ألا تسمعون ... ألا تسمعون؟!
أمّا باول شمتز الألماني، فيقول: "إن انتفاضة العالم الإسلامي صوت نذير لأوروبا، وهتاف يجوب آفاقها، يدعو إلى التجمع والتساند الأوربي لمواجهة هذا العملاق الإسلامي الذي بدأ يصحو وينفض النوم عن عينيه".
في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أنّ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قال: " «بَدَأَ الإِسلامُ غَريبًا، وَسَيَعُودُ غَريبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى للغُرَبَاءِ» " (رواه مسلم). وقد ذكر القاضي عياض: أنّ "ظاهر الحديث العموم، وأن الإسلام بدأ في آحاد الناس وقلة، ثم انتشر وظهر، ثم سيلحقه النقص والإخلال حتى لا يبقى إلا في آحاد، وقلة - أيضًا - كما بدأ".
ونلاحظ هذا المعنى عند غير واحد من علماء السلف كابن رجب الحنبلي، وابن قيم الجوزية، يقول ابن رجب: "قوله: «بَدَأَ الإسْلَامُ غَرِيبًا» يريد به أن الناس كانوا قبل مبعثه على ضلالة عامة". أمّا الأوزاعي فذكر أنّ المقصود هو ذهاب أهل السنة، حتى لا يبقى منهم في كل بلد إلا رجل واحد. لذا كان الحسن يقول لأصحابه: "يا أهل السنة، ترفقوا رحمكم الله، فإنكم من أقل الناس".
وكان يونس بن عبيد يقول: "ليس شيء أغرب من السنة، وأغرب منها مَنْ يعرفها". وقد كان سفيان الثوري يقول: "استوصوا بأهل السنة خيرًا، فإنهم غرباء". ومراد هؤلاء الأئمة بالسنة: طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي كان عليها هو وأصحابه، السالمة من كل الشبهات والشهوات، وهذا هو الإسلام الذي هو شِرعة الله – تعالى -.
وورد في بعض الروايات في تفسير الغرباء أنهم: «قوم صالحون، قليل في قوم سوء كثير، مَنْ يعصيهم أكثر ممن يطيعهم». وفي هذا إشارة إلى قلة عددهم، وقلة المستجيبين لهم، والقابلين منهم، وكثرة المخالفين لهم، والعاصين لهم. وهؤلاء الغرباء قسمان:
أحدهما: مَنْ يُصلح نفسه عند فساد الناس.
والثاني: مَنْ يُصلح ما أفسد الناس من السنة، وهو أعلى القسمين وهو أفضلهما.
يذكر ابن قيم الجوزية في تفسير قوله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} [هود: 116] أن هؤلاء هم الغرباء الذين قال فيهم الرسول – صلى الله عليه وسلم -: «الذين يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النّاسُ».
وغربة أهل الله وأهل سنة رسوله ظاهرة بين الخلق؛ لأنهم هم القابضون على الجمر حقًّا، فلِغُربتهم بين هذا الخلق يعدونهم أهل شذوذ وبدعة، ومفارقة للسواد الأعظم، وقد عاد الإسلام غريبًا كما بدأ، بل الإسلام الحق الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه اليوم أشد منه غربة في أول ظهوره. وكان السلف يُحسون هذه الغربة، يقول أحمد بن عاصم الأنطاكي: "إني أدركت من الأزمنة زمانًا عاد فيه الإسلام غريبًا كما بدأ".
أقول هذا الكلام، رغم أنّ المسلمين يمثلون حوالي 24.8 % من إجمالي عدد السكان في العالم، إلا أنّ الكثرة الكاثرة منهم كغثاء السيل، لا وزن لهم عند الأمم؛ فما من منطقة تتلظى بنيران الفتنة، وما من محجمة دم تُهراق في العالم إلا في أرض مسلمة، واستأسد الأعداء علينا في الفلبين وبورما وكشمير وتركستان الشرقية، وغيرها من أصقاع يقطنها أهل الإسلام، وأصبح كل ذئب خبيث يعوي في أرض الإسلام، والمسلمون لا بواكيّ لهم. أصبح الأعداء يديرون شأن المسلمين، ويتحكمون في سياساتهم، وينهبون مواردهم، وهم مشغولون بسفاسف الأمور، يتحكم فيهم سفهاء الأحلام، حدثاء الأسنان.
لذا أصبح المسلمون شَذَر مَذَر، بعد أن حكموا العالم قرابة ألف عام، في زمان ذاق فيه المسلمون طعم العزة، حتى خاطب الرشيد حاكم الروم بقوله: "بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه، والسلام".
وحين بلغ سليمان القانوني السلطان العثماني شيوع الرقص في فرنسا أرسل إلى ملك فرنسا يأمره بمنع الخلاعة والرقص؛ صيانة للمسلمين؛ فانصاع ملك فرنسا لأمره. ثم أضاعت "كريمان خالص" (ملكة جمال تركيا) مجد آبائها العظماء، وخرجت أمام العالم بالمايوه، ويومها قال رئيس اللجنة الأوربية: "فلتُرفع الأقداح تكريمًا لانتصار أوربا"!
كان للمسلمين الفضل الأوفى على النهضة الحضارية لأوربا (في زمن عزتهم)، يقول جوستاف لوبون: "استطاع العرب أن يحولوا إسبانيا ماديًّا وثقافيًّا في بضعة قرون، وأن يجعلوها على رأس جميع الممالك الأوربية؛ ولم يقتصر تحويل العرب لإسبانيا على هذين الأمرين، بل أثروا في أخلاق الناس أيضًا، فهم الذين علموا الشعوب النصرانية، وإن شئت فقل: حاولوا أن يعلموها التسامح، الذي هو أثمن صفات الإنسان. وبلغ حِلمُ عرب إسبانيا نحو الأهلين المغلوبين مبلغًا كانوا يسمحون به لأساقفتهم أن يعقدوا مؤتمراتهم الدينية، كمؤتمر إشبيلية النصراني الذي عقد في سنة 782م. ومؤتمر قرطبة النصراني الذي عقد في سنة 852م. وتعد كنائس النصارى التي بنوها أيام الحكم العربي من الأدلة على احترام العرب لمعتقدات الأمم التي خضعت لسلطانهم".
ويقول بريفو: "انتشر منهج العرب التجريبي في عصر بيكون، وتعلمه الناس في أوربا، تحدوهم إلى هذا رغبة مُلِحّة". بل أكد ليبري أنه "لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ، لتأخرت نهضة أوربا الحديثة عدة قرون".
هذا الكلام أُذَكّر به قومي؛ لاستعادة بعثهم الحضاري، واستفاقتهم من كبوتهم الحضارية بالتخلص من الاستبداد السياسي الذي ملأ أرجاء بلادهم من عملاء مدجنين، كما ينبغي عليهم الاعتصام بحبل الله، وإعادة مبدإ الجسد الواحد، مصداقًا لقول الله – تعالى -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران: 103). لا بدّ أن يصون أهل العلم علمهم عن الدنايا، قال ابن مسعود: "لو أن أهل العلم صانوا علمهم، ووضعوه عند أهله، لسادوا به أهل زمانهم، ولكنهم بذلوه لأهل الدنيا لينالوا به من دنياهم فهانوا على أهلها".
إن أمامنا عقبة كئود تتمثل في التغريب الفكري الذي لوث عقول بعض مفكري هذه الأمة المكلومة، فنحتاج إلى مواجهته بالصبر والمثابرة، التخلص من أسباب الترف الذي جعلها تركن إلى الدعة والاستكانة، وتتخلى عن دورها الحضاري، لا بد من الإعراض عن ظواهر الانغماس في "الترف" و"طغيان النساء" و"فسق الشباب"؛ فالبداوة والخشونة كانتا سببًا رئيسًا من أسباب انتصار المسلمين على أعدائهم (كما ذكر ابن خلدون)، فكانوا يحرصون على الموت في سبيل الله حرص أعدائهم على الحياة.
ينبغي ألا نهاب مواجهة الجراثيم الفكرية بكل حزم وعزم، ولنذكر ما قاله أبو الطيب المتنبي:
إذَا غَامَـرْتَ فِي شَرَفٍ مَّرُومِ ... فَلا تَقْنَعْ بِمَا دُونَ النُّجُومِ
فَطَعْمُ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ حَقٍيرٍ ... كَطَعْمِ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ عَظِيمِ
يَرَى الْجُبَنَـاءُ أنَّ الْعَجْزَ عَقْلٌ ... وَتِلْكَ خَدِيعَةُ الطَّبْعِ اللَّئيمِ
وَكُلُّ شَجَاعةٍ فِي الْمَرْءِ تُغْنِي ... وَلا مِثْلَ الشَّجَاعَةِ فِي الْحَكِيمِ
لا مناص من أن نأخذ بأسباب العلم الذي هو عدة لنا في مواجهة أعدائنا؛ لذا ذكر السعدي في تفسير قوله – تعالى -:{ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}(الأنفال: 60)) أن القوة العقلية من قبيل الإعداد؛ لمواجهة أعداء الملة. إن القرن الحادي والعشرين الملقب بقرن المعرفة لن يتوانى في سحق الكسالى ومحبي المباخر!
يا أمة (اقرأ) احرصوا على العلم الذي هو من أسباب البعث الحضاري، وقديمًا أطلق فرنسيس بيكون صيحة النذير العريان لقومه حين قال لهم: "المعرفة قوة". نحتاج إلى استنفار العلماء، وترشيد الوعي الثقافي لدى المسلمين.
حريٌّ بالمسلمين أن ينتزعوا من عقولهم "القابلية للاستعمار"، تلك الفكرة الكئيبة التي تركت ظلالها السيئة في نفوس أبناء العالم الإسلامي. إنّ الوَهْدة الحضارية التي يعانيها المسلمون جعلتهم يتخلفون عن الإسهام الحضاري منذ حَوالي خمسة قرون من الزمان في وقت تجد فيه بعض الشركات التي تمتلك أدوات الثقافة والمعرفة قد تتفوق ميزانيتها على ميزانية بعض الدول.
يحتاج المسلمون إلى إصلاح مؤسسات تكوين العلماء، وبذل المال الكثير، والجهد؛ من أجل تجديد الدرس المعرفي في مؤسسات العلم والمعرفة، بصورة تتواءم مع قيمنا ومبادئنا كمسلمين؛ لأن غياب دور المسلمين أدى إلى إيجاد فراغ في الواقع الإسلامي؛ مما أدى إلى امتداد الغزو الثقافي في هذا الفراغ، كما نوه بذلك الأستاذ الشيخ محمد الغزالي، وأصبحت حصوننا مهددة من الداخل، كما أشار الدكتور محمد محمد حسين. ولن تدرك الأمة خطورة الانحسار الحضاري لها إلا إذا وعى أفرادها الدرس التاريخي الذي يحفز الهمة، ويشحذها.
لقد نبه القرآن الكريم في مواضع كثيرة على أهمية التاريخ والاتعاظ بسننه، والتحذير من الغفلة عن عِبَره ودروسه، يقول الله – تعالى -: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (آل عمران: 137)
إن هذه المعرفة تجعل الأمة المسلمة تميز بين صديقها وعدوها، ويكفي أن نذكر تصريحًا لكارتر يبين فيه الحذر من استفاقة المسلمين من غفلتهم، يقول: "التهديد الوحيد الآن في أعقاب التراجع السوفيتي في الشرق الأوسط على المصالح الأمريكية هو الإسلام المتطرف، ولا يقتصر التهديد الإسلامي على المصالح الأمريكية فقط، بل يتجاوزها إلى تهديد الأنظمة العربية أيضًا، والولايات المتحدة لن تسمح بنشر ثورة إسلامية جديدة في زي دولة عربية من الدول ذات الأهمية الكبيرة".
أمّا باول شمتز الألماني، فيقول: "إن انتفاضة العالم الإسلامي صوت نذير لأوروبا، وهتاف يجوب آفاقها، يدعو إلى التجمع والتساند الأوربي لمواجهة هذا العملاق الإسلامي الذي بدأ يصحو وينفض النوم عن عينيه".
ويقول لورنس براون: "إذا اتَّحد المسلمون في إمبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطرًا، أو أمكن أن يصبحوا أيضًا نعمة له، أما إذا بقوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن ولا تأثير".
إن الغرب يسعى سعيًا حثيثًا لوأد أي فكرة للترابط والوحدة بين المسلمين، وذلك ببث بذور الفتنة بينهم، واصطناع الأزمات بين صفوفهم، والعاقل مَنْ لا يحرث في هوى عدوه.
وإن أنسى فلا أنسى خطورة الانهيار الخلقي في أمتنا والذي كان سببًا رئيسًا في تراجعنا عن ريادتنا للعالم، فأين هؤلاء الفاسدون المفسدون من قوله – صلى الله عليه وسلم -: " «إنَّ من أحبِّكم إليَّ وأقربِكم منِّي مجلسًا يومَ القيامةِ أحاسنُكم أخلاقًا، وإنَّ أبغضَكم إليَّ، وأبعدُكم مني يومَ القيامةِ الثَّرْثَارُونَ و المُتَشَدِّقُونَ والمُتَفَيْهِقونَ، قالوا: يا رسولَ اللهِ ما المتفيهقون؟ قال : المتكبِّرونَ» " (صحيح الجامع للألباني).
إن صيحتي هذه التي أوجهها إلى قومي هي صيحة النذير العريان التي رددها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: « «مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ، كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ: رَأَيْتُ الجَيْشَ بِعَيْنَيَّ، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ العُرْيَانُ، فَالنَّجَا النَّجَاءَ، فَأَطَاعَتْهُ طَائِفَةٌ فَأَدْلَجُوا عَلَى مَهْلِهِمْ فَنَجَوْا، وَكَذَّبَتْهُ طَائِفَةٌ فَصَبَّحَهُمُ الجَيْشُ فَاجْتَاحَهُمْ» » (رواه البخاري).
يقول النووي في شرحه على مسلم: "قَالَ الْعُلَمَاء: أَصْله أَنَّ الرَّجُل إِذَا أَرَادَ إِنْذَار قَوْمه وَإِعْلامهمْ بِمَا يُوجِبُ الْمَخَافَة نَزَعَ ثَوْبه، وَأَشَارَ بِهِ إِلَيْهِمْ إِذَا كَانَ بَعِيداً مِنْهُمْ لِيُخْبِرَهُمْ بِمَا دَهَمَهُمْ، وَأَكْثَر مَا يَفْعَلُ هَذَا رَبِيئَة الْقَوْم، وَهُوَ طَلِيعَتهمْ وَرَقِيبهمْ".
ياسر منير
دكتوراه مقارنة الأديان
كلية دار العلوم بالقاهرة
- التصنيف: