آثار الذنوب
وَهَلْ تُهزمُ الجيوشُ، وتَذِلُّ الأممُ إلا بالذنوبِ والمعاصِي.
الْحَمدُ للهِ.. أيُّها المؤمنونَ.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ للطَّاعةِ مِنَ البركةِ ما يَبْقَى حتى بعدَ موتِ صاحِبِها. قَالَ سبحانَهُ: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9].
وفي قصةِ موسى معَ الخَضِرِ: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82].
وإنَّ للمعصيةِ ضررًا وشؤمًا يلحقُ صاحبَها ولو بَعدَ الموتِ، كما قَالَ سبحانَهُ عنْ آلِ فرعونَ: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46].
وقَالَ تعالى عنْ بني إسرائيلَ: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 166، 167].
قَالَ ابنُ القيِّمِ - رَحِمَهُ اللهُ -:
هَلْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ شَرٌّ وَدَاءٌ إِلاَّ سَبَبُهُ الذُّنُوبُ وَالْمَعَاصِي؟
ما الذي أخرجَ الأبوينِ مِنَ الجنّةِ دارِ النَّعيمِ والبهجَةِ والسرورِ، إلى دارِ الآلامِ والأحزانِ والمصائبِ؟.
وما الذي أخرجَ إبليسَ مِنْ ملكوتِ السماءِ وطردَه ولَعَنَه، ومسخَ ظاهرَه وباطنَه فَجَعَلَ صورتَهُ أقبحَ صورةٍ وأشنَعَها، وباطِنَه أقبحَ مِنْ صورتِه وأشْنَعَ، وبُدِّلَ بالقربِ بُعدًا وبالرحمةِ لَعْنَةً، وبالجمالِ قُبْحًا، وبالجَنَّةِ نارًا تلظى، وبالإيمانِ كُفرا، وبِموالاةِ الوليِّ الحميدِ أعظمَ عداوةٍ ومُشاقّةٍ، وبِزَجَلِ التسبيحِ والتقديسِ والتهليلِ زَجَلَ الكفرِ والشِّركِ والكَذِبِ والزورِ والفُحْشِ، وبلباسِ الإيمانِ لباسَ الكفرِ والفسوقِ والعصيانِ، فهانَ على اللهِ غايةَ الهوانِ، وسَقَطَ مِنْ عينِهِ غايةَ السقوطِ، وحَلَّ عليه غضبُ الربِّ تعالى فأهْواهُ، ومَقَتَهُ أكبرَ المقتِ فأرْدَاهُ، فَصَارَ قَوّادًا لكُلِّ فاسقٍ ومُجرمٍ. رَضِيَ لنَفْسِهِ بِالقيادةِ بَعْدَ تِلْكَ العِبادةِ والسِّيادةِ! فَعِيَاذًا بِكَ اللهمَّ مِنْ مخالفةِ أمرِك، وارتكابِ نهيِك.
وما الذي أغرقَ أهلَ الأرضِ كلَّهُم حتى علا الماءُ فوقَ رؤوسِ الجبالِ؟ وما الذي سَلَّطَ الريحَ على قومِ عادٍ حتى ألقتْهُم مَوتى على وجهِ الأرضِ كأنَّهُم أعجازُ نخلٍ خاويةٍ. ودَمَّرَتْ ما مَرَّ عليه مِنْ ديارِهم وحرثِهم وزروعِهم ودوابِّهم، حتى صاروا عبرةً للأممِ إلى يومِ القيامةِ؟
وما الذي أرْسَلَ على قومِ ثمودَ الصيحةَ حتى قَطّعَتْ قلوبَهم في أجوافِهم، وماتوا عَنْ آخِرِهِم؟
وَمَا الذي رَفعَ قُرى اللوطيةِ حتى سَمِعَتْ الملائكةُ نبيحَ كلابِهم، ثُمَّ قَلَبَهَا عَليهِم فَجَعَلَ عاليَها سافِلَها فَأهَلَكَم جميعا، ثم أتْبَعَهُم حجارةً مِنَ السماءِ أمطرَها عليهم، فَجَمَعَ عليهم مِنَ العُقوبةِ ما لم يَجْمَعْهُ على أُمّةٍ غيرِهم؟ ولإخوانِهِم أمثالُها، وما هيَ مِنَ الظالمينَ ببعيد.
وما الذي أرسلَ على قومِ شُعيبٍ سحابَ العذابِ كالظُّلَلِ فلما صَارَ فوقَ رؤوسِهِم أمْطرَ عَليهِم نارًا تلظى؟
وما الذي أغْرقَ فِرعونَ وقومَه في البحْرِ، ثم نَقَلَ أرواحَهم إلى جهنمَ؛ فالأجسادُ للغرقِ، والأرواحُ للحَرَقِ؟
ومَا الذي خَسَفَ بِقارونَ ودارهِ ومالِهِ وأهلِه؟
وما الذي أهلكَ القرونَ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ بأنواعِ العقوباتِ ودمَّرها تدميرا؟
وما الذي بعثَ على بني إسرائيلَ قومًا أُولِي بأسٍ شديدٍ فجاسُوا خلالَ الديارِ، وقَتَّلُوا الرِّجَالَ، وسَبَوا الذراريَ والنِّساءَ، وأحرَقُوا الديارَ ونَهَبُوا الأمَوالَ، ثم بَعَثَهُم عَليهِم مرةً ثانيةً فأهْلَكُوا ما قَدَرُوا عليه، وتَبَّرُوا ما عَلَو تتبيرا؟
إنَّها الذنوبُ المهلكاتُ. قَالَ سبحانَهُ: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام: 6]. وقَالَ عز وجل: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [غافر: 21].
وَصَدَقَ اللهُ: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40].
رَوَى الإمامُ أحمدُ في الزُّهدِ وغيرُه عَنْ جُبيرِ بنِ نُفيْرٍ قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ قبرصُ فُـرِّقَ بين أهلِها فبكى بَعضُهم إلى بعضٍ، ورأيتُ أبا الدرداءِ جالسًا وَحْدَه يَبْكي، فَقُلتُ: يا أبا الدرداءِ! ما يُبْكِيكَ في يومٍ أعزَّ اللهُ فيه الإسلامَ وأهلَه؟ قَالَ: ويحَك يا جبيرُ؛ ما أهْونَ الخلقَ على اللهِ إذا أضاعوا أمرَه. بينا هِيَ أمةٌ قاهرةٌ ظاهرةٌ لَهُمُ الملكُ، تركوا أمرَ اللهِ فَصَارُوا إلى ما ترى.
إنَّه لَيسَ هُناكَ أحدٌ بَيْنَه وَبَيْنَ اللهِ نَسَبٌ، ولِذا قَالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ: «وَمَنْ بَطَّأ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يَسرِعْ بِهِ نَسَبُهُ». (رَوَاهُ مسلمٌ).
فَعَمَلُ المسلمِ هُوَ حَسَبُه وَنَسَبُه وَهُوَ فَخْرُهُ وَشَرَفُه في الدُّنيا والآخِرَةِ.
أيّها المؤمنون:
إنَّه لو لَمْ يكُنْ مِنْ شُؤمِ المعصيةِ إلا أنَّ صَاحِبَها وإنْ مَضَى في الغابرينَ، وذهَبَ في الذّاهبينَ لا يَزالُ يُكتبُ عليه إثْمُها، ويَجري عليه عَذابُها، إذا كانتْ متعديةً.
قَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا تُقتلُ نفسٌ ظُلما إلا كانَ على ابنِ آدمَ الأولِ كِفلٌ مِنْ دمِهَا لأنَّه أولُ مَنْ سَنَّ القتلَ» (رَوَاهُ البخاريُّ ومسلمٌ).
وَمِثْلُهُ آثامُ المُغنّينَ والمُغنّياتِ، ومَنْ يَنشُرُ السُّوءَ والكَذِبَ، وسائرُ أهلِ المعاصي الذين لا تزالُ معاصيهُم بينَ الناسِ عَبْرَ الوسائل المرئيةِ والمسموعةِ، فإنَّه كُلما استمعها مُستَمِعٌ أو شاهَدَها مُشاهِدٌ كُتِبَ عَليهِم مِثْلُ آثامِ مَنْ استمعَ أو شاهَدَ، ويتوبُ اللهُ على مَنْ تَابَ.
يدلُّ على ذلِكَ قولُهُ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» (رَوَاهُ مسلمٌ).
عبادَ الله:
إن للمعصيةِ أثرًا يُريهُ الله عِبادَه لعلهم ينتهون:
قَالَ ابنُ القيِّمِ: ومِنْ آثارِ الذنوبِ والمعاصي أنها تُحدِثُ في الأرضِ أنواعا مِنَ الفسادِ في المياهِ والهواءِ والزرعِ والثمارِ والمساكنِ قَالَ تَعالَى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] فالمرادُ بالفسادِ والنقصِ والشرِّ والآلامِ التي يُحدِثُها اللهُ في الأرضِ بِمعاصي العبادِ، فكلَّما أحدثوا ذنْبا أحْدَثَ لهمْ عقوبةً، كَمَا قَالَ بعضُ السَّلفِ: كُلَّما أحدثتُم ذنبا أحْدَثَ اللهُ لكُم مِنْ سُلطانِهِ عقوبةً، والظَّاهِرُ واللهُ أعْلَمُ أنَّ الفسادَ المرادُ بِهِ الذنوبُ وموجباتِها، ويدُلُّ عليهِ قولُهُ تعالى: {النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم: 41] فهَذَا حالُنَا، وإنَّما إذاقَنَا الشيءَ اليسيرَ منْ أعمالِنَا، فَلَو أذاقَنَا كلَّ أعمالِنَا لَمَا ترَكَ على ظهرِهَا منْ دابةٍ...
وكثيرٌ مِنْ هذه الآفاتِ أحدَثَها اللهُ سَبحَانَه وتعالى بِما أحدثَ العبادُ مِنَ الذُّنوبِ.اهـ.
وإنَّ مِنْ شؤمِ المعصيةِ على صاحِبِها ما يلي:
1- أنَّ المعصيةَ تُورِثُ صاحِبَها وحشةً في القلبِ، وتَكونُ سببًا في حِرْمانِ العِلْمِ والتوفيقِ:
وذلِكَ أنَّ القَلبَ بيْتُ الربِّ – تعظيما وإجلالًا – فإذا عُمِّرَ بَغيرِ ذِكْرِ مولاه أظلَمَ، وبِقَدْرِ إعراضِ العبدِ عنْ ذِكْرِ اللهِ يكونُ لَديهِ مِنَ الضّنْكِ وضيقِ الصّدرِ وانقباضِ النَّفْسِ، وإنْ انطَلَقَ صاحبُها في الحياةِ فَهُوَ غيرُ سعيدٍ، لأنَّ التّقيَّ هُوَ السعيدُ.
قال ابنُ عباسٍ وأنسُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم: إنَّ للحسنةِ نورا في القلبِ، وزينا في الوَجْهِ، وقوةً في البَدَنِ، وَسِعَةً في الرِّزْقِ، وَمحبةً في قلوبِ الخلْقِ، وإنَّ للسيئةِ ظُلمةً في القلْبِ، وشينا في الوَجْهِ، وَوَهنا في البَدَنِ، ونقصا في الرِّزْقِ، وبُغْضَةً في قلوبِ الخلقِ.
2- أنَّ صاحِبَ المعصيةِ تَلعنُه حتى البهائمَ، بِخَلافِ صاحِبِ الطاعَةِ:
قَالَ مجاهدٌ في تفسيرِ قَولِه تعالى: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159]. قَالَ: إنَّ البهائمَ تلعنُ عصاةَ بني آدمَ إذا أشتدّتِ السنةُ وأمسكَ المطرُ، وتقولُ: هَذَا بشؤمِ معصيةِ ابنِ آدمَ.
أمَّا صاحبُ الطاعةِ فقَالَ فِيهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ وملائكتَهُ وأهلَ السماواتِ والأرَضينَ حتى النَّملةَ في جُحرِهَا وحتى الحوتَ لَيُصَلُّون على مُعلِّمِ الناسِ الخيرَ» (رَوَاهُ التـرمذيُّ وابنُ ماجه، وهُو حديثٌ صحيحٌ).
وقَالَ صلى الله عليه وسلم لَمّا مُرَّ عليه بجنازةٍ: «مستريحٌ ومُستراحٌ منه» قَالُوا: يا رسولَ اللهِ مَا المستـريحُ والمستـراحُ مِنهُ؟ فقَالَ: «العبدُ المؤمنُ يستـريحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنيا، والعبْدُ الفَاجِرُ يَستـريحُ مِنهُ العِبادُ والبلادُ والشَّجَرُ والدَّوابُ» (رواه البخاري ومسلم).
3- حِرْمانُ الطاعةِ، وذلك أنَّ الطاعةَ قُربةٌ إلى الملكِ الديَّانِ، فَلا يَجِدُ عبدٌ لذةَ الطاعةِ إلا بابتعادِهِ عنِ المعصيةِ، ولِذَا قَالَ سُبْحانَه في المنافقينَ: «وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ» [التوبة: 46].
قَالَ الفضيلُ: إذا لمْ تقْدِرْ على قيامِ الليلِ، وصيامِ النهارِ، فاعلمْ أنَّكَ مَحرومٌ مُكبَّلٌ كبَّلتْكَ خطيئتُكَ.
وقَالَ شابٌ للحسنِ البصريِّ: أعياني قيامُ الليلِ، فقَالَ: قيَّدتْكَ خطاياك.
وقَالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: إنَّ في الدنيا جَنّةٌ مَنْ لم يَدخلْها لا يَدخلُ جنةَ الآخِرَةِ.
4- أنَّ المعاصيَ سببٌ لِهوانِ العبدِ على ربِّه وهوانِه على الناس، فلا عِزّةَ إلا في طاعةِ العزيزِ سبحانَه:
وكتبتْ عائشةُ أمُّ المؤمنينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا إلى معاويةَ: أمَّا بَعْدُ، فإنَّ العامِلَ إذا عَمِلَ بمعصيةِ اللهِ عَادَ حامِدُه مِنَ النَّاسِ ذامًّا.
قَالَ الحسنُ البصريُّ عَنِ العُصاةِ: هانُوا عليهِ فَعَصَوه، ولو عـَزُّوا عَليْهِ لَعَصَمَهُم.
وقَالَ مُحَارِبُ بنُ دِثَارٍ: إنَّ الرَّجُلَ ليَذْنِبُ الذَّنْبَ فَيَجِدَ لَهُ في قَلْبِهِ وَهْـنا.
وقَالَ الفضيلُ بنُ عِياضٍ: ما يؤمِّنُكَ أنْ تَكونَ بارزتَ اللهَ تعالى بِعَمَلٍ مَقَتَكَ عليه فَأغْلَقَ عَنْكَ أبوابَ المغفرةِ وأنْتَ تَضْحَكَ.
وقَالَ الحسنُ: ما عصى اللهَ عبدٌ إلا أذلَّهُ اللهُ.
وقال المعتَمِرُ بنُ سليمانَ: إنَّ الرّجُلَ ليُصيب الذَّنْبَ في السِّرِّ فيُصبِح وَعَليْهَ مَذلَّتُهُ
وقَالَ عبدُ اللهِ بنُ المبارَكِ:
رأيتُ الذنوبَ تميتُ القلوبَ *** وقد يورِثُ الذُّلَّ إدمانُها
وتركُ الذنوبِ حياةُ القلوبِ *** وخيرٌ لنفسِكُ عِصيــانُها
5- أنَّ المعصيةَ إذا أحاطتْ بصاحبِها أدخَلَتْهُ النارَ، قَالَ سُبْحَانَهُ: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81] وإنَّ الذنوبَ إذا اجتَمَعتْ أهلكتْ صاحِبَها، كَمَا قَالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إياكُمْ وَمُحقِّراتِ الذنوبِ، فإنَّهنُّ يَجتمعْنَ على الرَّجُلِ حتى يَهلِكْنَهُ». رَوَاهُ الإمامُ أحمدُ.
قال ابنُ القيِّمِ:
واعلمْ أنَّ العقوباتِ تَختلِفُ فتارّةً تُعَجَّلُ وتَارّةً تؤخَّرُ وتارَّةً يَجمعُ اللهُ على العاصي بينَهما وأشدُّ العقوباتِ العقوبةُ بسلْبِ الإيمانِ ودونَها العقوبةُ بموتِ القلْبِ وَمَحْوِ لَذَّةِ الذِّكْرِ والقِراءةِ والدُّعَاءِ والمناجَاةِ مِنْه وربّما دبتْ عقوبةُ القلبِ فيه دبيبَ الظلمةِ إلى أنْ يمتلئَ القلبُ بِهما فتَعْمَى البصيرةُ وأهونُ العقوبةِ ما كَانَ واقعا بالبَدَنِ في الدنيا وأهونُ منها ما وَقَعَ بالمالِ ورَبما كانتْ عقوبةُ النَّظَرِ في البَصِيرَةِ أو في البَصَرِ أو فيهما. اهـ.
6- أنَّ الذنوبَ تخونُ صاحبَها في أحْلَكِ الظروفِ، وأصْعبِ المواطِنِ، خَاصَةً عِنْدَ الموتِ:
قَالَ ابنُ القيِّمِ: وَمِنْ عقوباتِها - أيِ المعاصي - أنَّها تخونُ العبدَ أحوجَ ما يكونُ إلى نفْسِهِ وثُمَّ أمرٌ أخْوفُ مِنْ ذلِكَ وأدْهَى وأمرُّ وهُوَ أنْ يَخونَهُ قلبُهُ ولِسَانُهَ عِنْدَ الاحتضارِ والانتقَالِ إلى اللهِ تعالى، فَربما تعذَّرَ عليه النُّطقُ بالشَّهادَةِ، كَمَا شَاهَدَ الناسُ كثيرا مِنَ المحتضَرينَ أصابَهُم ذلِكَ، حتى قيلَ لِبَعضِهِم: قُلْ لا إلِهَ إلا اللهُ، فقَالَ: آه آه. لا أستطيعُ أنْ أقولَها، وقيلَ لآخَر: قُلْ لا إلَهَ إلا اللهُ، فَجعَلَ يهذي بالغِنَاءِ، وقَالَ: وما يَنْفَعُني ما تَقُولُ، ولَمْ أدَعْ معصيةً إلا رَكِبتُها ثم قَضَى، ولَمْ يَقُلْها، وقِيلَ لآخَر ذلِكَ، فقَالَ: وما يُغني عَنِّي، وما أعْلَمُ أنَّي صليتُ للهِ تَعَالى صلاةً، ثُمَّ قَضَى، ولَمْ يَقُلْها، وقيلَ لآخَر ذلِكَ فقَالَ: هُوَ كافِرٌ بِما تقولُ، وَقَضَى، وَقِيلَ لآخَـر ذلِكَ، فقَالَ: كلما أردتُ أنْ أقولَها فلِسَاني يُمسِكُ عَنْها. اهـ.
وَهَلْ تُهزمُ الجيوشُ، وتَذِلُّ الأممُ إلا بالذنوبِ والمعاصِي.
وَهَلْ أصَابَ الصحابةُ مَا أصَابَهم يومَ أُحُدٍ وحُنينٍ إلا بشؤمِ المعْصِيةِ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 155] ﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾ [التوبة: 25] فهؤلاءِ الأخيارُ الأبرارُ أصَابَهم ما أصَابَهم بذنبٍ واحِدٍ، فَمَا بالُ مَنْ جَمَع المئينَ.
يــا نَاظِــرًا يــرنو بِـعـيـنـيّ راقـــــدِ *** ومُـشاهِدًا للأمْرِ غيرُ مشاهِدِ
تَصِلُ الذنوبَ إلى الذنوبِ وتَرتَجِي *** دَرْجَ الجنانِ ونَيْلَ فوزِ العابِدِ
أنــسيـتَ ربَّـكَ حِـيـنَ أَخْـرَجَ آدمـا *** مِنْـهـا إلى الدُّنيا بِذنبٍ واحِدِ
قال عبدُ اللهِ بنُ المدينيِّ: خَرَجْنَا مع إبراهيمَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ حسنٍ فَعَسْكَرْنا بِبَاخَمْرا، فطُفْنا ليلةً، فَسَمِعَ إبراهيمُ أصواتَ طنابيرَ وغِنَاءٍ، فَقَالَ: ما أطْمَعُ في نَصْرِ عَسْكَرٍ فيه هذا!
وقَالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رَحِمَهُ اللهُ: فَلمَّا ظَهَرَ النِّفاقُ والبِدَعُ والفجورُ المخالِفُ لدينِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ سُلِّطتْ عليهمُ الأعداءُ فَخَرَجَتِ الرومُ النصارى إلى الشامِ والجزيرةِ مرةً بَعْدَ مرةٍ، وأخذوا الثغورَ الشاميَّةَ شيئا بَعْدَ شيءٍ إلى أنْ أخذوا بيتَ المقْدِسِ في أواخِرِ المائةِ الرابعةِ، وَبَعْدَ هذا بمدةٍ حاصروا دِمَشْقَ، وَكَانَ أهلُ الشامِ بأسوأِ حالٍ بينَ الكُفَّارِ النَّصارى والمنافقينَ الملاحدةِ إلى أنْ تَولّى نورُ الدِّينِ الشهيدِ وَقَامَ بما قَامَ بِهِ مِنْ أمْرِ الإسلامِ وإظهارِهِ والجهادِ لأعدائِهِ. اهـ.
7- أنَّ الذنوبَ مِنْ أعظمِ أسبابِ ذهابِ البَرَكةِ مِنَ الأموالِ، بَلْ ومِن حياةِ النَّاسِ عموما:
ففي صحيحِ مسلمٍ مِنْ حَديثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَال: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَّالَ وما يَكونُ بَعْدَهُ مِن خُروجِ يأجوجَ ومأجوجَ، ثمَّ قَالَ: «ثُمَّ يُقَالُ لِلأَرْضِ: أَنْبِتِي ثَمَرَتَكِ، وَرُدِّي بَرَكَتَكِ، فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنْ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا، وَيُبَارَكُ فِي الرِّسْلِ حَتَّى أَنَّ اللِّقْحَةَ مِنْ الإِبِلِ لَتَكْفِي الْفِئَامَ مِنْ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنْ الْبَقَرِ لَتَكْفِي الْقَبِيلَةَ مِنْ النَّاسِ».
وقد أثَّرتْ المعاصي حتى في الحجَرِ الأسودِ.
وفي الحديثِ: «نَزَل الحجرُ الأسودُ مِنَ الجَنَّةِ وَهُوَ أشدُّ بياضا مِنَ اللبَنِ، فَسَوّدتْهُ خطايا بني آدمَ». رَوَاهُ الترمذيُّ، وَقَالَ: حَديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَصَحَّحَهُ الألبانيُّ.
قَالَ ابنُ القيِّمِ: ومِنْ تأثيرِ معاصِي اللهِ في الأرضِ مَا يَحِلُّ بها مِنَ الخَسْفِ والزلازلِ ويَمحَقُ بركَتَهَا، وقَدْ مَرَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على ديارِ ثَمودَ فمَنَعَهُم مِنْ دخولِ ديارِهِم إلا وَهُمْ بَاكُونَ، ومَنْ شُرْبِ مياهِهِم وَمِنَ الاستسقاءِ مِنْ أبيارِهِم، لتأثيرِ شؤمِ المعصيةِ في الماءِ. وكذلِكَ شؤمُ تأثيرِ الذنوبِ في نَقْصِ الثمارِ وما تَرَى بِهِ مِنَ الآفاتِ، وقَدْ ذَكَرَ الإمامُ أحمدُ في مُسنَدِهِ في ضِمْنِ حديثٍ قَالَ: وُجِدتْ في خزائنِ بعضِ بَني أميةَ حُنطةٌ الحبةُ بِقَدْرِ نواةِ التمرةِ، وهي في صُرةٍ مكتوبٌ عليها: كَانَ هذا ينبتُ في زَمَنٍ مِنَ العدلِ.
8- أنَّ الذنوبَ تُغطِّي القلبَ، حتى تَنقِلَبَ عليه الحقائقُ، فلا يَعْرِفُ معروفًا ولا يُنكِرُ مُنكَرًا:
قَالَ صلى الله عليه وسلم: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ» (رَوَاهُ مُسلِمٌ).
وَضِدُّها التقوى؛ فَبِها تُكشفُ وجوهُ الحقائقِ، ويُميّز المسلِمُ بين الحقِّ والباطِلِ، قَالَ سُبحانَهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].
والذنوبُ تَكونُ بِمثابةِ الغِطاءِ على القلبِ، فلا يَذكُرُ اللهَ عز وجل، ولا يَتَذَكّرُ الدَّارَ الآخِرَةَ، فيُحْجَبُ قَلبُه في الدُّنيا عَنْ رَبِّه، ثُمَّ يَحجِبُه ربُّهُ جل جلاله عنْ رؤيةِ وجهِهِ الكريمِ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} [المطففين: 14 - 16].
9- أنَّ الذُّنوبَ والمعاصيَ سَبَبٌ في زوالِ النِّعَمِ:
قَالَ سُبْحانَهُ وبِحَمْدِهِ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
قَالَ الإمامُ الشافعيُّ:
إذا كَنْـتَ في نعمةٍ فَارْعَها *** فإنَّ المعاصيَ تُزيلُ النِّعم
وحُطْـها بِطاعةِ ربِّ العبادِ *** فَـرَبُّ العـبادِ سريعُ النِّقَم
10- وَمِنْ شُؤمِ المعصيَةِ أنَّها تَكونُ سببًا في عذابِ القبرِ، فَقَدْ مَرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على قبـريْنِ فقَالَ: " «أمَا إنّـهُما ليُعذَّبَانِ وَمَا يَعذَّبَانِ في كبيرٍ [ثمَّ قَالَ: بَلَى] أمَّا أَحَدُهُما فَكَانَ يَمشي بالنميمةِ، وأمَّا الآخَرُ فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَولِهِ» (رَوَاهُ البُخاريُّ وَمُسلِمٌ).
الثانية:
مِنْ عقوباتِ المعاصي في الآخِرَةِ:
ما يَكونُ مِن عذابِ المتكبّرينَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولِسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ» رَوَاهُ أحمدُ والترمذيُّ، وهُوَ صَحَيحٌ.
وَثَمَّةَ سؤالٌ يَرِدُ أحيانًا: لماذا يتنعَّمُ الكفّارُ في هذه الحياةِ الدنيا، ولا تُصيبُهم هذه العقوباتُ؟
وجوابًا عنه أقولُ:
أولا: لا يَخفى على كلِّ ذي لُبٍّ ما يُصيبُهم مِنْ كوارِثَ وزلازِلَ وأعاصِيرَ وفيضاناتٍ وغيرِها مِما هُوَ مُشاهَدٌ وواضِحٌ.
ثانيًا: أنَّ الكُفَّارَ عُجِّلتْ لهم طيّباتُهم في هذه الحياةِ، قَالَ الحقُّ تَبَارَكَ وتَعَالى: «وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ» [الأحقاف: 20].
وصحَّ عنِ المعصومِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «الدُّنيا سِجْنُ المؤمنِ، وَجَنَّةُ الكافِرِ» (رَوَاهُ مسلِمٌ).
وإذا كَانَ الأمرُ كذلِكَ فإنَّ الكُفَّارَ يَعيشونَ جَنّتَهُم في هذه الحياةِ الدُّنيا، وما يُصيبُهم مِنْ أمراضٍ وكوارِثَ وغيرِها إنّما هِيَ بَعْضُ عقوباتِهِم، بخلافِ المسلمِ فإنَّ ما يُصيبُهُ في هذه الحياةِ الدُّنيا إنما هو كَفّارةٌ لذنوبِهِ وتمحيصٌ ةرِفْعةٌ لِدرجاتِه.
وقَالَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا» (رَوَاهُ مسلمٌ).
واللهُ سُبْحانَهُ وتعالى لا يَظْلِمُ مِثقَالَ حَبةٍ مِنْ خَرْدَلٍ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44].
وما يُصيبُ الناسُ مِنْ مَصائبَ وكوارِثَ وأمْرَاضٍ إنما هُوَ بِمَا كَسبتْ أيديهِم، وَهُوَ مُؤاخذةٌ لَهم بِبَعْضِ مَا كَسَبوا، قَالَ سُبحانَهُ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
________________________________________________________
الشيخ: عبدالرحمن بن عبدالله السحيم
- التصنيف:
- المصدر: