الاحتلال الهولندي لإندونيسيا (1)
لا يُعرَف على وجه التعيين تاريخُ دخول الإسلام إلى جزر إندونيسيا الواسعة، ولكن من المؤكد أنَّ نوره قد شعَّ مبكرًا على سواحل هذه الجزر العظيمة مع أفواج التجار المسلمين الذين كانت قوافلهم تمخر البحار والمحيطات، لا للتجارة وحدها، بل للدعوة أيضًا...
إندونيسيا والإسلام:
لا يُعرَف على وجه التعيين تاريخُ دخول الإسلام إلى جزر إندونيسيا الواسعة، ولكن من المؤكد أنَّ نوره قد شعَّ مبكرًا على سواحل هذه الجزر العظيمة مع أفواج التجار المسلمين الذين كانت قوافلهم تمخر البحار والمحيطات، لا للتجارة وحدها، بل للدعوة أيضًا، والدليل على ذلك أنَّ ذكر جزر إندونيسيا قد ورد في المراجع والمصادر العربية القديمة؛ فلقد أسماها المؤرخ المسعودي صاحب كتاب "مروج الذهب" باسم جزر المهراج، وغيره من المؤرخين المسلمين يسمونها بأسماء جزرها: سومطرة أو سوقطرة، وجاوة، والملايو، وهكذا، وبعض المؤرِّخين يفرِّق بين سومطرة وجاوة؛ فيسمِّي الأولى جاوة الكبرى، والثانية جاوة الصغرى.
وكان التجار المسلمون من حضرموت وعمان تحديدًا هم أول من وصَل إلى تلك الجزر النائية، وذلك في أواخر القرن الهجري الثاني وأوائل الثالث، وتلاهم مسلمو الهند من إقليم الكجرات أو جوجرة كما يسمِّيه المؤرِّخ المسعودي، وتعتبر منطقة (آتشيه) - والتي تطالب الآن بالانفصال عن إندونيسيا - في شمال سومطرة هي أول منطقة تتشرَّف بدخول الإسلام فيها؛ وذلك على يد الداعية العربي عبد الله عارف، بعدها أخذ الإسلام يتقدَّم ببطء نحو الداخل بسبب المقاومة الشديدة من الوثنيين الهنادكة؛ لأن الهندوكية كانت راسخةً في تلك الجزر ولها العديد من الممالك القوية؛ لذلك عمد المسلمون إلى إنشاء ممالك خاصة بهم، منها على سبيل المثال:
1- مملكة برلاك في سومطرة، وقد زارها الرحَّالة المغربي ابن بطوطة سنة 746 هـ - 1345 م ومكث فيها فترة، وقد زارها قبله الرحالة الإيطالي ماركو بولو سنة 692هـ.
2- مملكة ماتارام في جاوة الوسطى، وكانت في الأصل وثنيَّة، ثم تحوَّل أبناؤها إلى الإسلام.
3- مملكة آتشيه في شمالي سومطرة، وكانت أقوى الممالك الإسلاميَّة في إندونيسيا خلال القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين، وأكثر الممالك مقاومة للاحتلال.
4- مملكة بنتام في غربي جاوة، وقد أسَّسها السلطان حسن الدين بن هداية الله عام 976م، ولمَّت هذه المملكة شملَ المسلمين بعد أحداث فتنة عاتية كادت أن تذهب بريحهم.
5- مملكة ديماك في وسط جاوة؛ أسَّسها رمضان فاطمي عام 832 هـ.
6- مملكة بالمبانج في جنوبي سومطرة؛ أسَّسها السلطان عبدالرحيم عام 1058 هـ.
ولم يستطع المسلمون إقامة مملكة واحدة قويَّة ينضوي تحت لوائها كلُّ هذه الممالك بسبب الطبيعة الجغرافيَّة للجزر الكثيرة والمتناثرة، وأيضًا بسبب وجود ممالك وثنيَّة قوية وراسخة قاومت المد الإسلامي داخل البلاد، وأيضًا بسبب المخططات الصليبيَّة الاستعمارية التي بدأت تعمل في إندونيسيا بالتزامن مع قيام هذه الممالك الإسلامية.
إندونيسيا في دائرة الأطماع الصليبية:
في نفس الوقت الذي بدأ المسلمون فيه يقيمون دولتهم ويثبتون أقدامهم في إندونيسيا وينشئون ممالكَهم في جزرها المتناثرة، كان الاحتلال الصَّليبي قد التفت إلى تلك البقعة النائية من العالم؛ طمعًا منه في خيرات تلك البلاد، وثرواتها الطبيعيَّة الضخمة، ومواردها اللامحدودة من المواد الخام، وقبل ذلك كله نشر الصليبيَّة في أرجاء المعمورة.
كان البرتغاليون أولَ من تنبَّه لتلك الجزر العامرة بالخيرات؛ وذلك خلال حركة الكشوف البحرية ذات الدافع والطابع الصليبي الخالص، وكان لسقوط دولة الإسلام في الأندلس سنة 892 هـ أثَرٌ كبير في وثبة البرتغاليين والإسبان على العالم القديم، وخاصة البلاد الإسلامية منه.
احتلَّ البرتغاليون (مالاقا) سنة 917 هـ، وأقاموا بها قاعدة حربية بحرية متقدمة للإغارة على الجزر الإندونيسية ونهب خيراتها واستعباد أهلها، وكانت جزر (المولوك) الغنية بالتوابل من أكثر الجزر الإندونيسية تعرضًا للحملات الصليبية البرتغالية، ومع توالي الحملات البرتغالية على إندونيسيا سيطر البرتغاليون على شمالي سومطرة سنة 928 هـ، وجزيرة (سيلبيس) سنة 947 هـ.
دخل الإسبان ميدان الصِّراع على خيرات البلاد الجديدة، فوصلوا إلى جزيرة (بورنيو) وجزر (المولوك) سنة 928 هـ، وكانت تلك الجزر وقتها تحت حكم المسلمين ولهم بها مملكة كبيرة، هي مملكة (بيدور)، وحاكمها السلطان جمال الدين، وقد استقبل هذا السلطان المسلم الوفد الإسباني وأكرم ضيافتَه وهو لا يعلم ما يخبئه له هؤلاء الصليبيون الحاقدون؛ إذ ما لبثوا أن احتلُّوا الجزيرة وعملوا على فرض النصرانيَّة بالقوة على أهلها، وكذلك فعل إخوانهم في الحقد البرتغاليون.
قامت الثورات الواحدة تلو الأخرى ضد الاحتلال البرتغالي الإسباني المشترك بسبب التعنت الصليبي للاحتلال، ومحاولته المحمومة فرض دينه وقيمه على أهل إندونيسيا، وأصبحت النصرانية مع الوقت رمزًا للاحتلال والطغيان والحقد، وأصبح الإسلام رمزًا للمقاومة والحرية والتسامح، فدخل الناس في إندونيسيا في دين الله أفواجًا حتى غدا الشعب الإندونيسي كله مسلمًا تقريبًا.
احتلَّت إسبانيا أراضي البرتغال لتوحيد شبه الجزيرة الإيبيرية سنة 988 هـ، وبالتالي أصبحت مستعمرات البرتغال تابعة لإسبانيا، غير أن إسبانيا لم تلبث هي الأخرى أن فقدت مستعمراتها سنة 997 هـ، بعد هزيمتها البحرية الساحقة أمام الأسطول الإنجليزي في معركة (الأرمادا)، وبعدها أصبح الجو مهيَّأً لظهور قوى استعمارية صليبية جديدة تتنافس على الغنيمة الإندونيسية الكبيرة، ومن هذه القوى ظهرت القوة الهولندية.
الاحتلال الهولندي لإندونيسيا:
كانت هولندا من الدول الأوروبية الصغيرة، وتُعرف باسم الأراضي المنخفضة؛ لانخفاض الأرض بها عن مستوى البحر، وكانت هولندا تابعة لملك إسبانيا الأشهر شارلكان ثمَّ ولده فيليب الثاني، وقد حاول الهولنديون الاستقلال عن إسبانيا عدَّة مرات وفشلوا؛ مما جعل ملك إسبانيا فيليب الثاني يغلق المنافذ التجارية والبحرية أمام تجار هولندا ويمارس ضدها حصارًا اقتصاديًّا شديدًا من أجل إرغام الهولنديين على التبعية لإسبانيا.
بدأ الهولنديون في البحث عن طرق جديدة لجلب البضائع مباشرة من مصادرها الأصليَّة دون وساطة إسبانيا، وبعد معاناة شديدة والكثير من الضحايا والخسائر المالية والبشرية وصلت السفن الهولندية إلى الطريق الآمن لرحلاتها، وبالفعل وصل الهولنديون إلى الجزر الإندونيسية سنة 1005 هـ - 1596 م، وقد أحسن السلطان أبو المفاخر بن محمد سلطان مملكة بانتن استقبالهم وأذِن لهم بالبيع والشراء، ومن عادة مسلمي إندونيسيا مقابلة الضيوف وخاصة التجار منهم بالرحب والسعة والبشاشة، فظنَّ الهولنديون أن تلك المعاملة وحسن المقابلة من باب الخوف منهم، فبدرت من قائدهم واسمه (هوتمان) بوادر وقاحة واستعلاء وسوء أدب، فقبض عليه السلطان أبو المفاخر وزجَّ به في السجن؛ ليفهم أنَّ في البلاد نظامًا ودولة وسلطة، ولما قبض على (هوتمان) تقلَّد الهولنديون السلاح ظنًّا منهم أنهم قادرون على السيطرة على البلاد، وكان مجموعهم مع عمال السفن 249 شخصًا، فقتل منهم في المواجهات 150 شخصًا، وطردهم الأندونيسيين شر طردة من البلاد، وقد هلك كثير منهم في رحلة العودة إلى هولندا.
عاد الهولنديون مرة أخرى بعد عامين أي سنة 1598م - 1007هـ، وقد غيروا من سياساتهم فأعلنوا احترام الدولة وأهل البلاد وطلبوا عقد روابط صداقة مع أهل إندونيسيا وحملوا معهم هدايا فخمة للسلطان أبو المفاخر الذي فرح بها هو ورجاله وفرح الإندونيسيون لفرح سلطانهم، وعدوا الهولنديين أصدقاءهم، وأدى ذلك الأمر لزيادة أرباح الهولنديين وتوسع تجارتهم وازدهار بلادهم ونمو ثرواتهم فكيف قابل الهولنديون هذا الإحسان والمعروف الجميل؟
قرر الهولنديون منذ أول يوم وطئت فيه أقدامهم الصليبية أرض إندونيسيا أن يحتلوها وينهبوا خيراتها ولجأوا إلى الخداع والمكر الصليبي الشهير والذي وقع فيه كثير من المسلمين البسطاء في العالم الإسلامي، وقد اتبع الهولنديون عدة خطوات من أجل تحقيق الاحتلال الكامل للجزر الإندونيسية:
1- عقد معاهدات صداقة وتبادل منافع مع سلاطين المماليك الإسلامية أظهروا فيه الاحترام الكامل لدين وعادات الإندونيسيين، وأغدقوا الهدايا على السلاطين والزعماء ورجال الدولة.
2- وقفوا بجانب الأندونيسيين في حربهم ضد البرتغاليين، وهم بذلك قد اصطادوا عصفورين بحجر واحد؛ إذ قضوا على منافسة البرتغاليين لهم على الغنيمة الإندونيسية، وفي نفس الوقت كسبوا محبة الإندونيسيين الذين عدوا الهولنديين أوثق حلفائهم.
3- أسس الهولنديون شركة تجارية كبيرة للتحكُّم في خيرات البلاد، سموها شركة الهند الشرقية، وسماها الإندونيسيون (كمفني)، هذه الشركة استخدمها الهولنديون كستار وواجهة لاحتلال البلاد، وأعطيت هذه الشركة من المزايا والحقوق ما يجعلها حكومة مستقلَّة داخل إندونيسيا، ولم يتنبَّه الإندونيسيون لخطورة الشركة الصليبية إلا بعد أن أصبحت دولة داخل الدولة؛ لها قلاع وجيش، ومخازن أسلحة، وأسطول بحري قوي، أحكم سيطرتَه على جزيرة جاوة كلها.
4- استغلَّ الاحتلال الهولندي حالةَ الصِّراع القديم بين مملكة (بانتن) ومملكة (ماتارام) وأشعل نارَ الخلاف والفتنة بين الإندونيسيين، وكان السبب وراء ذلك الصراع أن ملوك (ماتارام) كانوا من أنصار خطة مزج العقائد الإسلامية مع العقائد الهندوسية الوثنية التي كانت موجودة قبل الإسلام؛ أي بعبارة أخرى: اختراع دين جديد، في حين أن ملوك (بانتن) رفضوا هذا الكفر والضلال وتمسَّكوا بالدين الصحيح، جاهدوا المحرِّفين والمبدلين للدِّين من ملوك (ماتارام) وخاضوا ضدهم حروبًا طويلة، وبالطبع دخل الاحتلال الهولندي في صف ملوك (ماتارام) الضالين ضد ملوك (بانتن)، وكان بعض ملوك (ماتارام) مثل "منكورات الأول" من أشدِّ أنصار الاحتلال الهولندي، والذي كانت عساكره تحارب في صفٍّ واحد مع الاحتلال الصليبي الهولندي ضد مسلمي إندونيسيا.
[1] راجع كتاب: سلسلة ذاكرة الأمة تاريخ الحروب الدينية المعاصرة وحركات التحرير الإسلامية للمؤلف، والصادر عن دار الصفوة بالقاهرة، 1430هـ - 2009م.
______________________________________
الداعية: شريف عبدالعزيز الزهيري
- التصنيف:
- المصدر: