وقفة تأملية في المطلوب الحقيقي من الفورة الحقوقية النسائية
ثم وللأسف بعد هذه التركة البيضاء تختار المرأة في إصرار وتحرر قاتل الارتماء في حضن من يريدونها بطحاء على المشاع
تخوض المنظمات النسائية معاركها الحقوقية متوهمة أو مُوهِمة الخائضين معها من غير تبيان، أو تحت سكرة وسلطان العاطفة، أن ركزها المطلبي هو دفاع حضاري من أجل الحرية في مقابل الاسترقاق، والعدل في مقابل الظلم، والتحرر في مقابل الاستغلال، والكرامة الأنوثية في مقابل الإذلال الذكوري، والمساواة في مواجهة الحيف والإقصاء، ولذلك لا يزال الصراخ من جهتها يأتي في لحن وجداني منغوم، يؤسس لسمفونية التباكي المتصل المسترسل في غير انقطاع، والمتنفل بغنمه كل حين وآخر في استزادة يصاحبها نهم لا حدود له، من دون احتمال كف أو إمساك في سياق تخمة مطالب وإشباع مكاسب.
ولا شك أن الحقيقة على الأرض هي على غير هذا التباكي، كما أن الواقع بعيد كل البعد على هذا الضعف الذي تنطلق منه المرأة الحقوقية، متذرعة به لتحقن في أوصال المجتمع الآمن المطمئن ذلك التقابل النشز والتضاد النكد واللغة الشجبية الآخذة في العربدة والاستصراخ بالآخر.
ولعل المتتبع للملف المطلبي النسائي في ثوبه الحقوقي والحداثي، سواء في بلادنا أو في بلاد غيرنا من البلدان العربية الإسلامية ـ من جهة أن الضرب والحرب قد اطرد حماء وطيسها واستوعب دوي وصلصلة رحاها جغرافيتنا برمتها ـ لابد له متى ما كان متجردا منصفا غير متحيّز لفئة، أن يعرف ذوقا وصدقا أن القضية في هذا المقام لا تخرج في طبيعتها التدافعية عن صبغة التقابل والتضاد، ولكن بين تصور حداثي لبرالي مطنب في الاستغراب، قد رهن ملف المرأة عنده ظانا أو متوهما أن قضية المرأة هي ثغرة وثلمة وشرخ حقوقي جاءت أحكام الإسلام حبلى بنقائصه، في مقابل تصوّر نصوصي إسلامي لموضوع المرأة وكيانها الذاتي والمعنوي داخل المجتمع المسلم، فلا يكاد يخفى اليوم أن كل الشعارات المحمولة على أكتاف الجمعيات والتكتلات المدنية النسائية والمكفولة بدعم إقليمي، هي شعارات مضامينها تذهب مذهب الانتصار للنموذج الغربي، بل تخضع نواصيها الأدبية والمفاهيمية عن طواعية لمنظومة القوانين الكونية واتفاقياتها الشاذة بغية إلباسها وإصباغها بطابع الإلزامية في سياق يكون لها فيه السمو والعلو على المنظومة الحقوقية والقانونية المحلية حتى ولو كان التأصيل لها هاهنا هو الوحي الإلهي متمثلا في الكتاب وصحيح السنة النبوية، وهذا ملحظ له وجوده، ولكن وللأسف قلما يلتفت إليه أو يُثار نقعه الساخن في هذا المناخ الذي يعلوه أنين المغلوبية والمظلومية كقربان له وقعه النفسي والاجتماعي كما له وزنه وحجمه في مقدمات الاستصراخ والاستشفاع، ومن ثم الضغط بواسطته طلبا ورغبا في النتائج المرجوة لهذا الحراك المحموم، وتخويفا وترهيبا من الوقوف حائلا بين هذه المقدمات ونتائجها المقصودة تبعا، أو حتى الاستدراك اللطيف والتوجيه الحنيف لذلك الحراك وسعيه غير المحمود، حراك وسعي حوَّل البلاد إلى حلبة صراع بين العباد، حتى صار الذكر أو صُيِّر خصما وعدوا مبينا للأنثى، نعم إنها مماحكات لا نبرئها من القصد المدخول، سيما وقد أفلحت إلى حد ما في تصيير العلاقة وتحويل قواعدها من التواد والتراحم والتساكن إلى التوجس خيفة من كل شيء، بل أخذت الجميع نحو وبناء معاقل الخصومة اللجوجة وتكريس فصامها النكد بين آيات الله في الأنفس وأزواجها.
أحيانا كثيرة أتأمل في سيرة هذا الركز النسائي في نسخته الحقوقية ذات التوجه الاستثنائي المحموم، محاولا فهم أو الوقوف على طبيعة علاقته وموقفه من قضايا ومشكلات وطنية محلية كبرى، كحقيقة الأرقام المتغوّلة من نسبة العنوسة، ثم أعطف قافلا على قضايا وملفات جرائم اغتصاب الصغيرات، بل والزج بأجسادهن البريئة في تجارة اللحوم المحنوذة فوق نيران الخنا ومطالب تقنين الدعارة واستحلالها تحت طائلة مسمى الحرية، ثم ما تلبث أن تلوح في الأفق عين الأرقام المتصوِّلة في ازدياد من حالات الطلاق التي راكمت ولا تزال تراكم كومة من الضحايا والملفات الاجتماعية ذات الطابع المأساوي، ثم أحاول أن أنشد داخل الرف المطلبي الحقوقي النسائي على ما يرد البصر من تعاط عادل منصف مع ملفات التعدد التي تمثل حالاتها القليلة شريحة من النساء اخترن وآثرن باقتناع وإمتاع أن يكن زوجات ثانيات أو ثالثات أو رابعات على أن يكن من المتخذات أخدان، ولم أكن أسمع بمعية من ألقى سمعه شاهدا لهن ركزا أو أجد سندا ودفاعا متقدما منهن عندما تكون المظلومة اختارت النقاب أو الحجاب ولم تخرج عن كونها مواطنة أو امرأة بالمفهوم الأنوثي، غير أنها التزمت ببعض عرى دينها الحنيف على مستوى الظاهر، فأخرجها هذا الانتساب الشعائري من دائرة الاهتمام والرعاية الحقوقية في لونها الحداثي...
ولا يشك عاقل أنها كلها ملفات ثقيلة الوزن خاشعة الأنين، لها قيمتها المادية ومكانتها المعنوية، بل تأتي في مقدمة الأولويات متى ما احترم الكمّ والكيف معا، وخلصت النيات وتوجهت الإرادات نحو إصلاح أدبي وأخلاقي وحقوقي، يعود على المرأة نفسها بالخير العميم والفضل العظيم، بل ينتقل فيه المجتمع من نقيصة الشركاء المتشاكسين فيه، إلى مزية المشاكلة والمجانسة التي تصنع قواعد الحياة الطيبة وتكفل لطرفي المجتمع الكرامة الإنسانية والعيش الرغيد...
إنني لا أكاد أطيل صنيع الوقوف والتأمل، حتى تتبيّن لي غلبة الخيط الأسود على الخيط الأبيض قبل فجر هذا الليل البهيم في جل المشاريع التي تتأبطها الحركة النسائية ببلادنا ومملكتنا الآمنة المطمئنة التي يأتيها رزقها بفضل الله رغدا من كل صوب ومكان، إنها حركات نسائية تكيل بمنطق التطفيف والإيمان ببعض القضايا والكفر بأخرى، مع أن هذه القضايا موضوع الإقصاء تظل من جنس الاختصاص في الاسم والمسمى، إذ لا فرق بغير مفرق كما القاعدة تنص وتقول، فهي إذا حركات ليست ضد غول الكراهية المسلط حبله على جيد كل النساء باطراد كما هو الزعم القائم في غير استراحة ولا جلوس، بل هي عند التفصيل والخروج من مأزق الإجمال حركات تنبعث منها هي نفسها الكراهية تجاه التصور الإسلامي ذي الرؤية الملتزمة بسقفها الأخلاقي وطقسها الرمزي الشعائري، ومن ثم تجاه الملتزمات بهذا التصور حتى وإن كن نساء فذلك لا يشفع ولا يقنع، وفق أدبيات وشروط وضوابط الطيف النسائي بمفهومه والتزاماته الحداثية الدخيلة في قضايا حقيقة التلبس بالإيمان الحداثي من عدمه.
وإنني لا أزال أتعجب من هذه الازدواجية التي آخت بين الشيء ونقيضه، ووالفت بين الموقف وضده، ففي الوقت الذي ترفع فيه بعض الجمعيات النسائية التي راكمت رصيدها المادي والمعنوي على أنقاض مآسي وكوارث أخلاقية تحت شعار "ما تقيش ولدي" عقيرة مدافعة ومحاربة ظاهرة اغتصاب الأطفال، نسجل لها في مفارقة عجيبة حضورها وإيقادها لسرج الحسرة وشموع التباكي في عتمة الاحتجاج وفاقع سواد مناهضة الأحكام القضائية، وعلى رأسها تفعيل مسطرة توقيع حكم الإعدام على هذه الوحوش البشرية وأدًا لخزي فِعالهم المشينة التي لا تجد لها مثيلا أو نظيرا حتى في صفوف القردة والخنازير وبهيمة الأنعام، يا للحسرة من وطأة هذه المفارقة التي تسجل فيها المرأة الحداثية حضورها القوي في ملف زواج الصغيرة، ثم تضرب صفحا فلا يكاد يُسمع لها ركزا في ملفات اغتصاب الصغيرة، اللهم همس هنا وهمس هناك، ومشي على استحياء وسعي على مضض وابتلاء، توقعه مخافة اللوم وسقوط القناع.
وكم يزيد عجبي وشديد استغرابي عندما أسمع أو يتناهي إلى سمعي أن هذا الفصيل الحقوقي النسائي يستعر في استهزاء من شريعة حمت كيان المرأة من إرداف النظرة الأولى نظرة ثانية، حيث جعلت الأولى له والثانية عليه، بل أحاطت هذا الكيان الفاضل الكريم بهالة من اللاءات والشروط التي تنأى بالمرأة عن مفهوم التبضيع والتسليع، لتجعلها شقيقة للرجل ونصفه الثاني في تلابس حميمي تغمره الرحمة والمودة، وتحميه الأوامر والنواهي النبوية، ويؤطره التواصي بالحق والصبر اللذين تبنى على قواعدهما الرصينة المفاهيم الصحيحة للحضارة والمدنية وفق ضوابط من أوجد وخلق جل في علاه.
ثم وللأسف بعد هذه التركة البيضاء تختار المرأة في إصرار وتحرر قاتل الارتماء في حضن من يريدونها بطحاء على المشاع، أو مقابل ثمن بخس يحبون أن يكونوا فيه "الثمن" من الزاهدين، واسمع لواحد من كومتهم وقد كتب مرة في ابتذال مهين مُلوّثا صفحة من صفحات كتابه "خطاب الهوية" ونعني به المتحرر والمفكر الحداثي اللبناني "علي حرب" قائلا ما يلي :" أتابع بشغف كرة المضرب...تستثيرك اللاعبة وهي ترفع تنورتها إلى أعلى فخدها لكي تثبت الكرة... وتقفز بثوبها القصير الذي يتقاصر مع الحركة على نحو يجعلك تتخيل ما تخفيه بين فخديها... أتابع مباريات ملكات الجمال وعروض الأزياء، ويدهشني الرقص على الجليد وأنا الآتي من حضارة الحجاب"
إنّها كلمات تختصر المنطق الذي يتعامل به الجوعى من المتداعين على قصعة الملف الحقوقي للمرأة، مستشفعين ببعض نوعها ممن يخضن بالوكالة غير المفوضة حربا ضروسا لتثبيت مشروع استرقاق قيمي وفجور أخلاقي، يمرر كل هذا تحت مائدة من المسوّغات التي ينشد المتسامرون حول معروضاتها الحداثية خلق تغيير لمنظومة القيم المحلية تضمن الاستقرار وتحدث توازنا بين الذكر والأنثى زعموا.
ولا أملك في الأخير إلى أن أنسخ على بدء متكرر، ثم ألصق في ذيل هذه العَبرات والتباريح ما كنت قد كتبته سابقا استشرافا للغلبة ونُشدانا للنجاة والسلامة، وثقة بوعد الله وتسليما لإرادته ومراده الكوني والشرعي في أرضه وعباده :
وإنني ما فتئت أطرد اليأس وأغالب ظنه المغالب المشاغب بيقين لطالما حدثني به الرجاء في الله وهو يهمس في قلبي قبل أذني ويتمثل لبصيرتي قبل بصري : «"ليقيمن الله سبحانه لرد هذا العدوان واستقباح غرائبه وفضح إقعاداته وإبطال سحره نساءً ربما كن اليوم وإلى الآن أو بعد الغد القريب في أصلاب آبائهن، ولكن الوعد من الله صادق في مجيء الأرحام المؤمنة الموحدة حبلى بهن على أمل محقق غير معلق في القريب غير البعيد إن شاء الله..."
والحمد لله الذي بنعمته تمت وتتم وستتم الصالحات.
محمد بوقنطار
محمد بوقنطار من مواليد مدينة سلا سنة 1971 خريج كلية الحقوق للموسم الدراسي 96 ـ97 الآن مشرف على قسم اللغة العربية بمجموعة مدارس خصوصية تسمى الأقصى.
- التصنيف: