فوائد من تفسير العلامة الشنقيطي " أضواء البيان "
الثاني: حسن النظر في اكتساب المال بعد معرفة ما يبيحه خالق السماوات والأرض, وما لا يبيحه.
بسم الله الرحمن الرحيم
فوائد من تفسير العلامة الشنقيطي " أضواء البيان :
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فالشيخ العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي المتوفي في مدينة " مكة" عام (1393هجرية) له عدد من المصنفات, من أهمها وأكبرها تفسيره المعروف بـ " أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن " وقد أثنى عليه أهل العلم, قال العلامة الشيخ عبدالعزيز عبدالله بن باز رحمه الله: خلف مؤلفات عديدة أشهرها وأنفعها وأعظمها كتابه الموسوم أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن وصل فيه لسورة الحشر.
وقال العلامة محمد صالح العثيمين رحمه الله : كلامه في سور البقرة وآل عمران والنساء قليل لكنه بعد هذه السور انفجر كالبحر وتكلم بكلام قل أن تجده في غيره, وقال : كتاب جامع بين الحديث والفقه والتفسير وأصول الفقه, وقال : تفسير الشيخ الشنقيطي رحمه الله جيد لكن لا يصلح إلا لطالب علم مُتمكن.
وقال الشيخ عبدالله عبدالرحمن الغديان رحمه الله: أحسن كتاب في تفسير القرآن بالقرآن. وقال الشيخ خالد بن عثمان السبت: للشيخ رحمه الله كتاب في تفسير القرآن بالقرآن يُعد من أحسن التفاسير وأجودها.
وقد يسر الله الكريم لي بفضله فجمعتُ بعضاً مما يوجد في تفسيره من درره وفوائده, أسأل أن ينفعني وجميع المسلمين بها, ومنها:
إياك أن يزهدك في كتاب الله تعالى كثرة الزاهدين فيه:
الحمد لله الذي أنزل على خاتم الرسل والأنبياء أكمل كتاب, فكشف به ظلمات الجهل وأسباب العذاب, وأماط به عن نفائس العلوم وذخائرها الحجاب, وكشف به عن حقائق الدين وأسراره ومحاسنه النقاب, وأخلص به العبادة للعزيز الوهاب, وفتح به لنيل مآرب الدارين الباب, وأغلق باتباعه والعمل به دون الشر جميع الأبواب, تحيي بوابل علومه القلوب النيرة أعظم مما تحيي الأرض بوابل السحاب, يتميز بتدبر آياته الخطأ من الصواب, والقشور من اللباب, {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] وعد الله متبعه ما هو خير وأبقى, وقال فيه: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ} [طه:123] فكل الشر في الإعراض عنه, وكل الخير في الإقبال عليه...ومع هذا كله فإن أكثر المنتسبين للإسلام اليوم في أقطار الدنيا معرضون عن التدبر في آياته غير مكترثين بقول من خلقهم: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] لا يتأدبون بآدابه, ولا يتخلقون بما فيه من مكارم الأخلاق يطلبون الأحكام في التشريعات الضالة المخالفة له. فإياك يا أخي ثم إياك, أن يزهدك في كتاب الله تعالى كثرة الزاهدين فيه.
آيات فيها سر لطيف وعبرة وحكمة:
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142] أنكر الله في هذه الآية على من ظن أنه يدخل الجنة دون أن يبتلى بشدائد التكليف التي يحصل بها الفرق بين الصابر المخلص في دينه وبين غيره, وأوضح هذا المعنى في آيات متعددة, كقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [التوبة:16] وقوله:{ ألم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ *وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت:1-3]
وفي هذه الآيات سر لطيف وعبرة وحكمة, وذلك أن أبانا آدم كان في الجنة يأكل منها رغداً حيث شاء في أتم نعمة وأكمل سرور, وأرغد عيش, كما قال له ربه: { إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ* وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ} [طه:118-119] ولو تناسلنا فيها لكنا في أرغد عيش وأتم نعمة, ولكن إبليس عليه لعائن الله احتال بمكره وخداعه على أبوينا حتى أخرجهما من الجنة, إلى دار الشقاء والتعب, وحينئذ حكم الله تعالى أن جنته لا يدخلها أحد إلا بعد الابتلاء بالشدائد وصعوبة التكاليف, فعلى العاقل منا _ معاشر بني آدم _ أن يتصور الواقع ويعلم أننا في الحقيقة سبي سباه إبليس بمكره وخداعه من وطنه الكريم إلى دار الشقاء والبلاء, فيجاهد عدوه إبليس ونفسه الأمارة بالسوء, حتى يرجع إلى الوطن الأول الكريم, كما قال العلامة ابن القيم تغمده الله برحمته:
ولكننا سبى العدو فهل ترى نرد إلى أوطاننا ونـــســـــلــــــم
ولهذه الحكمة أكثر الله تعالى في كتابه من ذكر قصة إبليس مع آدم لتكون نصب أعيننا دائماً.
أكبر واعظ وأعظم زاجر: واعظ المراقبة والعلم:
قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ۚ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود:5]
يبين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا يخفى عليه شيء, وأن السر كالعلانية عنده, فهو عالم بما تنطوي عليه الضمائر, وما يعلن وما يسر, والآيات المبينة لهذا كثيرة جداً, كقوله: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] وقوله جل وعلا: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ۚ} [البقرة:235] وقوله:{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس:61] ولا تقلب ورقة من المصحف الكريم إلا وجدت فيها آية بهذا المعني.
اعلم أن الله تبارك وتعالى ما أنزل من السماء إلى الأرض واعظاً أكبر, ولا زاجراً أعظم مما تضمنته هذه الآيات الكريمة وأمثالها في القرآن, من أنه تعالى عالم بكل ما يعمله خلقه, رقيب عليهم, ليس بغائب عما يفعلون, وضرب العلماء لهذا الواعظ الأكبر, والزاجر الأعظم مثلاً ليصير به كالمحسوس, فقالوا: لو فرضنا أن ملكّاً قتّالاً للرجال, سفاكاً للدماء شديد البطش والنكال على من انتهك حرمته ظلماً, وسيّافه قائم على رأسه, والنطع مبسوط للقتل, والسيف يقطر دماً, وحول هذا الملك الذي هذه صفته جواريه وأزواجه وبناته, فهل ترى أحداً من الحاضرين يهتم بريبة أو بحرام يناله من بنات ذلك الملك وأزواجه, وهو ينظر إليه, عالم بأنه مطلع عليه ؟! لا, وكلا! بل جميع الحاضرين يكونون خائفين, وجلة قلوبهم خاشعة عيونهم, ساكنة جوارحهم خوفاً من بطش ذلك الملك.
ولا شك – ولله المثل الأعلى – أن رب السموات والأرض جل وعلا أشد علماً, وأعظم مراقبة, وأشد بطشاً, وأعظم نكالاً وعقوبة من ذلك الملك, وحماه في أرضه محارمه, فإذا لا حظ الإنسان الضعيف أن ربه جل وعلا ليس بغائب عنه, وأنه مطلع على كل ما يقول وما يفعل وما ينوي لان قلبه, وخشي الله تعالى, وأحسن عمله لله جلا وعلا.
الفزع إلى الله تعالى بأنواع الطاعات عند الإصابة بمكروه:
قال الله عز وجل:{وَلَقَد نَعلَمُ أَنَّكَ يَضيقُ صَدرُكَ بِما يَقولونَ * فَسَبِّح بِحَمدِ رَبِّكَ وَكُن مِنَ السّاجِدينَ} [الحجر: 97-98] قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: اعلم أن ترتيبه جل وعلا الأمر بالتسبيح والسجود على ضيق صدره صلى الله عليه وسلم بسبب ما يقولون له من السوء دليل على أن الصلاة والتسبيح سبب لزوال ذلك المكروه, ولذا كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة. قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ} [البقرة:153] فينبغي للمسلم إذا أصابه مكروه أن يفزع إلى الله تعالى بأنواع الطاعات من صلاة وغيرها.
العلماء العاملين لا ينالهم الخرف وضياع العقل في الكبر:
قال الله عز وجل:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ۚ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}[النحل:70]
قوله: { لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ} أي: يرد إلى أرذل العمر, لأجل أن يزول ما كان يعلم من العلم أيام الشباب, ويبقي لا يدري شيئاً, لذهاب إدراكه بسبب الخرف, ولله في ذلك حكمه.
قال بعض العلماء: إن العلماء العاملين لا ينالهم هذا الخرف, وضياع العلم والعقل من شدة الكبر, ويستروح لهذا المعنى من بعض التفسيرات في قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين:5-6]
تسوية الانثى بالذكر في جميع الأحكام والميادين:
اعلم _ وفقني الله وإياك لما يحبه ويرضاه _: أن هذه الفكرة الكافرة, الخاطئة الخاسئة, المخالفة للحس والعقل, وللوحي السماوي, وتشريع الخالق الباريء: من تسوية الأنثى بالذكر في جميع الأحكام والميادين فيها من الفساد والإخلال بنظام المجتمع الإنساني ما لا يخفى على أحد إلا من أعمى الله بصيرته, وذلك لأن الله جل وعلا جعل الأنثى بصفاتها الخاصة بها صالحة لأنواع من المشاركة في بناء المجتمع الإنساني, صلاحاً لا يصلحه لها غيرها. كالحمل, والوضع, والإرضاع, وتربية الأولاد, وخدمة البيت, والقيام على شئونه: من طبخ, وعجن, وكنس, ونحو ذلك. وهذه الخدمات التي تقوم بها للمجتمع الإنساني داخل بيتها في ستر وصيانة, وعفاف ومحافظة على الشرف, والفضيلة والقيم الإنسانية, لا تقل عن خدمة الرجل بالاكتساب.
فمحاولة استواء المرأة مع الرجل في جميع نواحي الحياة لا يمكن أن تتحقق, لأن الفوارق بين النوعين كوناً وقدراً أولاً, وشرعاً منزلاً ثانياً, تمنع من ذلك منعاً باتاً...ومع هذه الفوارق لا يتجرأ على القول بمساواتهما في جميع الميادين إلا مكابر في المحسوس, فلا يدعو إلى المساواة بينهما إلا من أعمى الله بصيرته.
موقف المسلمين من الحضارة الغربية:
الاستقراء التام القطعي دلَّ على أن الحضارة الغربية المذكورة تشتمل على نافع وضار, أما النافع منها: فهو من الناحية المادية وتقدمها في جميع الميادين المادية أوضح من أن أبينه, وما تضمنته من المنافع للإنسان أعظم مما كان يدخل تحت التصور, فقد خدمت الإنسان خدمات هائلة من حيث إنه جسد , وأما الضار منها: فهو إهمالها بالكلية للناحية التي هي رأس كل خير, ولا خير البته في الدنيا بدونها, وهي التربية الروحية للإنسان وتهذيب أخلاقه, وذلك لا يكون إلا بنور الوحي السماوي الذي يوضح للإنسان طريق السعادة, ويرسم له الخطط الحكيمة في كل ميادين الحياة الدنيا والآخرة, ويجعله على صلة بربه في كل أوقاته.
فالحضارة الغربية غنية بأنواع المنافع من الناحية الأولى, مفلسة إفلاساً كلياً من الناحية الثانية.
ومعلوم أن طغيان المادة على الروح يهدد العالم أجمع بخطر داهم, وهلاك مستأصل, كما هو مشاهد الآن, وحل مشكلته لا يمكن البته إلا بالاستضاءة بنور الوحي السماوي الذي هو تشريع خالق السماوات والأرض, لأن من أطغته المادة حتى تمرد على خالقه ورازقه لا يفلح أبداً.
بعض الصوفية...لا شك أن منهم ما هو على الطريق المستقيم من العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وبذلك عالجوا أمراض قلوبهم وحرسوها, وراقبوها وعرفوا أحوالها, وتكلموا على أحوال القلوب كلاماً, مفصلاً كما هو معلوم, كعبدالرحمن بن عطية, أو ابن أحمد بن عطية, أو ابن عسكر أعني أبا سليمان الداراني, وكعون بن عبدالله الذي يقال كان يقال له: حكيم الأمة, وأضرابهما, وكسهل بن عبدالله التستري, وأبي طالب المكي, وأبي عثمان النيسابوري, ويحيى بن معاذ الرازي, والجنيد بن محمد, ومن سار على منوالهم, لأنهم عالجوا أمراض أنفسهم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم, ولا يحيدون عن العمل بالكتاب والسنة ظاهراً وباطناً, ولم تظهر منهم أشياء تخالف الشرع. فالحكم بالضلال على جميع الصوفية لا ينبغي ولا يصح إطلاقه, والميزان الفارق بين الحق والباطل في ذلك هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فمن كان منهم متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وهديه وسمته, كمن ذكرنا وأمثالهم, فإنهم من جملة العلماء العاملين, ولا يجوز الحكم عليهم بالضلال, وأما من كان على خلاف ذلك فهو الضال.
نعم, صار المعروف في الآونة الأخيرة, وأزمنة كثيرة قبلها بالاستقراء, أن عامة الذين يدعون التصوف في أقطار الدنيا إلا من شاء الله منهم دجاجلة يتظاهرون بالدين ليضلوا العوام الجهلة وضعاف العقول من طلبة العلم, ليتخذوا بذلك أتباعاً وخدماً, وأموالاً وجاهاً, وهم بمعزل عن مذهب الصوفية الحق, لا يعملون بكتاب الله ولا بسنة نبيه, واستعمارهم لأفكار ضعاف العقول أشد من استعمار كل طوائف المستعمرين, فيجب التباعد عنهم, والاعتصام من ضلالتهم بكتاب الله وسنة نبيه, ولو ظهر على أيديهم بعض الخوارق, ولقد صدق من قال:
إذا رأيـــت رجــــلاً يــــطـــير وفوق ماء البحر قد يسير
ولم يقف عند حدود الشرع فإنه مُستدرج أو بدعـــي
والقول الفصل في ذلك هو قوله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا* وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا *وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۗ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}[النساء:123-125] فمن كان عمله مخالفاً للشرع كمتصوفة آخر الزمان فهو الضال, ومن كان عمله موافقاً لما جاء به نبينا علية الصلاة والسلام فهو المهتدي. نرجو الله تعالى أن يهدينا وإخواننا المؤمنين, وألا يزيغنا ولا يضلنا عن العمل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الي هي محجة بيضاء, ليلها كنهارها, لا يزيغ عنها إلا هالك.
دليل قرآني على إعفاء اللحية وعدم حلقها:
قال الله عز وجل: {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ۖ إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}[طه:94]
هذه الآية الكريمة بضميمة آية الأنعام إليها تدل على لزوم إعفاء اللحية, فهي دليل قرآني على إعفاء اللحية وعدم حلقها, وآية الأنعام المذكورة هي قوله تعالى: {ومِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ۚ}الآية ثم إنه تعالى قال بعد أن عد الأنبياء الكرام المذكورين {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } [الأنعام:90] فدل ذلك على أن هارون من الأنبياء الذين أُمِرَ نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم, وأمره صلى الله عليه وسلم أمر لنا, لأن أمر القدوة أمر أتباعه, كما بينا إيضاحه بالأدلة القرآنية...في سورة المائدة, وقد قدمنا هناك: أنه ثبت في صحيح البخاري : أن مجاهداً سأل ابن عباس من أين أخذت السجدة في (ص) قال: أو ما تقرأ: ( {ومِن ذُرِّيَّتِهِ داود} ... {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ) فسجدها داود فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإذا علمت بذلك أن هارون من الأنبياء الذين مر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم في سورة الإنعام, وعلمت أن أمره أمر لنا, لأن لنا فيه الأسوة الحسنة, وعلمت أن هارون كان موفراً شعر لحيته بدليل قوله لأخيه: ( { لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي} ) [طه:94] لأنه لو كان حالقاً لما أراد أخوه الأخذ بلحيته. تبين لك من ذلك بإيضاح: أن إعفاء اللحية من السمت الذي أمرنا به في القرآن العظيم. وأنه كان سمت الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم.
الدعاء بدعاء يونس عليه السلام بإخلاص ينجي من الكرب:
قال الله عز وجل: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87-88]
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة:{وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} يدل على أنه ما من مؤمن يصيبه الكرب والغم فيبتهل إلى الله داعياً بإخلاص, إلا نجاه الله من ذلك الغم, ولا سيما إذا دعا بدعاء يونس هذا. وقد جاء في حديث مرفوع عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في دعاء يونس المذكور: ( لم يدع به مسلم قط إلا استجاب له ) رواه أحمد والترمذي وابن أبي حاتم وابن جرير وغيرهم, والآية الكريمة شاهدة لهذا الحديث شهادة قوية كما ترى.
لذة المعاصي كلذة الشراب الحلو الذي فيه السم القاتل:
لو راجع صاحب المعصية نفسه مراجعة صحيحة, ولم يحابها في معصية الله لعلم أن لذة المعاصي كلذة الشراب الحلو الذي فيه السم القاتل, والشراب الذي فيه السم القاتل لا يستلذه عاقل, لما يتبع لذته من عظيم الضرر, وحلاوة المعاصي فيها ما هو أشد من السم القاتل, وهو ما تستلزمه معصية الله جل وعلا من سخطه على العاصي, وتعذيبه له أشد العذاب, وعقابه على المعاصي قد يأتيه في الدنيا فيهلكه, وينغص عليه لذة الحياة.
ونقل عن سفيان الثوري رحمه الله أنه كان كثيراً ما يتمثل بقول الشاعر:
تفني اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سـوء في مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار
المتزوج الذي وعده الله بالغنى, هو الذي يريد بتزويجه الإعانة على طاعة الله:
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [النور:32] فيه وعد من الله للمتزوج الفقير من الأحرار, والعبيد بأن الله يغنيه, والله لا يخلف الميعاد, وقد وعد الله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقراء باليسر بعد ذلك العسر, وأنجز لهم ذلك.
والظاهر أن المتزوج الذي وعده الله بالغنى, هو الذي يريد بتزويجه الإعانة على طاعة الله بغض البصر, وحفظ الفرج كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر, وأحصن للفرج» الحديث.
يوجد في بعض المواضع اختلاط الماء المالح والماء العذب في مجرى واحد, ولا يختلط أحدهما بالآخر, كالمحل الذي يختلط فيه نهر السنغال بالمحيط الأطلسي:
قوله تعالى:{وهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} [الفرقان:53]
اعلم أن لفظة مرج تطلق في اللغة إطلاقين.
الأول: مرج بمعنى أرسل وخلى....وعلى هذا فالمعنى: أرسل البحرين وخلاهما لا يختلط أحدهما بالآخر.
والإطلاق الثاني: مرج بمعن خلط, ومنه قوله تعالى: ( في أمرٍ مريج ) أي مختلط
فعلى القول الأول: فالمراد بالبحرين الماء العذب في جميع الدنيا, والماء الملح في جميعها, وقوله: ( {هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} ) يعني به ماء الآبار والأنهار والعيون في أقطار الدنيا وقوله: {وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أي: البحر المالح البحر المحيط وغيره من البحار التي هي ملح أجاج, وعلى هذا التفسير فلا إشكال.
وأما على القول الثاني بأن مرج بمعن خلط, فالمعنى: أنه يوجد في بعض المواضع اختلاط الماء المالح والماء العذب في مجرى واحد, ولا يختلط أحدهما بالآخر, بل يكون بينهما حاجز من قدرة الله تعالى. وهذا محقق الوجود في بعض البلاد, ومن المواضع التي هو واقع فيها المحل الذي يختلط فيه نهر السنغال بالمحيط الأطلسي بجنب مدينة سانلويس, وقد زرت مدينة سانلويس عام ست وستين وثلاثمائة وألف هجرية, واغتسلت مرة في نهر السنغال, ومرة في المحيط, ولم آت محل اختلاطهما, ولكن أخبرني بعض المرافقين الثقات أنه جاء إلى محل اختلاطهما, وأنه جالس يغرف بإحدى يديه عذباً فراتاً, وبالأخرى ملحاً أجاجاً, والجميع في مجرى واحد, لا يختلط أحدهما بالآخر, فسبحانه جل وعلا ما أعظمه, وما أكمل قدرته.
أصول الاقتصاد الكبار:
أصول الاقتصاد الكبار أربعة:
الأول: معرفة حكم الله في الوجه الذي يكتسب به المال, واجتناب الاكتساب به إن كان محرماً شرعاً.
الثاني: حسن النظر في اكتساب المال بعد معرفة ما يبيحه خالق السماوات والأرض, وما لا يبيحه.
الثالث: معرفة حكم الله في الأوجه التي يصرف فيها المال, واجتناب المحرم منها.
الرابع: حسن النظر في أوجه الصرف, واجتناب ما لا يفيد منها.
فكل من بنى اقتصاده على هذه الأسس الأربعة كان اقتصاده كفيلاً بمصلحته, وكان مرضياً لله جل وعلا, ومن أخل بواحدة من هذه الأسس الأربعة كان بخلاف ذلك, لأن من جمع المال بالطرق التي لا يبيحها الله جل وعلا فلا خير في ماله ولا بركة, كما قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} بالبقرة:276] وقال تعالى: {قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ۚ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:100]
التسبيح يعين على الصبر:
قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 40] ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أمره تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يقوله الكفار والتسبيح بحمده جلا وعلا أطراف النهار، قد ذكره الله في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في أخريات طه: { فَاصبِر عَلى ما يَقولونَ وَسَبِّح بِحَمدِ رَبِّكَ قَبلَ طُلوعِ الشَّمسِ وَقَبلَ غُروبِها وَمِن آناءِ اللَّيلِ فَسَبِّح وَأَطرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرضى } [طه: 130] وأمره له بالتسبيح بعد أمره له بالصبر على أذى الكفار فيه دليل على أن التسبيح يعينه الله به على الصبر المأمور به، والصلاة داخلة في التسبيح.
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
- التصنيف: