشرفون على تتبع الحالة أن فشل العلاج يعود إلى تلذذ الطفل بحك المناطق المصابة لكنهم لمسوا بعضَ التحسن على مستوى هذا الاضطراب خلال فترة المعالجة النفسية.

إضافةً إلى الأعراض السابقة؛ كان أ. م يتميز بشراهة مرضية عند تناول الأغذية وقد علَّق على هذا الاضطراب بقوله: (إن كثرةَ الأكلِ تملأُ بطني وتشعرني بالسعادة). بالموازاة مع هذا الاضطراب النفسي العضوي، لوحظ تشبث الطفل بممارسة بعض العادات التي تنتمي إلى المرحلة الرضيعية كمص الإصبع (إبهام يده اليمنى).

* تحليل الحالة
خلال السنتين الأوليين من عمره، عانى الطفل من حرمان مادي ومعنوي، ناتج عن إهمال الأب لمسؤولياته تجاه الزوجة والابن بسبب تعاطيه الخمر، وقد أدى هذا العامل إلى اهتزاز الاستقرار العائلي بشكل تدريجي، فقد أثَّر أولاً على التوازن النفسي للأم، ثم انتقل هذا الاضطراب من خلالها إلى الابن، وقد بيَّن علماء النفس في هذا الإطار أن الطفل في مرحلة الرضاعة لا يكتفي بالغذاء البيولوجي المتمثل في حليب أمه بل يتشرب أيضاً الإيماءاتِ الرقيقةَ والمشاعرَ الدافئةَ التي تبدو على وجهها وهي تداعبه أثناء الرضاعة.

إن غياب هذا الغذاء النفسي هو ما أفسد على الحالة المدروسة شهية الأكل فالطفل يمتص الحليب من ثدي أمه ثم يتقيؤه لعدم شعوره بالعطف والحنان المصاحبان لعملية الإرضاع البيولوجي، وحرمانه العاطفي هذا ناجم عن التوتر النفسي الذي عانته الأم من جراء المشكلات التي عاشتها في علاقتها بالأب.

إن كثرة المشاعر السلبية التي تلقاها الطفل من أمه، جعلته لا يكتفي بتفريغ هذه الانفعالات عبر الاضطرابات الغذائية (التقيؤ) بل تجاوزها إلى تعابير نفسيةٍ عضويةٍ أخرى وهي اضطرابات النوم مما يدل على أنه كان يشعر بالفقدان التام للطمأنينة والسكينة النفسية في ظل أجواء أسرية ملبدة بغيوم المشكلات الزوجية.

بعد انفصال الوالدين عانى الطفل نوعاً آخر من الحرمان لمدة ثمان سنوات وهو افتقاده لأمه بسبب غيابها عن البيت وتركيزها على كسب لقمة العيش وهذا ما يفسر لماذا كان أ. م يتناول الأغذية بشراهة غير عادية، فحسب الدراسات النفسية المنجزة حول موضوع الاضطرابات الغذائية تبين أن الطفل يملأ بطنه بالأكل ليعوض الشعور المؤلم بالفراغ العاطفي الذي يعانيه، وهذا ما يوضح العلةَ في الاختيار اللاشعوري للاضطرابات الغذائية كوسيلة للتعبير عن توتراته النفسية لارتباطها بالفم وهو مصدر إشباع الحاجات البيولوجية بامتياز في مرحلة طفولته الأولى التي ذاق فيها أقصى مظاهر الحرمان وهو رضيع.

يتجلى مما سبق أيضاً السرُّ في عدم تخلص الطفل من عادة مص الإصبع على الرغم من بلوغه سن الثالثة عشر لأن تعاقب مظاهر الحرمان التي عاشها دون أن يفهمها أدى إلى تراكم هذه التجارِب المؤلمة لتشكل حواجز نفسية منعته تحقيقَ نموه النفسي بالموازاة مع نموه الجسمي لذلك كان أكثرَ قرباً من التعبير بلغة جسدية سطحية وأكثرَ بعداً عن تفريغ انفعالاته في قالب لغوي منطوق يساعده على فهم معاناته وبالتالي تجاوزها.

إضافة إلى كل هذا فقد تعمق شعور الطفل بالحرمان العاطفي لاضطراب صلته بأمه بعد زواجها الثاني مما أثر فيه في شكل أعراض جلدية (Eczema) لقد أكد الخبراء في مجال العلاقة الثنائية بين الطفل وأمه، أن الرعاية النفسية الأمومية تكسب الطفل قوة نفسية تعزز مناعته الجسمية ضد الأمراض العضوية لكن الطفلَ موضوعَ الدراسةِ - نظراً لضعف تنشئته الاجتماعية التي تلقاها - اختل توازنه النفسي فصارت مناعته الجسمية عموماً والجلدية خصوصاً هشةً ومعرضةً للإصابة بالاضطرابات النفسية العضوية.

* نتائج البرنامج العلاجي
في المشروع العلاجي لحالة أ.م، تم التركيز على ثلاثة أهداف رئيسية:

أولا: تدريب الطفل على استعمال وسائل تعبيرية سوية عن معاناته النفسية كالتعبير الشفوي (الحوار) والتعبير الرمزي (الرسم)، حتى يتخلصَ تدريجياً من التعابير المرضية التي تعوَّد عليها.

ثانيا: تنظيم زيارات تجمع الأم بطفلها لإذابة التوتر الذي خيم على العلاقة بينهما منذ زواجها الثاني.

ثالثا: محاولة إدماج الطفل في بيت زوج أمه، بعد إقناع الأخير بالظروف النفسية التي مرت بها الحالة المدروسة ليساهم بدوره كبديل للأب في إنجاح البرنامج العلاجي.

إن هذه المجهودات العلاجية، لم تؤد إلى شفاء الطفلِ من الاضطرابات النفسية العضوية التي يعاني منها لكنها مكنت على الأقل من التخفيف من حدتها.

* وصايا
- على المتزوجين والشباب المقبل على الزواج الرفع من رصيد ثقافتهم الدينية والنفسية المرتبطة بشؤون الأسرة .

- ينبغي على المؤسسات المهتمة بالشأن التربوي في مجتمعاتنا الإسلامية عقد دورات تكوينية للشباب لا تكتفي فيها ببيان الشروط الشرعية والنفسية الضرورية لنجاح مشروع بناء الأسرة المسلمة، بل تعرض إضافة إلى ذلك تجارِب واقعية سواء الناجحة منها والفاشلة على وجه الخصوص وتطرحها للنقاش لأن التجرِبة الصحيحة تتحقق بالاستفادة من التجارِب الخاطئة.

- تنظيم حملات إعلامية لتوعية الشباب غير المتزوج بأهمية التأهيل للزواج وإشعار المتزوجين بضرورة التكوين المستمر لضمان استمرارية وحدة الأسرة.

- إنشاء مراكز نفسية واجتماعية متخصصة في علاج المشكلات الأسرية.

- اجتهاد الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين في نشر ثقافة نفسية أصيلة داخل المجتمع تهدف إلى تقوية وحدة الأسرة.

- إحداث وحدات للبحث خاصة بالأسرة في الجامعات.
  • 9
  • 0
  • 2,262

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً