شعيب عليه السلام
خطيب الأنبياء، عربيٌّ بليغ فصيح، ينتسب إلى مدين بن مديان بن إبراهيم، أرسله الله نبيًّا إلى قومه أصحاب الأيكة، والأيكة شجرة كبيرة ملتفة كانوا يعبدونها، فعُرفوا بها
خطيب الأنبياء، عربيٌّ بليغ فصيح، ينتسب إلى مدين بن مديان بن إبراهيم، أرسله الله نبيًّا إلى قومه أصحاب الأيكة، والأيكة شجرة كبيرة ملتفة كانوا يعبدونها، فعُرفوا بها، أما مكانهم فكانوا قريبًا من منطقة معان جنوب الأردن، وقد وُجد في تلك المنطقة آثار مشابهة لآثار الحِجر، وهم قوم صالح، لكنها أكثر فنًّا، وأجود صنعة، فهي لا شك لأمة أرقى منهم وأحدث.
وكان قوم شعيب يسكنون في مكان له موقع تجاري مهم، ومنه جنوا أرباحًا كبيرة وأضحَوا تجارًا بين الجزيرة ومصر، وأصبح عندهم نهم للربح وجشع في البيع والشراء، وتسابقوا في تكوين الثروة غيرَ عابئين بالطرق المشروعة لجمعها، ولما تمادى غيُّهم وجمعوا بين الفساد العقدي والفساد الاجتماعي بحيث لا تستقيم مع هذه الأمور حياة الجماعة وانتظامها، وتختل الموازين وتسود الفوضى، وكما قال الشاعر:
لا يصلُحُ الناس فوضى لا سراةَ لهم *** ولا حياةَ إذا جهالهم سادوا
وقد اقتضَتْ حكمة الله تعالى أن يرسل على فترات رسلًا إلى الأقوام الذين بعدوا عن الطريق السوي: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، لقد قدَّس قوم شعيب الأيكة، وغشُّوا في السلع، ولعبوا بالموازين والمكاييل، فكان لا بد من إنذارهم للإقلاع عما يفعلونه قبل صب العذاب عليها صبًّا: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود: 84]، فكان المرسَل إليهم شعيبًا، وذكَّرهم بما يجب فعله ليعودوا إلى جادة الصواب؛ عبادة الله وحده، وعدم إنقاص الكيل والميزان، وقال لهم: لا حاجة بكم إلى التطفيف والإنقاص؛ فأنتم بخير ومالُكم وفير، فلماذا تفعلون هذا؟ وهل هناك عاقل يحب أن يكثر ماله من الغش والحرام، ولماذا المال الكثير فوق الحاجة؟! فالإنسان ليس له من المال إلا ما أكل فأفنى، ولبس فأبلى، والزائد عن هذا ليس له، وإنما هو لورثته، وعلى الجاني المحاسبة، إن كان من طريق مشروع، أو من الغش والسرقة، فماذا كان جواب قومه؟
إن الذين استمرؤوا أكل المال الحرام، وفتحت بطونهم للجشع، قلما يُصغون للنصائح، بل يعُدُّونها تدخلًا من الناصح فيما لا يعنيه، وفضولًا ليس له من دافع سوى الحسد، ولما رأى الإعراض أعاد عليهم النصح بأسلوب آخر، فيه تذكيرهم بأنهم قومه، ولهم عليه واجب النصح: {وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود: 85، 86]؛ فإفسادهم لم يكن في بلدهم؛ فقد شمِل بلدانًا أخرى؛ لأنهم كانوا يتعاملون بهذه الأخلاق مع المارين والمسافرين والتجار من البلدان الأخرى، فكانوا {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 2، 3]، ويحسَبون هذا التلاعب من باب البراعة في التجارة والحنكة، ولم يدروا أن الحنكة التجارية هي في الصدق، وسلامة البضاعة، ودقة المكيال والميزان، فلا بركة للمال إلا بهذا، ولا ينمو المال من السحت والحرام إلا ليحرق أصحابه، ويزيد من عبء حملهم الثقيل يوم القيامة.
أخرَج الترمذي عن عبيدالله بن رفاعة، عن أبيه، عن جده: أنه خرَج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى، فرأى الناس يتبايعون، فقال: يا معشر التجار، فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: «إن التجارَ يبعثون يوم القيامة فجَّارًا، إلا من اتقى الله وبَرَّ وصدَق»، وعن أبي سعيدٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التاجرُ الأمين الصَّدُوق المُسلِم مع الشهداء يوم القيامة»؛ (أخرجه ابن ماجه).
لكن الذين يجمعون من المال ولا يشبعون كأنهم الهِيم العطشى لا يصغون لمثل هذه النصائح التي تصادم نهمهم وأطماعهم، وجوابهم في كل العهود واحد: {قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87]، هذا مبدأ الحرية المطلقة الفاشلة، التي يتصرف فيها الفرد وفق هواه ومصلحته من غير مراعاة لما ينتج عن هذا التصرف من أضرار على قومه وبلاده، ويلاحَظ من رد قوم شعيب عليه السخريَّة والتعالي في كلامهم: أصلاتك تأمرك بتقديم هذه النصائح؟ وتظن نفسك أنك وحدك في هذا المجتمع الحليم الرشيد، عندنا الكبار والعقول وأهل الحِلم وأهل الحل والعقد، ولو كنا على خطأ من أمرنا لوجهونا إلى الصواب وهم أقدر منك على ذلك، وهكذا فهذه لغة كل عصر عندما يتعامل الناس وفق منهج معين وفيه مخالفات من أكل الربا، كما في البنوك الربوية، وفيه ضياع لحقوق قطاع كبير من الناس، وفيه إتلاف لأموال الأمة، فإذا كان النظام يجيز هذا في البلد فهو النظام الحق، طالما أن كبار القوم قد أقروه، هذه لغة المنافع لعصبة من الناس، فإذا أراد أن يقومها مصلح استصغروه وسخروا منه، ولكن رسل الله الذين كلفوا بالدعوة لهم صفة الجدال بالحق، وعدم الانكفاء حسرة على ما يرونه من سفاهة السفهاء وصد الأشقياء من الصدمة الأولى؛ لأن الله اختارهم من أهل الصبر والتحمل والقدرة على تنويع أسلوب الدعوة، فكان جوابه لهم يحرك العقل ويستثيره: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} [هود: 88] أرأيتم إن كنت على حجة واضحة لا شك في صحتها، ورزقني الله مالًا حلالًا من كسب حلال، أترون أني أشوبه بالمال الحرام وأخلطه به، لماذا أفعل هذا؟ إن فعلت هذا أكون جاهلًا بعيدًا عن التفكير السليم: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]، فهل تظنون أني أنهاكم عن شيء ثم أفعله وأرتكبه؟ معاذ الله، فأنا أشد منكم تطبيقًا لما أقول؛ فالحلال حلال لي ولكم، والحرام حرام علي وعليكم.
بهذا البيان الرائع وختامه الرشيق بعبارات لم يسبق إليها من قبل: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]؛ لذلك ضمنها الخطباء خطبهم فيما بعد، ثم تابع شعيب توجيه كلامه ليُحدِث عندهم قدرًا من الاستجابة ومكانًا في أفئدتهم لوقع كلامه عندما هز مشاعرهم بذكر الأمم البائدة التي تعرضت لغضب الله: {وَيَاقَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود: 89]، فبعد أن مر على ذكر ما أصاب الأمم البعيدة العهد لم ينسَ ما حل بجيرانهم قوم لوط، ولمَّا يمضِ عليهم زمن بعيد، ثم ندبهم إلى التوبة والاستغفار؛ لأن الله غفور رحيم: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90]، فهل نفع معهم هذا التذكير؟ وهل وجدت خطب شعيب البليغة وعظاته المؤثرة طريقها إلى القلوب فتابوا وآبُوا وعادوا إلى طريق الرشاد؟ لقد عادوا مرة أخرى للرد الساخر، وتقمصوا دور ذوي البله المصطنع: {قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91]، فشفعوا السخرية بالتهديد برجمه بالحجارة، ولكن الذي منعهم من رجمه رهطه؛ أي: إن شعيبًا لم يكن غريبًا في قومه، بل إن له عشيرة تمنعه منهم، ألم يقل لوط من قبله: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80]؛ أي: عشيرة تمنعه؛ فعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رحمة الله على لوط؛ لقد كان يأوي إلى ركن شديد، يعني الله عز وجل، فما بعَث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه»، ولكن شعيبًا لم يعبأ بهذا التهديد، بل مرره كأن لم يسمعه، وتابع جداله معهم بالتي هي أحسن: {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [هود: 92].
لكنَّ شعيبًا كان أكثر حظًّا من لوط، فقد آمن معه عدد من ذوي العقول الناضجة بالرغم من تهديد المتنفذين ووعيدهم بالنكال، فكان مما نهاهم عنه شعيب: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف: 86، 87].
وضاع التذكير بنعم الله في خضم الغوغائية المتسلطة، التي تملِك التجارة والمال ولها المصلحة الأولى في إبعاد الأمة عن الطريق السوي، والإيمان الذي يسكن القلوب كفيل بإحداث تغيير في الأخلاق والسلوك، وأخذِ هذه القلوب إلى المثالية والإصلاح، وبالتالي فإن كل الأخطاء الأخلاقية لن تحل إلا بالإيمان، والمؤمن لن يتحرك إلا ضمن شرع الله، وفي رضاء الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، فلا غشَّ ولا إنقاص في الكيل أو الميزان، ولقد دافع أصحاب المصالح عن مكاسبهم غير المشروعة بكل ما أوتوا من قوة: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [الأعراف: 88]، وهنا قرر المفسدون في الأرض إخراج شعيب والذين آمنوا معه إن استمروا في دعوتهم ولم يتراجعوا عنها؛ لأن الاستمرار في الدعوة معناه ازدياد الداخلين في الإسلام، وخلخلة النسبة المرتفعة للأغلبية الضالة، فإذا كان التهديد السابق بالرجم والتصفية الجسدية، وأخذهم رهط شعيب بالحسبان قد أوقف تنفيذ التهديد والتصفية الجسدية له، فقد هددوه في هذه المرة، إما الإبعاد أو التخلي عن الإيمان والأفكار المناهضة لإرادة الأغلبية الضالة، ولعل قبول أحد هذين الخيارين لا يثير عليهم رهط شعيب، لكن شعيبًا ليس بالضعيف الذي تهزه التهديدات؛ فقد وهَب نفسه للدعوة في سبيل الله، فإن من الخطأ الظن بأن يتراجع صاحب الحق عن حقه مهما كانت الصعاب، من يدعي الحق ثم يتراجع عنه أو عن بعضه فإنه كاذب في دعواه، ويتخذها سلمًا للوصول لهوى في نفسه: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89]، ومرة أخرى يختم خطابه بأسلوب بياني رائع، كأنما يخط لمن بعده نهجًا جديدًا في الخطاب الدعوي: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 89]، ولما لم يجِدْ منهم إلا الصد ومحاولة طرده هو ومن آمن معه من ديارهم، قال لهم: {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} [هود: 93]، وهنا تركهم يتحملون مسؤولية ضلالهم، وأنه تكلم بما فيه الكفاية، فابقوا كما أنتم، وسأبقى كما أنا أقوم بدعوتي، وسوف نرى من يأتيه العذاب الذي يخزيه ويظهر كذبه.
لكن قوم شعيب ساروا على منهج من كان قبلهم من أهل الضلال، فاستعجلوا العذاب: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 187]، وقد اختاروا عذابًا كسفًا وهم يظنون استحالة هذا النوع من العذاب؛ لأنهم لم يروه في حياتهم، لكن رب العالمين سيحقق لهم ما طلبوه: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 189]؛ فقد جاءهم يوم حار لم يطيقوه، ثم ظهرت في السماء غمامة ظللت أرضهم، فخرجوا جميعًا لفيئها، فانقلبت لهيبًا أحرقهم كأنها غبار بركاني خرج من فوهة بركان فغطى تجمُّعَهم وإذا بهم أشلاء محترقة تخرج رائحة الشواء من أجسامهم المنتنة: {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 90، 91]، ونجَّى الله شعيبًا والقلة المؤمنة، ونظر شعيبٌ إلى قومه وهم يتقلبون في العذاب غيرَ آسف لما حصل لهم، وقال: {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف: 93].
وقد ورد تعذيبهم وأخذهم بيوم الظلة، كما ورد بالرجفة، وهذا ما دعا بعض المفسرين إلى القول بأنه أرسل إلى أمتين؛ مدين وأصحاب الأيكة، فمنهم من عذبه الله بيوم الظلة، ومنهم من عذبه بالرجفة، والصحيح أنهم أمة واحدة، نسبوا مرة إلى المكان "أصحاب الأيكة" شجرة كبيرة قدسوها واستظلوا تحتها، وتارة نسبوا إلى رأس القبيلة "مدين"، أما العذاب فهو نوع واحد، فالظلة أي الرماد البركاني الحارق لا يخرج إلا إذا ثار البركان ثورة عنيفة وقذف هذه الظلة؛ لذلك كانت الرجفة من ثورة البركان، ثم تحريقهم بهذه السحابة التي خرجت من جوف البركان.
وقد ورد في قصة موسى عندما توجه تلقاء مدين أنه التقى بشعيب وهو شيخ كبير له ابنتان، تزوج موسى إحداهما، ولكن أشك في أن يكون الذي التقاه موسى شعيبًا، فلم يذكر موسى شيئًا عن دعوته خلال إقامته عنده عشر سنين، كما أن حالة ابنتيه ووقوفهما حتى يصدر الرعاء فيسقين أغنامهما ولا يساعدهما أحد إكرامًا لوالدهما النبي شعيب شيء غريب وغير معقول، والقول بأنه أخو شعيب أو من أحفاده وكان على دينه هو أقرب للصواب؛ لأن شعيبًا قد مات قبل عهد موسى بسنين طويلة، ولا يعقل أن تكون نهاية شعيب المكوث في البيت منزويًا وتخدمه ابنتاه ويعيش على الرعي عيشة البداوة وهو الذي كان يجادل قومه ويأمرهم وينهاهم.
وادعى بعض المفسرين أن شعيبًا كان أعمى، وهذا لا سند له، ومخالف لسنة الله في أنبيائه أنهم من خيرة الناس خلقًا وبيانًا وفصاحة وصبرًا وحلمًا وسلامة بدنية وعقلية، وإن أي نقص بدني في الرسل سيعرضهم إلى نقد المخالفين وهجومهم، واتخاذهم مثلًا على ضعف خالقهم الذي أرسلهم وهم بهذه العلة، وسيشتدون عليهم بالنقد، ألا ترى أن الله حين بعث طالوت لبني إسرائيل وكانوا مؤمنين لم يرضَوْا به لعلة فقره، ولولا أن زاده بسطة في العلم والجسم وأيده بالمعجزات لما قبلوه، وفي روضة المحبين عن علي رضي الله عنه قال: "لما كان الجمال من حيث هو محببًا للنفوس معظمًا في القلوب لم يبعث الله نبيًّا إلا جميل الصورة حسن الوجه، كريم الحسب، حسن الصوت".
____________________________________
د. محمد منير الجنباز
- التصنيف:
- المصدر: