الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما أو للموت
عن عبدالله بن عباس أنه قال: كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، (وفي رواية للبخاري: وأعجبه حسنُها)، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: «نعم»، وذلك في حجة الوداع.
وللبخاري في رواية: «أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: إن أختي نذرت أن تحج وإنها ماتت...
تخريج الحديث:
الحديث أخرجه مسلم حديث (1334)، وأخرجه البخاري في "كتاب الحج"، "باب وجوب الحج وفضله"، حديث (1513)، وأخرجه أبو داود في "كتاب المناسك"، "باب الرجل يحج مع غيره"، حديث (1809)، وأخرجه النسائي في "كتاب مناسك الحج"، "باب الحج عن الميت الذي لم يحج"، حديث (2633)، وأخرج بنحوه ابن ماجه في "كتاب المناسك"، "باب الحج عن الحي إذا لم يستطع"، حديث (2909)، وأما رواية البخاري، فأخرجها البخاري في "كتاب الأيمان والنذور"، "باب من مات وعليه نذر"، حديث (6699).
شرح ألفاظ الحديث:
• (( رديف )): الرديف هو الراكب خلف الراكب، وهكذا الفضل - رضي الله عنه - فهو راكب خلف النبي - صلى الله عليه وسلم.
• (( من خثعم )): قبيلة قحطانية، يكثر تواجدها في البلدان على طريق الطائف إلى أبها.
• (( شيخًا كبيرًا )): (( شيخًا )) حال و(( كبيرًا )) صفة، وقولها: ((إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا))؛ أي: إن فريضة الحج أدركت أبي حيث أسلم وهو على هذه الصفة شيخ وكبير.
• (( أفأحج عنه؟)): أي أيجوز لي أن أنوب عنه فأحج عنه؟
من فوائد الحديث:
الفائدة الأولى: الحديث دليل على أن القادر على الحج بماله وعاجزًا ببدنه أنه ينيب من يحج عنه، ومثله من كان مريضًا مرضًا لا يرجى برؤه.
الفائدة الثانية: الحديث دليل على أن الاستطاعة ليست خاصة بالزاد والراحلة، وأن تعريف الاستطاعة بذلك تعريف فيه نظر، فالشيخ الكبير الذي في حديث الباب ليست مشكلته عدم وجود الزاد والراحلة، ومع ذلك أثبت له النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم غير المستطيع، وأما حديث أنس - رضي الله عنه - في قوله عزو جل: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، قيل: يا رسول الله، ما السبيل؟ «قال: الزاد والراحلة»؛ رواه الدارقطني والحاكم، فهو حديث ضعيف لا يثبت مرفوعًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - بل هو من مراسيل الحسن – رحمه الله.
قال ابن عبدالهادي -رحمه الله-: "الصواب عن قتادة عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا، وأما رفعه عن أنس فهو وهم"؛ [ انظر إرواء الغليل للألباني (4 / 161) ].
وقال السيوطي عن الإمام أحمد - رحمهما الله - أنه قال: "وليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء – رحمهما الله - فإنهما يأخذان عن كل أحد"؛ [ انظر تدريب الراوي (1 / 176) ].
والاستطاعة: هي إمكان الوصول إلى مشاعر الحج بلا مشقة عظيمة زائدة على مشقة السفر العادية، مع الأمن على النفس والمال.
الفائدة الثالثة: الحديث دليل على جواز حج المرأة عن الرجل، ورواية البخاري دلت على العكس، وهو جواز حج الرجل عن المرأة، ولا يستنيب إلا من حج عن نفسه أولًا، ثم يحج عن غيره، وبه قال جمهور العلماء.
الفائدة الرابعة: الحديث دليل على جواز الإرداف على الدابة إن كانت الدابة مطيقة لذلك، وتقدَّم بيان ذلك في حديث جابر الطويل - رضي الله عنه وعن أبيه - في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم.
الفائدة الخامسة: الحديث دليل على مشروعية الاستفتاء في المسائل الشرعية التي تشكل والرجوع إلى أهل العلم كما فعلت الخثعمية.
الفائدة السادسة: الحديث دليل على جواز استفتاء المرأة الرجل، وجواز سماع صوتها للحاجة إذا لم يخشَ بذلك فتنة بشرط ألا تخضع بالقول، كأن تلين كلامها أو تكسر صوتها، ونحو ذلك مما يثير شهوة الرجال؛ قال تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 32].
الفائدة السابعة: الحديث دليل على تحريم النظر إلى المرأة الأجنبية ووجوب غض البصر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صرف وجه الفضل - رضي الله عنه - إلى الشق الآخر، وتقدم في حديث جابر - رضي الله عنه - الكلام على هذا، وأنه من قبيل إنكار المنكر باليد، ولذا قال العيني - رحمه الله - في فوائد الحديث: (إزالة المنكر باليد)؛ [انظر عمدة القاري (8 / 403)].
الفائدة الثامنة: الحديث دليل على أن العاجز عن الحج ببدنه دون مال، لا يسقط عنه الحج وإنما يلزمه أن ينيب كما تقدم في الفائدة الأولى، ووجه ذلك أن الشيخ الكبير لم يعذره النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسقاط الحج عنه، بل أفتى المرأة أن تحج عن أبيها، وبناءً عليه نقول أن الاستطاعة على أربعة أقسام:
الأول: مستطيع بماله وبدنه، فهذا يجب عليه الحج على الفور بنفسه ولا ينيب.
والثاني: عاجز بماله وبدنه، فهذا يسقط عنه الحج.
والثالث: مستطيع ببدنه دون ماله، فهذا يجب عليه الحج بنفسه إن استطاع المشي والحصول على القوت الذي يحتاجه في الحج، كأن يكون من أهل مكة، ولا يشق عليه الخروج إلى المشاعر على قدميه، والتنقل بينها، وإلا فلا يجب.
والرابع: مستطيع بماله دون بدنه كالعاجز لمرض ونحوه، فهذا لا يخلو من حالين:-
الأولى: أن يُرجى زوال عجزه، فينتظر حتى يبرأ ويزول عجزه، ثم يحج بنفسه، وليس له أن يستنيب.
والثانية: ألا يرجى زوال عجزه؛ كالكبير والمريض الذي لا يرجى برؤه، فهذا يجب أن يستنيب من يحج عنه لحديث الباب، وبه قال جمهور العلماء.
عبد الله بن حمود الفريح
حاصل على درجة الدكتوراه من قسم الدعوة والثقافة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى، عام 1437هـ.
- التصنيف:
- المصدر: