رسالة عتاب
على حد تعبير الذهبي، حين تحدث عن خشوع، وورع، وعبادة وكيع بن الجراح الرؤاسي - وكانت لهم مواقف مشهورة في الذَّوْدِ عن حِيَاض الإسلام
ورد عن ابن سيرين قوله: "ذهب العلم فلم يبقَ إلا غبراتٌ في أوعية سوء". فانظر – يا رعاك الله – هذه العبارة التي قالها التابعي الجليل في القرن الثاني الهجري، وهو من القرون الفاضلة؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم – من حديث ابن مسعود: " «خَيْرُ النّاس قَرْنِي، ثُمّ الّذِينَ يَلُونَهُم، ثُمّ الّذِينَ يَلُونَهُم» ، ..." (بإسناد صححه أحمد شاكر). وقد أدرك ثلاثين صحابيًّا، ورغم ذلك قال هذه العبارة، متمثّلاً قول لبيد بن ربيعة:
ذَهَبَ الَّذينَ يُعاشُ في أَكنافِهِم ... وَبَقيتُ في خَلفٍ كَجِلدِ الأَجرَبِ
ردد هذه العبارة رغم أن علماء السلف كانت أخبارهم في التَّنَسُّك يُخْضَعُ لها – على حد تعبير الذهبي، حين تحدث عن خشوع، وورع، وعبادة وكيع بن الجراح الرؤاسي - وكانت لهم مواقف مشهورة في الذَّوْدِ عن حِيَاض الإسلام، ومواجهة الملوك والأمراء، في عصر كان الإطار الديني ضرورة لكل تصرفات الحاكم؛ لتبرير تصرفات الحاكم، ومن هذه النماذج المشرفة:
- لمّا امتحن المأمون العباسي العلماء بفتنة خلق القرآن أمر إسحاق بن إبراهيم الطاهري أن يدعو عفان بن مسلم (ت 220هـ) إلى القول بخلق القرآن، فلما استدعاه قرأ: ﴿ {قل هو الله أحد} ﴾، حتى ختمها، فقال: "مخلوق هذا"، فهدده إسحاق بقطع راتبه - وهو خمسمائة درهم في الشهر -، فقال عفان: ﴿ {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} ﴾ (الذاريات: 22)، وخرج ولم يجب. فاستحق أن يقول عنه أبو حاتم الرازي: "عفان إمام ثقة متين متقن".
- حين أراد سلطان مصر سيف الدين قطز جمع الضرائب من العامة؛ لتجهيز الجيش لملاقاة التتار، تصدى له سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام (ت660هـ) رافضًا أخذ المال من الرعية إلا إذا نفد بيت المال، وتساوى الجند مع العامة في الملابس، عدا آلات الحرب، وباع رجال الدولة ما لهم من جواهر وأملاك، وأن يقتصر الجندي وقت القتال على فرسه ورمحه وسيفه.
- لما أراد السلطان الظاهر بيبرس جمع الضرائب من عامة الناس ودهمائهم؛ لمواجهة جيش التتار الذي هاجم بلاد الشام رفض الإمام النووي (ت676هـ) الإفتاء بجواز ذلك؛ فاستدعاه بيبرس لذلك، فأبى العالم الرباني إجابته إلى ما يريد؛ لأن بيبرس ومماليكه لهم الكثير من الأموال، فإذا نفدت تلك الأموال جاز له الأخذ من أموال الرعية، فغضب السلطان منه ونفاه لبلده نوى.
- عندما وافق الخليفة المستنجد بالله والقضاة على أخذ جزء من أموال الناس، وجزء من الأوقاف لصد شاه سوار، أنكر ذلك شيخ الإسلام أمين الدين الأنصاري الحنفي قائلاً: "لا يحل للسلطان أخذ أموال الناس إلا بوجه شرعي".
- أفرج المظفر بيبرس الجاشنكير عن ابن تيمية (ت728 هـ) من محبسه بالإسكندرية؛ ليأخذ مبايعته في خلع السلطان الناصر محمد، وقد أحضر كتابه بخط يد الناصر وعليها علامته وشهود على أن الناصر خلع نفسه، فرفض ابن تيمية قائلاً: "لا يجوز شهادة العبد على مولاه"؛ فأعاده المظفر إلى محبسه. ولم يجاهد ابن تيمية بقلمه ولسانه فقط، بل جاهد بسنانه أعداء الملة، فشارك في معركة شقحب الشهيرة، وأذهل الجميع بشجاعته وقوة بأسه، ومواقفه في مجالدة أعداء الملة كثيرة، لا يسعنا أن نسردها في هذا المقال السَّيَّار.
وإلى جانب جرأة علماء السلف في مواجهة جور السلطان كانت لهم جهود مشكورة في الذب عن عقيدة الأمة، والوقوف كالطَّوْد الشامخ ضد أهل الزَّيْغِ والضلال، ومن ذلك – على سبيل التمثيل - بيان فساد مذهب المرجئة، والتحذير منهم، يقول إمام أهل الشام الأوزاعي: "كان يحيى وقتادة يقولان: ليس من الأهواء شيء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء". وروى الذهبي عن محمد بن حميد، عن معيزة قال: "لم يزل في الناس بقية حتى دخل عمر بن مرة (ت 116هـ) في الإرجاء، فتهافت الناس فيه".
ولم يكتفِ علماء السلف ببيان فساد المرجئة، بل قاموا بمناظرتهم، وبيان تهافت فكرتهم وبطلانها؛ فقد روى الطبري عن سلام بن أبي مطيع قال: "سمعت أيوب، وعنده رجل من المرجئة، فجعل الرجل يقول: إنما هو الكفر، والإيمان، قال: فأقبل عليه أيوب، فقال: أرأيت قول الله: ﴿ {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} ﴾ (التوبة: 106)، أمؤمنون أم كفار؟ قال: فسكت الرجل، قال: فقال له أيوب: اذهب، فاقرأ القرآن؛ فكل آية في القرآن فيها ذكر النفاق فإني أخافها على نفسي".
وجاء رجل إلى ميمون بن مهران يخاصمه في الإرجاء، فبينما هما على ذلك إذ سمعا امرأة تغني، فقال ميمون: أين إيمان هذه من إيمان مريم بنت عمران؟ فانصرف الرجل، ولم يرد عليه". وذلك لأن أهل الإرجاء يرون إيمان العوام كإيمان الأصفياء والملائكة المقربين!
وإذا قارننا هذه المواقف بما نراه من بعض المنتسبين لأهل العلم في عالمنا المعاصر أحسسنا بالفرق الهائل والبَوْن الشاسع كأننا نقارن بين الثَّرَى والثُّرَيَّا، وشتان ما بينهما في الالتزام بقانون العلم الشرعي، والصَّدْع بالحقِّ، والوفاء بالميثاق الذي أخذه الله – تعالى – على أهل العلم في قوله – سبحانه -: ﴿ {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} ﴾ (آل عمران: 187). قَالَ قَتَادَةُ: "هَذَا مِيثَاقٌ أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ فَمَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيُعَلِّمْهُ، وَإِيَّاكُمْ وَكِتْمَانَ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ هَلَكَةٌ". ولما خالط الزهري السلاطين كتب إليه أخ له في الدين: "عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله ويرحمك: أصبحت شيخا كبيرا، وقد أثقلتك نعم الله بما فهمك الله من كتابه وعلمك من سنة نبيه، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء، ... واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت: أنك آنست وحشة الظالم، وسهلت سبيل الغي بدنوك ممن لم يؤدِ حقًّا".
أقولها – ونفسي تختلجها الهموم، مع محبتي الصادقة للعلماء الربانيين في هذه الأمة، والذين زُجّ بأكثرهم في غياهب السجون، أو اضطروا إلى الخروج من ديارهم، وأموالهم –: إنّ طائفة من المنتسبين للعلم اليوم لا يصلحون طلبة علم عند السلف؛ فمِنْ بائع دينه لأجل حفنة من دراهم، ومن باحث عن الفتاوى الشاذة التي ردّ عليها أهل العلم قديمًا وفنّدوها؛ ليداهن أهل الباطل، ويبرر لحاكم غشوم يُمَنِّيه لُعاعة من الدنيا، ناسيًا، أو متناسيًا - في غمرة هذا الاطمئنان - قوله تعالى: ﴿ {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} ﴾ (يونس: 24).
كما رأينا منهم المُخَادِن لأهل البدع، ولا ترى وُدّه إلا لهم، ومنهم مَنِ انشغل عن هموم الأمة بهموم نفسه، أو بالترف الذي لا يليق أبدًا بمَنْ يدّعي فَهْمًا في العلم، ونصرة للحقّ، ناسيًا قول عمر اليافي:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
ففيه دليلٌ عنه بالطبع تهتدي
ولا بدع في وفق الطباع إذا اقتدت
فكلّ قرينٍ بالمقارن يقتدي
وإن تصطحب قوماً فصاحب خيارهم
لتصبح في ثوب الكمالات مرتدي
وجانب قرين السوء يا صاح صحبةً
ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
ومنهم مَنِ ادّعى – كذبًا - أَنّ مخالطته لأهل الجَوْرِ والطغيان، وملاطفته لهم لمصلحة الدعوة، ونسي أنّ هؤلاء لا عهد لهم ولا وعد؛ إذ "كيف أعاودك، وهذا أثر فأسك"؟! ومنهم من التمس التبرير لخيانة الذين باعوا الأمة، وكانوا كما قال عمران بن حطان للحجاج: "كالنعامة الربداء تجفل من صفير الصافر"، ومنهم مَنِ انشغل بتعليم الناس بعض الأبواب الفقهية دون البعض؛ لضعف في نفسه عن مواجهة تَبِعات الدعوة والدفاع عن الإسلام، ونسي أن العبادة اسم جامع لكل يحبه الله من الأقوال، والأفعال، كما ذكر ابن تيمية، وتناسى أنّ علماء الأمة المبرزين تعرضوا جميعًا للمِحَنِ، لكنه يريد أن ينجو بنفسه، مع تحصيل الثناء من العوام. وإذا جابهته بأقواله الباطلة احمرّ أنفه غضبًا، وكأنك وضعته على السَّفُّود.
ومنهم منِ استعذب جلد الذات، دون أن يغير من أخطائه، وكأنه يردد مع أبي تمام: لا تَسقِني ماءَ المُلامِ فَإِنَّني .... صَبٌّ قَدِ اِستَعذَبتُ ماءَ بُكائي
ومنهم مَنْ رضي حياة الذُّلّ والهوان، مدعيًّا الحكمة والكياسة، مع أنّ لسان الحكمة يقول: لا تَسقِني ماءَ الحَياةِ بِذِلَّةٍ .... بَل فَاِسقِني بِالعِزِّ كَأسَ الحَنظَلِ
ومنهم مَنِ انتفش مزدهيًّا بالألقاب العلمية التي حصَّلها، كالهرّ يحكي صولة الأسد؛ فألقابه لا تعطي حقيقة مائه الآسن، ولا تتواءم مع ضحالة علمه، وإذا احتاجته الأمة إليه في نوازلها ما أخذت منه إلا سفسطة تنمُّ عن جهل مقرون بالغباء.
إلى هؤلاء العلماء جميعًا أتلو عليهم قوله – تعالى -:﴿ {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} ﴾ (هود: 113). يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: "يأمر تعالى رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة، وذلك من أكبر العون على النصر على الأعداء ومخالفة الأضداد، وينهى عن الطغيان وهو البغي، فإنه مصرعة حتى ولو كان على مشرك، وأعلم تعالى أنه بصير بأعمال العباد لا يغفل عن شيء ولا يخفى عليه شيء".
ياسر منير
دكتوراه مقارنة الأديان
كلية دار العلوم – جامعة القاهرة
- التصنيف: