منهج أهل العلم في التصنيف والتأليف
يقول العلامة ابن الجوزي رحمه الله: وليس المقصود جمع شيء كيف كان، وإنما هي أسرار يُطلع الله عز وجل عليها مَن شاء من عباده، ويُوفِّقه لكشفها، فيجمع ما فُرِّق، أو يُرتب ما شُتِّت، أو يشرح ما أُهمل، هذا هو التصنيف المفيد.
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فتصنيف وتأليف الكتب مِن وسائل حفظ العلم، ونقله مِن جيلٍ إلى آخر، فنفعُ المصنفات عظيم، وزمان نفعها طويل، وها هي الأجيال تستفيد مِن كُتب ومصنفات مَن سبَقها من مئات السنين.
وتصانيف العالم ولده المخلد كما ذكر أهل العلم، وما يُصنفه العالم إذا كان مفيدًا، فهو صدقة جارية يبقى له أجرها بعد موته، ومن فضل الله الكريم أنَّ أجر وثواب ذلك لا يقتصر على مَن صنَّف المصنفات فقط، بل يدخل في ذلك كل مَن أسهَم في إخراجها وطباعتها ونشرها وتعليمها، تقول اللجنة الدائمة للإفتاء في بلاد الحرمين الشرفين في الفتوى رقم (20062): طباعة الكتب المفيدة التي ينتفع بها الناس في أمور دينهم ودنياهم، هي من الأعمال الصالحة التي يثاب الإنسان عليها في حياته ويبقى أجرها، ويجري نفعها له بعد مماته، ويدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم فيما صح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مات الإنسان، انقطع عمله إلا مِن ثلاث، إلا مِن صدقة جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له))؛ رواه مسلم في صحيحة والترمذي والنسائي والإمام أحمد.
وكل مَن أسهَم في إخراج هذا العلم النافع يحصل على هذا الثواب العظيم، سواء كان مؤلفًا له، أو معلمًا له، أو ناشرًا له بين الناس، أو مخرجًا أو مسهمًا في طباعته، كل بحسب جهده ومشاركته في ذلك!
التصنيف المفيد نعمة عظيمة من الله جل جلاله على عبده، ليس كل أحد يُوفق لها؛ يقول العلامة ابن الجوزي رحمه الله: وليس المقصود جمع شيء كيف كان، وإنما هي أسرار يُطلع الله عز وجل عليها مَن شاء من عباده، ويُوفِّقه لكشفها، فيجمع ما فُرِّق، أو يُرتب ما شُتِّت، أو يشرح ما أُهمل، هذا هو التصنيف المفيد.
ولقد كان لأهل العلم منهج في التصنيف تمثل في صورٍ متعددة، من أهمها:
الإخلاص في التصنيف:
التصنيف له أغراض متنوعة؛ منها: الحصول على المال، ومنها نيل الجاه، ومنها الرغبة في الشهرة، إلى غير ذلك، وهذه المقاصد كان أهل العلم بعيدين عنها، فقد كان مقصدهم من تصنيفهم أن يكون لله عز وجل خالصًا، فالإمام البخاري رحمه الله افتتح كتابه الصحيح بحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (( «إنما الأعمال بالنيَّات، وإنما لكل امرئ ما نوى» ))؛ قال الإمام الكرماني رحمه الله: إنما أورد البخاري هذا الحديث قبل الشروع في أبواب الكتاب؛ إعلامًا بأن هذا المصنف منوي فيه الإخلاص لله تعالى، مجنب عن الأغراض الدنيئة والرياء.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: "وقد اعترض على المصنف في إدخاله حديث الأعمال هذا في ترجمة بَدء الوحي، وأنه لا تعلق له به أصلًا"؛ قال ابن رشيد: لم يقصد البخاري بإيراده سوى بيان حُسن نيَّته في هذا التأليف.
وقال الإمام العيني رحمه الله: أراد بهذا إخلاص القصد، وتصحيح النية، وأشار أنه قصد بتأليفه (الصحيح) وجه الله تعالى، وقد حصل له ذلك.
وقال الإمام النووي رحمه الله: بدأ البخاري بهذا الحديث، وإن لم يترجم له؛ لأن عادة السلف ابتداءُ المصنفات به؛ تنبيهًا للطالب على تصحيح النية.
وقال الإمام ابن رجب رحمه الله: به صدر البخاري كتابه الصحيح؛ إشارة منه إلى كل عمل لا يراد به وجه الله، فهو باطلٌ لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة.
لقد ذكر أهل العلم أن مقصدهم من تأليفهم أن يكون خالصًا لوجهه الله تعالى:
قال الإمام الكرماني رحمه الله في مقدمة كتابه "الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري" عن تصنيفه: وما توسَّلت به إلى غرض دنيوي؛ من مال، أو جاهٍ... بل جعلته لله، ولوجهه خالصًا.
وقال الشاطبي صاحب قصيدة حرز الأماني ووجه التهاني: لا يقرأ قصيدتي هذه أحدٌ إلا نفعَه الله عز وجل بها؛ لأني نظَمتها لله تعالى مخلصًا له في ذلك.
من كان تصنيفه لله رفَعه الله، وبقِيت مصنفاته ينتفع بها الناس:
قال الإمام الكرماني رحمه الله عن صحيح البخاري: لما صحَّح فيه النية، وصفَّى فيه الطويةَ، جعل الله تعالى كتابه علمًا من أعلام الإسلام، وقال عنه الإمام العيني رحمه الله: أُعطى هذا الكتاب ما لم يُعطَ غيرُه من كتب الإسلام، وقبِله أهل المشرق والمغرب.
وقد صنَّف الإمام مالك رحمه الله الموطأ، فعمِل مَن كان في المدينة يومئذ من العلماء الموطآت، فقيل له: شغلت نفسك بعمل هذا الكتاب، وقد شركك فيه الناس وعملوا أمثاله، فقال: ائتوني بما عملوا، فأُتي بذلك، فنظر فيه ثم نبذه، وقال: لتَعْلَمُنَّ أنه لا يرتفع من هذا إلا ما أُريد به وجه الله، فكأنما أُلقيت تلك الكتب في الآبار، وما سمِع لشيء منها بعد ذلك بذكر.
ودخل المزني يومًا على الشافعي، وكان يصنفُ كتابًا، فقال له: رحمك الله، إن أصحاب مالك وأصحاب أبي حنيفة، صنفوا الكتب الكثيرة... فقال له: يا إبراهيم، نُصنِّف ويُصنِّفون، وما كان لله تعالى يبقى إلى الدهر، وقد سئل أبو موسى الضرير عن كتب الشافعي: كيف سارت في الناس؟ فقال: أراد الله بعلمه فرفَعه الله.
قال الإمام ابن كثير رحمه الله عن منصفات الإمام الشيرازي: انتشرت تصانيفه شرقًا وغربًا لبركة إخلاصه.
التصنيف لحاجة الناس وليس للتكاثر أو الاستكثار:
التصنيف والتأليف في عصرنا في كثير منه ليس لحاجة الناس إليها، وإنما لحاجة المصنف للكتابة من أجل الظهور والانتشار، والحصول على المال والجاه، ونيل المناصب والألقاب، وسماع المدح والثناء، ولهذا كثُرت المؤلفات، لكنَّ المفيد النافع منها قليلٌ، وأهل العلم يؤلفون لحاجة الناس؛ يقول الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ عن مؤلفات الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: مؤلفاته المتنوعة إنما كانت بحسب حاجة الناس إليها، ليست للتكاثر، أو للاستكثار، أو للتفنن، وإنما كتب فيما الناس بحاجة إليه، فلم يَكتُب لأجل أن يَكتُب، ولكن لأجل أن يدعوَ، وبين الأمرين فرقٌ.
الاستخارة عند التصنيف:
لقد كان من منهج بعض أهل العلم الاستخارة عند تصنيفهم للكتب:
قال الإمام ابن عقيل رحمه الله: ما صنَّف الإمام الشيرازي مسألةً إلا بعد أن يُصلي ركعتين.
قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: استخرت الله تعالى في عمل كتب التفسير.
وقال الإمام ابن خزيمة رحمه الله: كنتُ إذا أردت أن أصنِّفَ الشيء، دخلت الصلاة مستخيرًا حتى يفتح لي فيها، ثم أبتدئ التصنيف.
وقال القاضي ابن أبي يعلى رحمه الله في مقدمة كتابه "طبقات الحنابلة": هذا كتاب استخَرنا الله في تأليفه.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله في مقدمة كتابه لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف: وقد استخرت الله تعالى في أن أجمع في هذا الكتاب.
سؤال الله عز وجل الإعانة على التصنيف:
العبد إذا لم يكن له من الله عون وتسديد وتوفيق، فإن أول ما يقضي عليه هو اغترارُه بنفسه، وعدم افتقاره لربه، وكان أهل العلم يسألون الله عز وجل الإعانة في التصنيف؛ قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: سألت الله العون على ما نويته من تصنيف التفسير، قبل أن أعملَه بثلاث سنين، فأعانني.
وقال القاضي ابن أبي يعلى رحمه الله في مقدمة كتابه "طبقات الحنابلة": هذا كتاب سألنا الله المعونة على تصنيفه.
وقال الإمام الحاكم رحمه الله: شربتُ ماء زمزم، وسألت الله أن يرزقني حُسن التصنيف.
عدم الاستعجال في إخراج المصنفات:
قال الإمام ابن جماعة رحمه الله: لا يخرج تصنيفه من يده قبل تهذيبه وتكرير النظر فيه.
وعلى هذا سار أهل العلم، فهم لا يستعجلون في إخراج مصنفاتهم.
قال الإمام البخاري رحمه الله: صنَّفت كتبي ثلاث مرات.
والتصنيف الجاد عمل يحتاج لجهد كبير، ووقت طويل، قد يصل إلى سنين عديدة، ولا يخرج من ذلك إلا مَن منَحه الله موهبة عظيمة على التصنيف؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي ذُكِر أنه صنَّف كتابه العظيم: العقيدة الواسطية في جلسة بين المغرب والعشاء، فذلك فضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء، نسأل الله من فضله وجوده وكرمه.
لقد مكث بعض أهل العلم في التصنيف أعوامًا عديدة.
فممن مكث أربعين سنة:
الإمام مالك رحمه الله في كتابه: الموطأ.
والإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه: غريب الحديث.
والحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله في كتابه: الإصابة في تميز الصحابة.
والشيخ محمد بن الطاهر بن عاشور رحمه الله في كتابه: التحرير والتنوير.
والشيخ عبدالرحمن بن قاسم رحمه الله في حاشيته على كتاب: الروض المربع شرح زاد المستقنع.
وممن مكث ثلاثين سنة:
الإمام ابن عبدالبر رحمه الله في كتابه: التمهيد.
والإمام المزي رحمه الله في كتابه: تهذيب الكمال في أسماء الرجال.
ومحمد حمزة الفنري الرومي رحمه الله في مصنف له في أصول الفقه.
وممن مكث أكثر من خمس وعشرين سنة:
الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله في كتابه: فتح الباري شرح صحيح البخاري.
والشيخ محمد عبدالخالق عضيمة رحمه الله في كتابه: دراسات لأسلوب القرآن الكريم.
وممن مكث عشرين عامًا:
الإمام المزني رحمه الله في مختصره في الفقه.
وممن مكث خمسة عشر عامًا:
الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله في كتابه: الصحيح.
والزجاج النحوي رحمه الله في كتابه: معاني القرآن.
والإمام محمد السجستاني رحمه الله في كتابه: نزهة القلوب في تفسير غريب القرآن.
والإمام الشيرازي رحمه الله في كتابه: المهذب.
والإمام السرخسي رحمه الله في كتابه: المبسوط.
فما أحسن التأني في التصنيف، وعدم الاستعجال في إخراج المؤلفات؛ قال الدكتور عبدالرحمن العثيمين رحمه الله: أنا أكتشف كلَّ يوم جديدًا، وكلما تعمقتُ في البحث وتوسعت في دائرة التحري، تبيَّنَ لي أنني كنتُ في أوائل البحث.. فأحمَد الله تعالى على أنني لم أنشُر ما توصلت إليه، وإن كان كثيرًا ونافعًا، لكن كثرة البحث والتحري والجمع المتأني أكثر نفعًا وأعظم فائدة.
التعب وبذل الجهد من أجل جودة التصنيف:
لقد بذل أهلُ العلم جهدَهم في التصنيف؛ قال الإمام الطبراني رحمه الله عن كتابه المعجم الأوسط: هذا الكتاب روحي؛ لأنه تُعِبَ عليه، وقال الإمام المزني رحمه الله عن مختصره في الفقه: مكثت في تأليفه عشرين سنة، وألَّفتُه ثلاث مرات وغيَّرته.
عرض مصنفاتهم على أهل الاختصاص:
بعد أن ينتهي العالم من التصنيف يقوم بعرض مُصنفه على أهل الاختصاص لأخذ رأيهم فيه، فالإمام البخاري رحمه الله بعد أن صنَّف كتابه الصحيح، عرَضه على أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني رحمه الله، فاستحسنوه، وشهِدوا له بالصحة، إلا في أربعة أحاديث؛ قال العقيلي رحمه الله: والقول فيها للبخاري وهي صحيحة.
والإمام ابن ماجه القزويني رحمه الله عرض كتابه السنن على علي أبي زرعة الرازي.
والإمام أبو داود السجستاني رحمه الله عرَض كتابه السنن على الإمام أحمد بن حنبل، فاستجاده واستحسَنه.
سؤال الله عز وجل أن ينفع بمصنفاتهم:
بعد أن يبذل العالم وسعَه في التصنيف، يسأل الله جل جلاله أن ينفع به؛ قال الإمام البخاري رحمه الله: أنا أرجو أن يبارك الله تعالى للمسلمين في هذه المصنفات.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: الإمام الترمذي سأل الله عند فراغه من كتابه العلل النفعَ بما فيه، وألا يجعله وبالًا عليه برحمته.
اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً.
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
- التصنيف: