باب نقض الكعبة وبنائها وباب جدر الكعبة وبابها
عن عائشة، قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجدر؟ أمن البيت هو؟ قال: «نعم»، قلت: فلم لم يدخلوه في البيت؟ قال: «إن قومك قصرت بهم النفقة» قلت: فما شأن بابه مرتفعًا؟ قال: «فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا....
عن عائشة، قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجدر؟ أمن البيت هو؟ قال: «نعم»، قلت: فلم لم يدخلوه في البيت؟ قال: «إن قومك قصرت بهم النفقة» قلت: فما شأن بابه مرتفعًا؟ قال: «فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا، ولولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم، لنظرت أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألزق بابه بالأرض».
وفي رواية: «لنقضت الكعبة، ولجعلتها على أساس إبراهيم».
وفي رواية: «وجعلت لها بابين بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر» قوله: «وزدت فيها ستة أذرع من الحجر»؛ (رواه مسلم دون البخاري).
وفي رواية لمسلم: «لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله».
وفي رواية لمسلم أيضًا أن البيت احترق في زمن يزيد بن معاوية حين غزاه أهل الشام، فشاور ابن الزبير الناس بين هدمه وبنائه وبين إصلاحه، فأشار ابن عباس إلى إصلاحه، فقال ابن الزبير للناس: لو كان أحدكم احترق بيته، ما رضي حتى يجده، فكيف بيت ربكم؟ إني مستخير ربي ثلاثًا، ثم عازم على أمري، فلما مضى الثلاث، أجمع رأيه على أن ينقضها، فتحاماه الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه، أمر من السماء، حتى صعده رجل فألقى منه حجارةً، فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا، فنقضوه حتى بلغوا به الأرض، فجعل ابن الزبير أعمدةً، فستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه، وقال ابن الزبير: إني سمعت عائشة تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر، وليس عندي من النفقة ما يقوي على بنائه...»، قال ابن الزبير: فأنا اليوم أجد ما أنفق ولست أخاف الناس، قال: فزاد فيه خمس أذرع من الحجر حتى أبدى أسًّا نظر الناس إليه، فبنى عليه البناء، وكان طول الكعبة ثماني عشرة ذراعًا، فلما زاد فيه استقصره، فزاد في طوله عشرة أذرع، وجعل له بابين....
تخريج الحديث:
الحديث أخرجه مسلم حديث (1333)، وأخرجه البخاري في "كتاب الحج"، "باب فضل مكة وبنيانها" حديث (1583)، وأخرجه النسائي في "كتاب مناسك الحج"، "باب بناء الكعبة" حديث (2900).
شرح ألفاظ الحديث:
♦ ((الجدر)): بفتح الجيم وإسكان الدال وهو الحجر المقوس بجانب الكعبة.
♦ ((إن قومك قصرت بهم النفقة)): أي إنه ليس عندهم من المال ما يبنوا به الحجر فيدخلوه.
♦ ((فما شأن بابه مرتفعًا)): أي عن الأرض لا يصعد إليه إلا بسلم.
♦ ((ولولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية))، وفي الرواية الأخرى: ((حديث عهدهم بكفر))، والمقصود أنه قريب عهدهم بالجاهلية والكفر.
♦ ((وأن ألزق بابه بالأرض)): فيكون غير مرتفع بدون درج.
♦ ((وزدت فيها ستة أذرع من الحجر))، [قوله: «وزدت فيها ستة أذرع من الحجر»؛ رواه مسلم دون البخاري]، وفي رواية ((سبع أذرع))، وفي أخرى ((خمس أذرع))، والتذكير والتأنيث في العدد لا يضر؛ لأن ((الذراع)) فيها لغتان مشهورتان التأنيث والتذكير، والتأنيث أفصح.
وأما الاختلاف في عدد الأذرع، فقد قال ابن حجر - رحمه الله -: "هذه الروايات كلها تجتمع على أنها فوق الستة ودون السبعة، أما رواية عطاء عند مسلم عن عائشة - رضي الله عنها -مرفوعًا: ((لكنت أدخل فيها من الحجر خمسة أذرع))، فهي شاذة؛ [انظر الفتح "كتاب الحج"، "باب فضل مكة وبنيانها" حديث (1583)].
♦ ((لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله))؛ أي لأنفقته في بناء الكعبة، قال النووي - رحمه الله: "جاء في رواية: لأنفقت كنز الكعبة في بنائها، وبناؤها في سبيل الله"؛ [انظر شرح النووي لمسلم حديث (1333)].
♦ ((حتى يجده)): أي يجعله جديدًا.
♦ ((فتحاماه الناس)): أي امتنعوا عن نقض البيت خوفًا وهيبة من أن ينزل بأول من يبدأ بنقض البيت عذابًا من السماء.
♦ ((فجعل ابن الزبير أعمدةً، فستر عليها الستور))، جعل هذه الأعمدة والستور مؤقتة ليستقبلها المصلون في تلك الأيام التي يكون فيها البناء.
♦ ((حتى أبدى أسًّا)): الأس هو الأساس، والمقصود به أساس إبراهيم عليه السلام، وأراه الناس ليشهدوا ويتحققوا.
♦ ((وجعل له بابين)): أي كما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا.
♦ حين بنى إبراهيم عليه السلام البيت لم يكن له سقف وكان بابه بالأسفل، وله بابان شرقي وغربي، ولما احترق البيت أصبحت حجارتها هشة ضعيفة وتساقطت، قامت قريش ببنائها، واشترك معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن خمس وثلاثين، وقيل: خمس وعشرين، ووضع الحجر الأسود في مكانه من بنائه، بنت قريش الكعبة على قواعد إبراهيم عليه السلام من ثلاث جهات، أما الجهة الرابعة فقد نقصتها نحو ستة أذرع؛ لأنها نقصت بهم النفقة، وأحاطت الجزء المتروك منها بحائط قصير نصف دائري هو الحجر المعروف، وجعلوا للكعبة بابًا واحدًا، ورفعوه ليدخلوا من شاءوا، ويمنعوا من شاؤوا، وتمنى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد البيت كما كان له بابان، والباب يلصقه بالأرض، ويدخل ستة أذرع من جهة الحجر، ولكنه خشي الفتنة على القوم، وبلغت عائشة - رضي الله عنها - هذه الأمنية ابن أختها عبدالله بن الزبير - رضي الله عنهما - حين بويع خليفة من أهل الحجاز وكثر المال بيده، وشاور الناس، ثم قام بكل ما تمناه النبي - صلى الله عليه وسلم - فهدم البيت وبناه على قواعد إبراهيم عليه السلام، وجعل بابه بالأسفل وله بابان، وأدخل ما أراده النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحجر، فلما قتل ابن الزبير - رضي الله عنه - على يد الحجاج وعصابته، كتب الحجاج إلى عبدالملك بن مروان ليعيد البناء على ما كان عليه قبل ابن الزبير فهدمه وبناه كما كان، فاستمر على هذه الصورة إلى يومنا هذا.
ويقال: أنه لما تولى هارون الرشيد استشار مالكًا رحمهما الله أن يرد البيت إلى ما بناه ابن الزبير رضي الله عنهما، فأشار عليه ألا يفعل وقال له: لا تجعل بيت الله ملعبة للملوك كلما جاء ملك غيَّر، فترَكه.
♦ فائدة:
ذكر النووي - رحمه الله - في المجموع أن الكعبة بنيت خمس مرات؛ إحداهما: بنتها الملائكة قبل آدم عليه السلام، ثم حج إليها آدم عليه السلام، والثانية: بناها إبراهيم عليه السلام، والثالثة: بنتها قريش في الجاهلية، وهي التي حضرها النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، والرابعة: بناها ابن الزبير رضي الله عنهما، والخامسة: بناها الحجاج بن يوسف في خلافة عبدالملك وهي التي استقرت إلى الآن؛ [انظر فتح المنعم (5 / 378)].
♦ من فوائد الحديث:
الفائدة الأولى: الحديث دليل على قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهي أنه إذا عارضت المصلحتان أو تعارض فعل مصلحة، وترك مفسدة، يقدم الأهم، أو يقال: [درء المفاسد مقدم على جلب المصالح] إذا كانت المصلحة غير متعينة، ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك مصلحة إعادة البيت كما كان على قواعد إبراهيم عليه السلام وهيئته في السابق، وذلك لاجتناب مفسدة قد تحدث، وهي إنكار قلوب من حوله من ضعاف الإيمان الذين دخلوا في الإسلام حديثًا.
الفائدة الثانية: الحديث دليل على ترك الأفضل إلى المفضول خشية المفسدة، وهذا مطلب عظيم ينبغي أن يراعى دل عليه قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، فنهى الله تعالى عن سب الآلهة وسب آلهتهم شيء فاضل لأنها تستحق، ويفعل الشيء المفضول، وهو عدم السب خشية مفسدة وهي أن يسبوا الله تعالى.
الفائدة الثالثة: الحديث فيه بيان كيف وجد الحجر، وهو من عمل قريش، وبهذه الطريقة يعلم جهل من يسميه حجر إسماعيل، وإسماعيل عليه السلام لم يره في الأصل.
الفائدة الرابعة: الحديث فيه بيان أهمية الاستشارة، وهذا يتضح من مشاورة ابن الزبير - رضي الله عنه - للناس في هدم الكعبة، وهو خليفة، إلا أنه يتضح عند الغير ما لا يفطن له هو.
الفائدة الخامسة: الحديث فيه دلالة على جواز إضافة الشيء إلى سببه دون ذكر الله جل وعلا، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب: «ولولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية»، ومثله قول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين من حديث العباس - رضي الله عنه - في عمه أبي طالب: ((لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار))، فأضاف الأمر إلى سببه ولم يقل: ((لولا الله ثم أنا))، ويتحصل من هذا أنه يجوز ذلك ما دام أن قلب القائل مُقر بأن الأمر كله بيد الله تعالى.
عبد الله بن حمود الفريح
حاصل على درجة الدكتوراه من قسم الدعوة والثقافة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى، عام 1437هـ.
- التصنيف: